بعد أيام ستبدأ سنة دراسية جديدة وسيعود طلابنا إلى مقاعد التعليم بداية من المرحلة الابتدائية ومرورًا بالمرحلة الإعدادية ووصولًا إلى المرحلة الثانوية، وإلى جانب ذلك سيعود صغارنا إلى حضاناتهم وإلى رياض طفولتهم، وستعود روح الحياة من جديد إلى كل المدارس والروضات والحضانات، وستضج بفرحة هؤلاء الأبناء الذين هم فلذات أكبادنا، وستزدان شوارع بلداتنا بأسرابهم وهي تتوجه إلى المدارس كأنها أسراب الطيور تتوجه إلى سواقي المياه لتروي ظمأها، وستكتحل عين كل أم من بيوتنا وهي تودع ابنها وقد حمل حقيبته على ظهره، وستدعو له من عميق قلبها، قائلة: الله يحفظك يا إبني.. رافقتك السلامة يا إبني، وستكتحل عين كل أب عندما يرى ابنه يمشي منتصب القامة ومرفوع الهامة، سائرًا نحو مدرسته.
ولكن ماذا عن غزة التي لا تزال تغرق في كارثة إنسانية منذ عشرة أشهر ويزيد؟!، وهل ستحظى باستقبال سنة دراسية جديدة؟!، وكيف ذلك وهي لا تزال تغرق في هذه الكارثة؟!، وهل بقي فيها أطفال أصلًا حتى يذهبوا إلى المدارس؟!
وهذه المعطيات الصادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة تقول لنا: إنه حتى تاريخ 2024/8/17، استشهد بغزة (16.456 شهيدًا من الأطفال)، وتقول لنا: إنه حتى هذا التاريخ هناك (17.000 طفل) يعيشون بدون والديهم، أو بدون أحدهم بغزة!!، وتقول لنا: إنه حتى هذا التاريخ هناك (3.500 طفل) مُعرضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء بغزة!!، إلى جانب عشرات آلاف الأطفال الجرحى أو المفقودين بغزة!!، وكأن هذه الأرقام تقول لنا: وهل بقي أطفال بغزة حتى تكون هناك سنة دراسية جديدة بغزة؟!، وحتى لو بقي أطفال بغزة فهل بقيت هناك أمهات بغزة حتى تفرح بهم؟!، وها هي الإحصائيات الحكومية الرسمية بغزة تقول لنا: إنه حتى تاريخ 2024/8/17، فقد استشهد بغزة (12.088 من النساء)، وإنه حتى هذا التاريخ هناك (60.000 سيدة) حامل مُعرضة للخطر لانعدام الرعاية الصحية!!
إلى جانب عشرات آلاف النساء الجرحى أو المفقودات بغزة، وهل ظل هناك مجتمع مُستقر آمن ينعم بالسكينة والطمأنينة حتى يحتفي بسنة دراسية جديدة بغزة، وها هي الإحصائيات الحكومية الرسمية بغزة تقول لنا: إنه حتى تاريخ 2024/8/17 هناك مليونا نازح بغزة!!، ويوم أن نقف على هذا الرقم نشعر كأن غزة كلها أصبحت نازحة!!، وهذا يعني أن هذين المليونين من النازحين باتوا بلا بيوت تؤويهم، وهذا يعني أنهم باتوا ينامون ليلهم ويمضون نهارهم في خيام التشريد البائسة المُحاصرة، التي ما عادت تقيهم حر صيف ولا برد شتاء، وفوق ذلك باتوا مُحاصرين بلا غذاء ولا دواء ولا ماء، وباتوا مُهددين بقصفهم في كل لحظة، حيث أنه ما عاد هناك أي شبر آمن بغزة!!
وهل لجائع قضّه الجوع حتى خطر الموت أن يفرح لسنة دراسية جديدة؟!، وهل لعطشان أنهكه العطش حتى شرب من ماء البحر مضطرًا أن تغمره السعادة لمشهد المدارس وهي تفتح أبوابها من جديد؟!، وهل لمريض بات بين الحياة والموت لأنه ممنوع من الأدوية وقد يُدركه الموت في كل لحظة، هل له أن يستبشر بعودة الأبناء إلى حرم تعليمهم، وها هي الإحصائيات الحكومية الرسمية بغزة تقول لنا: إنه حتى تاريخ 2024/8/17 هناك (350.000 مريض) مُزمن في خطر بسبب منع إدخال الأدوية، ومما يُفاقم من هذه الكارثة التعليمية بغزة أن معظم المدارس بغزة قد وقع عليها الدمار الكُلي ولم يبق منها حجر على حجر أو وقع عليها الدمار الجزئي ولم يبق منها صف واحد قابل أن يستقبل طالبًا واحدًا، وما يُشير إلى ذلك أن الإحصائيات الحكومية الرسمية بغزة تقول لنا: إنه حتى تاريخ 2024/8/17، فقد وقع الدمار الكُلي على (121 مدرسة وجامعة) بغزة!!، ووقع الدمار الجزئي على (333 مدرسة وجامعة) بغزة!!
فعن أي سنة دراسية جديدة يمكن أن نتحدث عنها بغزة ولم يبق بها الطالب الذي ينتظر بشوق سنة دراسته الجديدة ولم يبق بها الأم التي كانت تستعد فيما مضى منذ الفجر لإعداد ابنها كما يجب في يومه الأول من سنة دراسته الجديدة، ولم يبق بها المدرسة التي تفتح أبوابها باكرًا منذ اليوم الأول من السنة الدراسية الجديدة كأنها الأم تفتح ذراعيها لاحتضان أطفالها؟!، ولو تصورنا أن طالبًا بغزة أصر رغم هذه الظروف الكارثية أن يذهب إلى مدرسته في اليوم الأول من السنة الدراسية الجديدة فكيف سيذهبُ إلى مدرسته وقد بات يفترش الأرض ويلتحف السماء؟! وها هو الحصار يضيق عليه ولم يُبْق له حقيبة ولا قلمًا ولا كتابًا ولا دفترًا؟!، وهل كفكف هذا الطالب دموعه أصلًا بعد أن دفن أباه أو أمه أو أخاه أو بعد أن دفنهم جميعًا!!، هل كفكف دموعه حتى يُحسن رؤية المعلم أمامه، ورؤية اللوح على الحائط أمامه، ورؤية ما سيكتب له المعلم على هذا اللوح؟!، وهل بقيت شوارع مُعبدة توصله إلى مدرسته؟!، وهل بقيت طرق ترابية مُمهدة يمكن له أن يخطو عليها بأمان كيما يتنقل في حيه ما بين بيته ومدرسته ثم ما بين مدرسته وبيته طامعًا أن يعود حيًا إلى أمه سليم الجسم وسليم القدمين والرجلين؟! وماذا سيحمل على ظهره في مغامرته الخطرة طلبًا للعلم؟!، هل سيحمل ألواح أخشاب من بيته المُدمر ليكتب عليها أم سيحمل قطعة من ثوب أمه المفقودة أو أبيه المفقود ليرسم عليه؟!، أم سيحمل رقعة زجاج من شباكهم المُتناثر شظايا لينحت عليها يوميات للكارثة الإنسانية التي عاشها لحظة بلحظة بغزة؟!، وماذا سيحمل بيده هذا الطالب الذي افترضنا أنه لا يزال على قيد الحياة، ولا يزال مُصرًا على طلب العلم، هل سيحمل غصن زيتون ليكتب به بعد أن أضحت كل أقلامه سواء كانت حبرًا أو رصاصًا تحت رُكام بيته؟!، أم سيحمل بيده غصن تينة كانت خضراء وغضة الأفنان باسقة حتى رمتها طائرة بقنبلة فمسحتها عن الوجود ولم تبقِ منها إلا أشلاء متناثرة ابتعدت عن جذعها مئات الأمتار؟!
ولو افترضنا أنه تخطى كل هذه العوائق وأصر أن يقف في اليوم الأول من السنة الدراسية الجديدة عند أعتاب مدرسته أعزلًا وحيدًا فكيف سيجد مدرسته؟! هل سيجدها رجم حجارة وكثبان تراب تتصاعد منها النار والدُخان، وهذا جائز جدًا، أم سيجدها جدرانًا ساقطة ومُتصدعة تداعى بعضها فوق بعض، كأنها ضربها زلزال بقوة لم تعهدها الأرض منذ عصر الدينصورات؟! أم سيجدها لا تزال قائمة صامدة في وجه الزعازع والأنواء إلا أنه يعيش فيها بما في ذلك صفه آلاف المشردين بغزة!!، فماذا عساه أن يفعل وماذا عساه أن يقول لهم؟!، هل سيقول لهم: أخرجوا من مدرستي لأنني سأتعلم فيها منذ هذا اليوم الأول من السنة الدراسية الجديدة؟! أم سيقول لهم: أخرجوا من صفي لأنني بعد قليل سأجتمع مع أبناء صفي تحت سقفه وبين جدرانه؟!، وماذا سيُجيب هؤلاء المُشردين لو قالوا له: لا حرج سنخرج من مدرستك وسنفرغ لك صفك، ولكن قل لنا: أين نذهب وإلى أين نتجه وأين سنؤوي رُضّعنا وأين سنستر عورات نسائنا؟!، نعم ماذا سيجيبهم ومن بين هؤلاء المُشردين قد يكون أخاه أو جاره أو ابن مخيمه أو ابن حارته؟!، وإن لم يكن واحد من هؤلاء من بين هؤلاء المُشردين فسيكون منهم من هم من أبناء غزة وسائر مدنها وأريافها وبواديها؟!
لكل ذلك، ستحل السنة الدراسية الجديدة على غزة وستبقى هذه الأسئلة التي طرحتها تستصرخ كل ضمير حي في عالم بات يحتضر، وستبقى تصرخ في وجوه كل أهل الأرض قائلة لهم: ألا يحق لمن بقي من أطفال غزة أن يستعدوا فرحين ككل أطفال الدنيا لاستقبال السنة الدراسية الجديدة التي باتت على الأبواب.