المعاني التعبوية لاعتبار الضفة الغربية منطقة قتال رئيسية

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

قراءة في الموقف والدلالات

أولا ً : الموقف : 

منذ بدء عملية " طوفان الأقصى "  شن العدو ؛ وما زال سلسلة من الهجمات والاجتياحات لمدن وقرى الضفة الغربية ، كان آخرها وأعنفها ، وأطولها مدة ؛ ما بدأه من عملية عسكرية ، في تاريخ 28 08 2024 أطلق عليها اسم " المخيمات الصيفية " . حيث أطلق الجيش الإسرائيلي على الضفة الغربية بعد بدء هذه العملية  توصيف " منطقة عمليات رئيسية " ، بعد أن كان يطلق عليها " منطقة عمليات ثانوية " . تأتي هذه الورقة لتحلل الموقف ، لمعرفة ما يترتب على مثل هذه التوصيف من مقتضيات تعبوية وإجرائية ، حيث سنناقش هذه المسألة عبر مجموعة من العناوين ؛ بحيث نحرر في البداية  بعض المصطلحات المرتبطة بهذه المسألة ، ثم نعرج على أهم مقتضيات هذا التوصيف وما ينبني عليه تعبوياً ، على أن نختم هذه الورقة بالتطرق إلى أهم مقتضيات المواجهة المطلوبة لهذا التوصيف المستجد .    

ثانياً : تحرير المصطلحات : 

إن الهدف من تحرير المصطلحات وذكرها هنا هو : تجنب الوقوع  في مطب وذريعة الأفهام المتعددة ، أو ما يحلو للبعض تسميته بالمدارس والمذاهب العسكرية ، فما سنتطرق له من مصطلحات ومفاهيم ليس مرتبطاً بمدرسة أو مذهب عسكري معين ، وإنما هي مفاهيم تجد مصاديقها في كل المدراس والمذاهب العسكرية ، وهنا نفتح قوساً لنشير إلى أن جميع المذاهي العسكرية والمدراس القتالية يجمعها قواسم مشتركة ، تعد أصولاً في العمل العسكري ، حتى لو اختلفت التسميات ؛ فالمضامين واحدة ، فعلى سبيل المثال لا تجد مذهباً عسكريا أو مدرسة قتالية لا تقول أن أركان القائد العسكري يجب أن لا تخلو من الركن الأول وهو ركن العديد ، والركن الثاني وهو ركن المعلومات ، والركن الثالث وهو ركن العمليات ، والركن الرابع وهو ركن الدعم اللوجستي والإدري ، وتشرح جميع المذاهب العسكرية توصيفات وظيفية ، وتحدد مسؤوليات تنفيذية ، وصلاحيات إجرائية لهذه الأركان ؛ تكاد تشبه بعضها بعضاً ( سچروا ) القوس . وحيث أننا نتحدث عن توصيف لجغرافيات ؛ فإننا سنتحدث عن تصنيف الأرض في العرف العسكري ، حيث أن الجغرافيا في العرف العسكري لا تعدو واحدة من : 

  1. أرض محررة : 

باختصار ودون إطالة ؛ الأرض المحررة هي الجغرافيا التي تكون بعيدة عن مصادر التهديد المعادية ، وتبسط عليها الدولة أو الحركة سيادتها ، وتُعمل فيها قوانينها وإجراءاتها ، كما تُركز فيها معظم أصولها البشرية والمادية ، كما توفر هذه المنطقة الجغرافية لتلك الأجسام الهيكلية متطلبات تطوير الذات والقدرات ، وإدارة المعارك والصراعات . 

  1. أرض محتلة : 

وكون الشيء يعرف بضده ؛ فضد التحرير الاحتلال ، وعليه فإن الأرض المحتلة هي تلك الأرض التي تقع تحت سلطة وسيطرة  العدو ، السياسية والعسكرية ، وضمن شعاع تهديداته ، والتي لا يمكن للدولة أو الحركة أن تمارس فيها حكماً ، أو تبسط عليها سيادة ، كما يكون هدف تحريرها هو أهم أهداف الدولة أو الحركة التحررية  أو التظيم السياسي المقاوم ، وعلى رأس أولوياتهم . 

  1. أرض محاصرة : 

الأض المحاصرة ، هي جزء من إقليم الدولة ، أو مسرح العمليات ، أو مناطق القتال ، تقع تحت السيطرة البصرية والنارية لوسائط العدو القتالية ، بحيث تقيد حركة ونشاط قاطني هذه المناطق أو الجغرافيات ، وتهدد هذه الوسائط وجودهم ، كما أن العدو يستفيد من حصاره لها في الضغط على خصمه لحمله على الانصايع لإرادته ، وتلبية رغباته ـ العدو ـ . 

  1. رأس جسر : 

أما عن رؤوس الجسور ؛ فهي قطع جغرافية تتسع لتشكيل أو وحدة قتالية ذات استعداد معين ، الهدف منها ـ الأرض ـ تأمين موطئ قدم أولي تضع فيه القوات أقدامها ضمن محور تقدم قتالي معين ، ثم تبدأ بتوسيع وضعيتها ، لتحقيق أهدافها ، إنطلاقاً من رأس الجسر هذا . 

هذا في التوصيف الكلي للأرض  والجغرافيا ، ويلحق بهذا التوصيف توصيفٌ وظيفي آخر للجغرافيا ، أو لجزء منها ، مرتبط هذا التوصيف بطبيعة الفعل العسكري المنوي القيام به في هذا الحيز المكاني ، عندها يمكن أن توصف الجغرافيا على أنها : 

  1. منطقة عمليات رئيسية ، أو ما يعرف منطقة الجهد الرئيسي :

وهي منطقة القتال التي تتجميع فيها أهداف العملية العسكرية ، أو ينتشر فيها التهديد المطلوب كبحه والتعامل معه ، بحيث تخصص لها كامل القدرات ؛ حيث يشكل تحقيق الأهداف فيها ؛ تحقيقاً لأصل الهدف من العملية العسكرية الدائرة راحها . وهو ما ينطبق على مناطق شمال الضفة الغربية في عملية العدو المسماة "مخيمات صيفية " ؛ خاصة محافظة جنين .   

  1. منطقة عمليات ثانوية ، أو ما يعرف بمنطقة الجهد الثانوي : 

هي منطقة عمليات الهدف منها فتح اشتباك مع العدو بحيث يتم تشتيت قواته ، وصرف انتباهه عن منطقة عمليات الجهد الرئيسي ، حيث تُعّرف للعمليات الدائرة في مثل هذه المناطق أهدافاً قتالية تساعد في منح قوات الجهد الرئيسي الوقت المطلوب لإنجاز مهمتها ، بأسرع وقت وأقل الأكلاف . 

  1. منطقة عمليات خداعية ، أو ما يعرف بمنطقة الجهد الخداعي :

الهدف من العمليات في مناطق الجهد الخداعي هو تحقيق أصل المفاجأة بمستوييها العملياتي والإستراتيجي ـ بناء على حجم التشكيل العامل ـ ، بحيث يفاجأ العدو بوقت وزمان واتجاه العمليات الرئيسية ، في منطقة الجهد الرئيسي . 

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما قيل سابقاً من توصيف للأرض ، ومناطق العمليات ؛ قيل مختصراً  ، وبشكل مقتضب ، كون البحث في هذه العناوين بحث تخصصي يطول الحديث فيه ، ويحتاج إلى أصحاب اختاص ( لهضمه ) ومعرفة دلالاته ، وما ينبني على كل تعريف وتوصيف .  

ثالثاً : مقتضيات التوصيف : 

عندما يُطلق قائد التشكيل أو الوحدة المقاتلة على منطقة جغرافية ما صفة " منطقة عمليات رئيسية " ، فهذا يعني حكماً أن هذه المنطقة سوف : 

  1. تحشد وتعبئة كامل القدرات القتالية ؛ البشرية والمادية والإدارية للعمل فيها ، كما سيتم الاقتصاد بالقوة في مناطق ما ، من أجل تركيزها ـ القوة ـ في هذه المنطقة . 
  2. أن هذه المنطقة  تحوي الهدف أو الأهداف الرئسية للعملية العسكرية التي تدور رحاها ، وتقلب صفحاتها ، وتطوى مراحلها . 
  3. لتحقيق القائد هدفه من العملية العسكرية في أسرع الأوقات ، وأقل الأكلاف ؛ فانه سوف يعمد إلى تقسم جهود عمله في هذه المنطقة إلى  جهود ؛ رئيسية ، وثانوية ، وخداعية . ونحن نرى مصاديق هذا التقسم في مناورة العدو في مدن شمال الضفة الغربية بأوضح تجلياته . 
  4. وتحقيقاً للنقطة السابقة ، فإن قائد العملية العسكرية ، أو التشكيل القتالي سوف يخصص ما تحت إمرته من قدرات ، للتتناسب مع ما قسم من جهود ، فيعطي مناطق الجهد الرئيسي أفضل وأكثر القدرات ، دون أن يغفل عما يلزم مناطق الجهد الثانوي أو الخداعي من إمكانيات تساعد في تحقيق المهمات . 
  5. كما أن القائد سوف يقوم بتقسم قواته إلى ؛ قوات الواجب الرئيسي التي يُطلب منها تحقيق أصل هدف العملية العسكرية ، وقوات إحتياط عملياتي تسير خلف قوات الواجب الرئيسي ؛ تسد ثغراتها ، وتعزز قدراتها عند الحاجة ، وقوات احتياط مركزي أو ما يعرف باحتياط القيادة أو المقر ، يدفع بها قائد التشكيل حيث يقتضي الموقف . 
  6. وحيث أن جغرافيا العمليات تقسم إلى مناطق مسؤولية ؛ توزع على التشكيلات والقيادات ، فإن قائد التشكيل العامل في منطقة العمليات الرئيسية ، وبعد أن يعبئ ويشغل كامل ما لديه من قدرات ، فإنه ينسق مع المناطق المجاورة لمنطقة مسؤوليته ، للاستفادة من قدراتها في حال تطلب الموقف القتالي التدخل أو المشاركة . 

رابعاً : مقتضيات المواجهة : 

وحيث أننا نتحدث عن منطقة عمليات الضفة الغربية ، والتي تدور فيه ( معارك ) غير متكافئة بين العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا ، ومجاميع المقاومة المتناثرة في مدننا وقرانا ، فإنه لا بد من أجل التعامل الكفؤ مع هذا الموقف من : 

  1. معرفة الاتجاه العام للعمليات المعادية ، بحيث يعرف المقاومون ما هو الاتجاه العام لعمليات العدو ، وهذا ممكن من خلال مراقبة حشد العدو البري ، وإسناده الجوي ، ولكن ما هو أهم من هذا ؛ معرفتنا بما تخفيه مناطقنا من أهداف بشرية ومادية ، وتقييم العدو لهذه الأهداف ، فمجرد هذه المعرفة يعني أننا قادرون على معرفة نوايا العدو وتخمين حركته ومناورته واتجاه سيره . 
  2. معرفة مناطق الجهود المعادية ؛ الرئيسية ، والثانوية ، والخداعية ، وأيضاً هذا الأمر ممكن ومقدور عليه ، من خلال تطبيق القاعدة السابقة ـ مراقبة حشد العدو ، معرفة أهدافنا وأصولنا البشرية والمادية في منطقة العمليات ـ فإن واكب هذين الشرطين ـ المراقبة ، والمعرفة ـ جمع وتحليل وتقييم معلوماتيّ مواكب لعمل العدو وسابق له ؛ فإننا سنتمكن وبشكل كبير جداً من تحديد اتجاهات عمليات العدو ومناطق جهوده . 
  3. كما يجب العمل على تركيز القدرات ، لمواجهة جهود العدو الرئيسية ، وعدم بعثرتها في غير طائل ، أو نشرها بشكل خاطئ ، طبعاً هذا لا يعني تكدس المقاتلين في بقع جغرافية ضيقة ، بحيث يوقع العدو فيهم أكبر الخسائر بأقل الجهود ، وإنما المطلوب النشر المكاني للمقاتلين ، والتركيز الناري للوسائط . 
  4. كما يجب العمل على محاولة معرفة مناورة العدو وفكرتها ، وهذا يمكن من خلال دراسة عمليات العدو السابقة ، واستخلاص العبر منها ، ومعرفة الأرض معرفة جيدة ، وترقب مؤشرات وقرائن التحرك الميداني المعادي  للاستدلال على شكل المناورة والهدف منها . 
  5. الاحتفاظ باحتياط مركزي ، وهذا ليس أمراً مقتصراً على الجيوش النظامية فقط ؛ وإنما يمكن تطبيق هذا المبدأ على مجاميع المقاومة ؛ فلا يجب الدفع بكامل قدرات المقاومة البشرية والنارية للتصدي للعدو دفعة واحدة ؛ وإنما يجب خوض المعركة برأس بارد ، ونفس طويل ، واستثمار وتشغيل أمثل للقدرات والطاقات . 
  6. بناء (جهاز) دفاعي في عرض منطقة العمليات وطولها ، وهذا أمرٌ يتطلب العمل عليه بشكل مسبق قبل فتح نار المعركة ، وثوران غبارها ، يجب على المقاومين معرفة الأرض ودراستها من وجهة نظر عسكرية ، حتى يتمكنوا من الاستفادة منها وتوظيفها على أكمل وجه . 
  7. إدامة التماس المعلوماتي مع العدو ، كون التخطيط للعمليات على الورق وفي غرف الوضعيات ، يختلف عنه عند بدء التشغيل والمناورات ، لذلك فإن ما تراه متحركاً الآن ، قد يضطر للوقف لاحقاً ، وما تظنه سلساً في هذه المرحلة ؛ قد تعتريه صعوبات في المرحلة التالية ، الأمر الذي يعني أن تغيراً سوف يطرأ على حركات القوات ، واتجاه المناورات ، مما يتطلب ضرورة بقاء التماس المعلوماتي على العدو حاضراً في كل لحظة حتى لا نفاجأ ، ونؤتى على حين غرة . 

هذه بعض الأفكار ، والمفاهيم المرتبطة بتوصيف العدو لساحة الضفة الغربية على أنها ساحة عمل رئيسية ، بعد أن كانت ثانوية . ونختم لنقول أن ما قيل في هذه الورقة إنما هي أمور تخصصية فنية ، بحاجة إلى مسار طويل لمعرفة ما ينبني على كل مفهوم ومصطلح جئنا على ذكره ، وإنما خضنا في هذه ( المعمعة ) من باب تفتيح الأذهان ، وشحذ الهمم ، للتشمير للإعداد . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023