كان لافتاً للغاية خلال الأيام العشرة الأخيرة النمط التكتيكي الذي ينتهجه حزب الله في إطار مواجهته محاولات التقدم البري لجيش الاحتلال الصهيوني، هذا الهجوم الذي تشارك فيه خمس فرق قتالية من "جيش" الاحتلال، والتي تتجاوز على مستوى العديد أربعين ألف جندي، مسنودين بحملة قصف جوي ومدفعي هائلة، ومزودين بأحدث وسائل التكنولوجيا التي توصّل إليها العقل البشري، إلا أن هذا الهجوم، حتى كتابة هذا المقال، لم يحقق الأهداف المرسومة له، ولا النتائج المتوخاة من ورائه، وهو على الرغم من حملة الأكاذيب التي يروّجها الناطق باسم "جيش" العدو، والتي عدّ فيها العثور على "مطبخ " في قرية حدودية لبنانية إنجازاً مهماً، فإنه يعاني انتكاسات كبيرة، وخسائر فادحة، تحاول رقابة العدو العسكرية إخفاء معظمها حفاظاً على معنويات الجنود الذين عبّر كثيرون منهم عن سخطهم وإحباطهم، كما فعل مقاتلو وحدة "إيغوز"، والذين اشتكوا من قرارات قادتهم الجدد بعد أن سقط القادة السابقون قتلى وجرحى في كميني العديسة ومارون الراس النوعيين في بداية العملية البرية.
وكان مفاجئاً لجميع الخبراء والمختصين العسكريين الأسلوب الذي اعتمده مقاتلو الحزب في الأيام العشرة الأولى تحديداً من هذا الهجوم الواسع، إذ عمدوا إلى مواجهة قوات العدو، ولاسيّما من جنود فرق الاستطلاع، عند الحافة الأمامية للحدود مع فلسطين المحتلة، مع أن هذا الأمر كان يبدو مستبعَداً في ظل القصف الجوي والمدفعي المستمر منذ انطلاق جبهة الإسناد في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، واشتدت وتيرته بعد انطلاق العدوان الصهيوني الواسع على لبنان قبل عدّة أسابيع، وكان الجميع يتوقّع أن يعمد الحزب إلى الدفاع من قلب البلدات الحدودية وليس من أطرافها الأمامية، أو على أقل تقدير الاعتماد بشكل أكبر على الصواريخ المضادة للدروع والتي تُطلق من مسافات قد تصل في بعض الأحيان إلى عشرة كيلومترات.
في هذه المرحلة، وبناءً على المعطيات المتوافرة والتي من بينها إعلانات غرفة عمليات المقاومة في لبنان، والخسائر الفادحة التي لحقت بجنود الاحتلال كما حدث في أكثر من مكان في الشريط الحدودي الممتد لمسافة تزيد على مئة كيلومتر، يبدو أن الخطة الدفاعية لحزب الله اعتمدت على الدفاع الثابت، والذي يرتكز على قوات نظامية أكثر منها وحدات نخبوية وخاصة.
فيما يخص الدفاع الثابت، يجب أن نشير إلى بعض التفاصيل التي يمكن ان نستنتج من خلالها الهدف الذي أراد حزب الله تحقيقه، إذ إن هذا النوع من الدفاع يسعى لحفظ جغرافيا معينة بغض النظر عن مساحتها، وهو في حاجة إلى وجود الحد الأقصى من القدرة القتالية على تخومه الأمامية تحديداً، إلى جانب وحدات الإسناد في القطاعات الوسطى والخلفية من هذه الجغرافيا. في الدفاع الثابت، يتم توزيع القوات الموجودة إلى أربعة أجزاء رئيسة، تأتي في مقدمتها مجموعات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وهي تختص بتحديد قوة العدو المهاجمة، سواء كانت راجلة او محمولة، وأماكن تموضعها سواء قبل بدء الهجوم أو بعد انطلاقه.
الجزء الثاني هو قوات التأمين، والتي تهتم بتوفير مبدأي التأمين والإعاقة، ويُلقى على كاهلها مجموعة من الوظائف مثل إجراء ستار مضاد لفرق استطلاع العدو، والقيام بعمليات تمويه وخداع لحجب مكان الجهد الأساسي للقوة المدافعة، بالإضافة إلى تأخير قوات العدو قدر الإمكان من الوصول إلى منطقة العمليات الرئيسة، وأيضاً استنزاف قدرات العدو من خلال النيران بعيدة المدى، على نحو يساعد على خلخلة قواته، وإرباك خططه العملانية.
أما الجزء الثالث في خطة الدفاع الثابت فهو القوات المسؤولة عن منطقة العمليات الرئيسة، وهي تشمل الجزء الأكبر من القوات، والتي تعمل على إيقاف تقدّم العدو، ولاسيّما عندما يهاجم بأعداد كبيرة، ثم هزيمته وكسر زحفه وإرغامه على التراجع بعد تكبيده خسائر فادحة على مستوي العديد والإمكانات.
الجزء الرابع هو قوات الاحتياط، وهي تُستخدم عند الحاجة إلى القيام بهجمات مضادة، او إسناد جبهة ما تعرّضت لخرق معين، واسترداد زمام المبادرة في أماكن يمكن للعدو أن يحقق فيها نجاحاً ملحوظا.
كل ما سبق من مبادئ الدفاع الثابت شاهدناه ولمسناه في القتال الجاري عند الحدود الجنوبية للبنان، ويمكن ملاحظة هذا النسق غير المُتوقع بكل وضوح، وهو يشير، من دون أدنى شك، إلى أن حزب الله يثق تماماً بمقاتليه عند الحافة الأمامية، ولديه من القوات ما يؤهله للقيام بهذا النوع من الدفاع فترةً زمنيةً معينة حدّدها سلفاً، وهي تعتمد على مجموع الأهداف التي يريد الوصول إليها، سواء في هذه المساحة من الأرض، أو فيما يتعلّق بمجمل العملية العسكرية التي يخوض غمارها بكل ثبات واقتدار. > النشر والتحرير 2: في اليومين الأخيرين لاحظنا تغييراً وإن بدا طفيفاً فيما يتعلّق بالخطة الدفاعية لحزب الله، وهو كما يبدو نتاج تقدير موقف يتعلّق بسير العمليات، والأهداف المرجوّة من ورائها، بالإضافة إلى زج العدو بخمس فِرَق قتالية في مسرح العمليات المحتدم، بعد فشله في تحقيق أي إنجاز ذي قيمة منذ أكثر من أسبوعين. هذا التغيير يتعلّق بتطوير مستوى العمليات الدفاعية من مستواها الثابت، إلى المستويين المتحرّك والمرن في بعض المناطق الحدودية، ولاسيّما تلك التي تشهد محاولات مستمرة من جيش العدو للتوغل فيها ولو لمسافات قصيرة.
وفي هذا النوع من الدفاع تركّز القوات المدافعة "المقاومة" على إنزال الهزيمة بقوات العدو من خلال استدراجها إلى مواقع معَدّة مسبقا، ثم شن هجوم مضاد عليها وتدميرها بما يشمل تنفيذ عمليات أسر لجنود العدو، وكسر رأس حربة قواته المتقدّمة. في الدفاع المتحرّك تستخدم القوات المدافعة أغلبية القوات الموجودة لديها، والتي تسعى من خلالها لتنفيذ هجوم مضاد داخل الجغرافيا التي تدافع عنها وليس خارجها، وهي تستخدم من أجل ذلك قوة نيران كبيرة تفوق أو تتساوى مع قدرات العدو، مع تميزها بأفضلية الحركة والمناورة بالنار، والتي تُفقد العدو إحدى أهم مميزاته، بحيث يتحوّل من الهجوم إلى الدفاع، في جغرافيا لا يعرفها جيداً، وليس له أفضلية القتال في تضاريسها الصعبة والقاسية.
هناك عدّة حالات يفضَّل فيها اللجوء إلى الدفاع المتحرّك، منها أن تكون القوة المهاجمة أكبر من المدافعة، سواء على صعيد الأفراد أو القدرات العسكرية، وهذا يجعلها بطيئة وثقيلة الحركة، وهو ما يجعل الدفاع المتحرّك أكثر جدوى، بالإضافة إلى اتساع منطقة العمليات وصعوبة المحافظة عليها من خلال الدفاع الثابت، إلى جانب تقليص الخسائر في القوة المدافعة، وخصوصاً عندما يستخدم العدو قوة نيران كبيرة، وقنابل حارقة أو فسفورية، وهو ما يؤدي إلى خسائر هائلة في صفوف المدافعين في حال بقائهم في تموضعات ثابتة.
يمكن أن نقسّم الدفاع المتحرك إلى خمس مراحل، أُولاها تحقيق تماس مع قوات العدو، بحيث تصل القوة الضاربة للقوات المدافعة إلى أقرب مسافة ممكنة من قوات العدو. وفي هذه الحالة يتم تحييد القوة الجوية والمدفعية للعدو بشكل شبه كامل، إلى جانب تمكّن القوات المدافعة من تسديد ضربات حاسمة ومؤلمة إليها، وهو ما يُسمى في عرف المقاومة الالتحام المباشر. المرحلة الثانية هي تشتيت قوات العدو، وهو ما يعني فصل مقدّمة قوات العدو عن مؤخرتها، ومنعها من استقبال أي دعم لوجيستي من سائر القطاعات، إلى جانب تدمير مراكز القيادة والسيطرة التي تشرف على عملية الهجوم، وخصوصاً تلك الموجودة داخل منطقة العمليات أو عند أطرافها القريبة. ثالثة المراحل هي تثبيت العدو، وذلك من خلال السماح للقوات المهاجمة باختراق منطقة العمليات الرئيسة، ثم الإطباق عليها وضربها بكل قوة، إضافة إلى منعها من الانسحاب إلا بعد تكبيدها خسائر فادحة أو القضاء عليها نهائياً.
أما المرحلة الرابعة من مراحل الدفاع المتحرّك فهي المناورة، وهي تتلخّص في تراجع القوات المدافعة، ولاسيّما القوة الضاربة فيها إلى مناطق خلفية محمية وصالحة للانطلاق منها بسرعة وخفّة، وبمجرد أن تبدأ قوات العدو التوغّل داخل مسرح العمليات الرئيس يتم شن الهجوم المضاد بكامل القوات المتوافرة، وبمختلف الأسلحة التي في حوزتها، إذ إن أي إخفاق في هذا الهجوم قد يعرّض كامل القوات للخطر، وقد يسمح للعدو بالسيطرة على أماكن حسّاسة وحيوية يتحكم عبرها لاحقاً في كامل منطقة العمليات. خامسة المراحل وآخرها هي المطاردة، وهي تأتي بعد النجاح في المناورة الهجومية المضادة للقوات المدافعة، بحيث يتم استثمار هذا النجاح لمطاردة سائر القوات المهاجمة وإبادتها، أو من تمكن منها من الإفلات من الهجوم المضاد، مع الانتباه لضرورة إجراء تقويم موضوعي لنتائج الهجمات المضادة قبل الذهاب في اتجاه المطاردة تحسباً للوقوع في أخطاء قاتلة.
في كل حال، وبعد هذا الاستعراض المختصر لما نعتقد أنه يحاكي تماماً الخطة الدفاعية التي يعتمد عليها حزب الله في مواجهة محاولات التقدم الإسرائيلية، فإننا نعتقد أن ما جرى حتى اليوم من عمليات تصدٍّ على طول الحدود الفلسطينية اللبنانية، وما يمكن أن يتبعه خلال المرحلة المقبلة، عندما يتم تفعيل خطة الدفاع المتحرك والمرن بصورة شاملة، أمرٌ سيرسم من دون أدنى شك صورة النصر الحاسم والكامل لقوى المقاومة، وسيُسقط بالضربة القاضية كل أحلام نتنياهو وغالانت ومعهما كل حلفائهما وداعميهما.
هذه الضربة التي نثق تماماً بقرب حدوثها، ستعيد الأمور في الإقليم إلى نصابها، ولن تسمح لشذّاذ الآفاق في تل أبيب وواشنطن ولندن بتشكيل شرق أوسط جديد، لأن أمة المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وسوريا وإيران ما زالت بخير، وهي تملك كل الإمكانات للجم هذا الثور الهائج، وإعادته إلى حظيرته من جديد.