كل شيء يمكن تحجيمه أمام هذه الكارثة التي صنعناها

نير حسون

هآرتس

يسكن القدس نحو مليون نسمة، بينهم مئات الآلاف من الأطفال، ونحو 15,000 امرأة حامل، وعلى الأقل 100,000 من العجزة وذوي الحاجات الخاصة ومرضى السرطان والسكري وغير ذلك من الأمراض النفسية، كما الحال في كل مدينة كبيرة في العالم. والآن تخيلوا أن يتم إخراج جميع سكان القدس من بيوتهم، ونقْلهم إلى مدينة خيام إلى جانب البحر، وإضافة سكان تل أبيب وحيفا إلى مدينة الخيام هذه.

هذا هو حجم مدينة الخيام التي أقامتها إسرائيل في جنوب قطاع غزة في منطقة المواصي وخان يونس ورفح. وإلى هذا كله تضاف حقيقة أن الكثيرين منهم يعيشون في الخيام منذ عام تقريباً من دون غذاء كافٍ أو كهرباء أو ماء نظيف أو منظومة صرف صحي أو خصوصية، حتى إنهم بلا حائط يتكئون عليه. والآلاف منهم يعانون جرّاء جروح وبتر أطراف نتيجة القصف، فضلاً عن أمراض جلدية وتلوُث، وجميعهم تقريباً يعانون جرّاء الصدمة أو ما بعد الصدمة أو الفقدان، بالإضافة إلى أن كثيرين منهم يعانون جرّاء هذه الأمور كلها مجتمعة. والآن، لِنُضِفْ إلى هذا كله أيضاً الشتاء، والتغييرات المناخية في بلدنا، والتي تنعكس في المطر الكثيف على طول الشاطئ، ومنه المواصي.

وتدعي إسرائيل أنها تعمل وفقاً لقوانين الحرب، وللدقة، بحسب "قوانين النزاعات المسلحة" التي تسمح للجيش بنقل السكان المدنيين من مناطق القتال من أجل الامتناع من إلحاق الضرر بهم. لكن بحسب القانون الدولي، فإن هذا الإجلاء يمكن أن يحدث فقط شرطَ أن تتوفر في المكان الذي يُنقل إليه السكان إمكانات البقاء، ولا توجد في جنوب القطاع أوضاع تسمح بالبقاء.

وبحسب موقع منسق أعمال الحكومة - وهو الجهة المسؤولة عن الوضع الإنساني من طرف حكومة إسرائيل في غزة - فقد دخلت القطاع خلال شهر كانون أول/ديسمبر 3043 شاحنة مساعدات إنسانية فقط، ويُفترض بـ 1.7 مليون إنسان يعيشون هناك أن يتقاسموا الغذاء والدواء وغيرها من الأمور التي دخلت في 100 شاحنة تقريباً في اليوم الواحد.

إن الشعور السائد هو أن الحكومة ومنسق أعمالها في المناطق المحتلة لم يفهموا حتى يومنا هذا، ومع مرور عام و3 أشهر على الحرب، معنى منح 1.7 مليون إنسان الشروط اللازمة للبقاء. ويحب مكتب منسق أعمال الحكومة إجراء الحسابات ليقول إن الغذاء الذي يدخل كافٍ، على الرغم من أن الأرقام التي تصدُر عنه مشكوك فيها، لكن الأرقام ليست كل شيء؛ فدخول الشاحنة القطاع لا يعني بالضرورة وصولها إلى من هو في حاجة إليها، وكثير من هذه الشاحنات يُسرق على الطريق من جانب مسلحين يدعمهم الجيش، أو يتجاهل وجودهم بحسب ادعاءات العديد من المؤسسات الدولية.

وحتى لو نجت الشاحنة من السرقة، فكيف يمكن ضمان وصولها إلى من يحتاج إليها؟ كيف يمكن ضمان أن تصل المساعدات إلى الأطفال أو العائلات غير القادرة على الوصول أو كبار السن والأيتام؟ وهل كل ما يحتاجون إليه هو الغذاء؟

انظروا حولكم؛ ألا يحتاجون إلى سقف يُؤويهم في الشتاء والبرد؟ ألا يحتاجون إلى ملابس ملائمة، وأدوات طبخ، أو أدوات مكتبية لإدارة الملفات الطبية، ومستلزمات نظافة، وحفاضات، أو صرف صحي وماء وأضواء وأدوات حماية من البحر الهائج وآلاف الأدوات الأُخرى التي يحتاج إليها الإنسان، وبصورة خاصة النازح، من أجل النجاة في الشتاء والحرب؟ للقيام بهذا كله، يجب بناء منظومة ضخمة ذات موارد بشرية وقوات أمن مدنية لإدخال كميات كبيرة جداً من الغذاء والأدوات. والمجتمع الدولي يطالب إسرائيل منذ أكثر من عام بتوضيح كيف ترى مستقبل القطاع، لكن حكومة إسرائيل ترفض حتى مناقشة الموضوع، لذلك، لا توجد أيضاً أي سلطة يمكنها تحمُّل مسؤولية هذا كله.

حالياً، تدعي المؤسسات الدولية أن أفضل طريقة لحل جزء من المشكلة هي السماح للتجار من القطاع الخاص بإدخال البضائع إلى القطاع كما حدث خلال الصيف الماضي، لكن الجيش أيضاً يرفض هذه الخطوة بادعاء أن "حماس" تفرض ضرائب على القطاع الخاص.

لذلك، تدفع الحكومة أعداداً كبيرة من الغزيين النازحين في غزة إلى الموت من البرد والأمراض والجروح والانتحار والعنف الداخلي والتفكك الاجتماعي، من دون إدارة، وبالاعتماد على بعض المؤسسات الدولية التي تعمل في أوضاع صعبة جداً. وليس الأمر أن هذه الكارثة لن تحدث، إنما هو أنها تحدث فعلاً. وحتى كتابة هذه الأسطر، فقد تم تسجيل 5 حالات وفاة بسبب البرد في أوساط الأطفال في غزة، ودمهم على أيدينا.

وفي المقابل، فإن كثيراً من الإسرائيليين غير قلقين من هذا بتاتاً، إنما بالعكس، فإن بعضهم سعيد بموت أطفال غزة. انظروا إلى شبكات التواصل الاجتماعي؛ فبفضل التحريض الحكومي، و"القناة 14"، والإعلام الذي خان وظيفته بنقل الصورة عما يجري في غزة، فإن الرغبة في الانتقام لن تشبع كما يبدو حتى موت آخر سكانها.

 وهنا يجب تحذير الجمهور الإسرائيلي من الضرر الذي سيلحق بالحصانة الأخلاقية للدولة بسبب حظر السلاح إلينا والمقاطعة الأكاديمية والتجارية، ولأن رئيس حكومتنا بحسب القانون الدولي هو مجرم حرب هارب، ويمكن تذكيرهم بقوائم جنود الجيش التي تتبادلها المؤسسات المتعددة لمحاولة اعتقالهم في أحد المطارات.

لكن الكوارث كلها هذه التي يمكن أن تسقط فوق رأسنا ليست مهمة الآن، إنما هي هامشية في مقابل الكارثة التي تحدث الآن، ونحن من قام بها، بين خان يونس والمواصي.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023