ما يحدث في غزة وما سيأتي لاحقاً يوضح أنه انتصار مطلق لليمين المتطرف

عاموس هرئيل

هآرتس

أمس، كشف الجيش الإسرائيلي تفاصيل موسعة عن العملية المثيرة للخوف التي نفّذتها وحدة "شلداغ" في شمال سورية في أيلول/سبتمبر الماضي، والتي قامت خلالها بتفجير مصنع لإنتاج الصواريخ المتطورة، كان من المفترض أن تستخدمها إيران مع نظام الأسد. والعملية التي جرى التخطيط لها وقتاً طويلاً تدل على تطوّر قدرة إسرائيل على استخدام قوات خاصة في عمليات معقدة جداً، بعيداً عن حدود الدولة. ففي اليمن، تحولت الهجمات الجوية الإسرائيلية إلى أمر روتيني تقريباً، مع التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة، التي تقصف أهدافاً بشكل منفرد. ما يحدث في الساحات البعيدة يشير إلى ازدياد التركيز الإسرائيلي على احتمال أنه في وقت ما خلال هذا العام، وبالاتفاق المسبق مع إدارة ترامب، سيجري استهداف المواقع النووية في إيران.

رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، وقادة الجيش، يكثرون من الحديث عن الجبهات السبع التي تقاتل فيها الدولة، والتشديد على الإنجازات التي سُجلت مؤخراً في مواجهة المحور الإيراني، وخصوصاً في سورية ولبنان. لكن هذه الإنجازات لا تحل المشكلة الأساسية التي بدأت بسببها الحرب الإقليمية، أي في قطاع غزة، وبمفهوم أوسع، النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. حتى بعد الدمار والقتل اللذين ألحقهما الجيش الإسرائيلي بالقطاع، لم تختفِ تهديدات "مجزرة" 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وثمة شك كبير في استعادة كامل مكانة الردع الإسرائيلية في المنطقة. وبالإضافة إلى الجروح التي خلّفها ذلك اليوم، بقيت مشكلة المخطوفين، ومعها الجرح العميق المفتوح الذي كسر التضامن الداخلي في المجتمع الإسرائيلي.

عدد المخطوفين الذين ما زالوا في غزة 101، لكن الكلّ يعرف أن نصفهم ما زال في قيد الحياة. وبعد 3 أشهر من القتال في مخيم جباليا، والدمار الكامل للمستشفيات في المخيم والقتل الهائل، من الصعب الحديث عن استسلام استراتيجي لـ"حماس". المقاومة العسكرية للحركة ضعفت، وكفة الجيش الإسرائيلي هي الراجحة في كل الاشتباكات، ويتواصل الإجلاء القسري والعنيف للسكان المدنيين من كل الربع الشمالي من القطاع. لكن هذا كله لا يحقق النصر المطلق، ولا يدفع قدماً بصفقة مخطوفين (من المنتظر أن تُستأنف اليوم الاتصالات من أجل الصفقة في لقاء في قطر بين الوفد الإسرائيلي وبين مندوبين من الدول التي تقوم بالوساطة).

وكلما تضاءلت فرص التوصل إلى صفقة، كلما ازدادت الدعوات في المنظومة السياسية إلى توسيع العملية إلى مدينة غزة، جنوبي جباليا، بصورة تتطابق بشكل واضح مع خطة الجنرالات، الخطة التي ينفي رئيس الأركان وجود أيّ علاقة بها.

تفصل بين ضواحي جباليا الجنوبية وبين الأحياء الشمالية لمدينة غزة كيلومترات معدودة. وعلى الرغم من العملية العسكرية السابقة التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في مدينة غزة، فإن أبنية كثيرة لا تزال قائمة هناك. ويبلغ عدد المدنيين الذين بقوا هناك أكبر مما توقّعه الجيش الإسرائيلي في البداية، ويقارب الـ100 ألف شخص. يوجد بينهم آلاف من عناصر "حماس" الذين يعملون، في معظمهم، على المحافظة على السلطة المدنية، وعلى النظام العام، بينما يخطط آخرون للمواجهة المقبلة مع الجيش الإسرائيلي.

الشخصية الأساسية في غزة عز الدين حداد، الذي يتولى اليوم قيادة الذراع العسكرية في شمال القطاع، وهو الشخصية الرفيعة المستوى الوحيدة التي بقيت من قيادة الذراع العسكرية، إلى جانب محمد السنوار الذي يتولى منصباً مشابهاً في جنوب القطاع. وهذا الأسبوع، جرى تسريب أرقام من لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، هي حصيلة مراجعة استخباراتية قدمها الجيش، تفيد بأن لدى "حماس" في القطاع نحو 9000 "مخرب" ضمن إطار منظّم، فضلاً عن عدد مشابه، وينشط هؤلاء من دون هرمية تنظيمية. وتفوق وتيرة تجنيد ناشطين شباب في الذراع العسكرية، حالياً، الوتيرة التي يدمر فيها الجيش هذه الأطر. وبدأت أبواق نتنياهو بطرح فكرة في الخطاب العام، مفادها أن لا مفرّ من إعادة احتلال مدينة غزة.

هذا لا يجري صدفة. هناك احتمال لعملية جديدة هناك بعد جباليا، إذا انهارت الاتصالات بشأن الصفقة. كما أن قيادة المنطقة الجنوبية تضغط في هذا الاتجاه، وخصوصاً طاقم التخطيط فيها. يعمل العديد هناك، انطلاقاً من أيديولوجيا حردلية [أيديولوجيا الصهيونية الدينية] واضحة، بينهم كتائب الاحتياطيين. وبالنسبة إليهم، هناك فرصة سانحة، ليس فقط لإلحاق الهزيمة بحركة "حماس"، بل أيضاً لإقامة مستوطنات في القطاع من جديد وإغلاق الطريق أمام أيّ انسحاب مستقبلي. وعندما ينتقد وزير المال بتسلئيل سموتريتش رئيس الأركان هرتسي هليفي لرفضه الموافقة على العمليات التي قُدمت له هذا الأسبوع، فإن الوجهة  التي تهب فيها الرياح واضحة للجميع.

 وبالإضافة إلى توسيع العمليات الهجومية، هناك نقاش بشأن الحلول التي ستُفرض على القطاع، مثل حُكم مدني برعاية إسرائيل. والمقصود إقامة 4 مراكز لوجستية على شاطىء القطاع، يجري من خلالها توزيع المساعدات الإنسانية بواسطة مقاولين مدنيين، برقابة من الجيش الإسرائيلي. كما يجري فحص فكرة أن تقام في جباليا، وفي بلدات شمال القطاع، "تجمعات مغلقة" مراقبة، يُسمح للمدنيين الفلسطينيين بالعودة إليها مستقبلاً، لكنهم سيضطرون إلى الإقامة بالخيام، نظراً إلى عدم وجود مبانٍ صالحة للسكن. ويسيطر الجيش الإسرائيلي على الدخول والخروج من هذه المناطق.

أمّا بالنسبة إلى جنوب القطاع، فهناك خطة لدمج سكان محليين في الحكم من المتورطين جنائياً، ويجري البحث في ضمّهم إلى الإدارة، وفوقهم يأتي هؤلاء الذين لهم علاقة بالسلطة الفلسطينية، وبحركة "فتح". لكن من الواضح أن هذا سيجري فقط بعد دمار إضافي للحيز الحضري، وبعد إبعاد السكان وقتل المسلحين.

يجري الهمس في الغرف المغلقة بعبارة تقشعر لها الأبدان: تحويل غزة إلى تشيرنوبل. بعد عمليات التسرب التي حدثت في المفاعل النووي في تشيرنوبل في سنة 1986، حفر السوفيات بسرعة نفقاً، كان الهدف منه منع تسرُّب المواد المشعة إلى المياه الجوفية. وما يُدرس هنا هو ما يجب فعله في كل المنطقة الواقعة في شمالي وادي غزة، أي في ممر نتساريم. تدمير كثيف لكل البنى، تحت الأرض وفوقها. فقط بعد ذلك، يمكن البحث في إعادة السكان. متى سيحدث هذا؟ لا أحد يعرف.

يريد الرئيس المنتخب دونالد ترامب إعادة كل المخطوفين، وأحياناً، يدعو إلى إنهاء الحرب. لكن يزداد الانطباع أن نتنياهو ليس متحمساً للصفقة التي ستنطوي على تنازلات ثقيلة ومشكلات سياسية، بالنسبة إليه، ويفضّل المحافظة على الوضع القائم. الوزير المقرب منه رون ديرمر يعتقد أنه سيكون في الإمكان تحقيق هذه الحلول العدوانية، برعاية ترامب، وأن هذه الخطوات لن تردع السعودية عن التطبيع مع إسرائيل، وعن التدخل في التسويات في القطاع. لكن ثمة شك في أن توافق الرياض، مع استمرار القتل في غزة.  وبالإضافة إلى المشكلات الأخلاقية الصعبة التي تطرحها الخطة، فإن الضباط الذين يتطوعون للمشاركة فيها يجب أن يأخذوا في حسابهم أن يجدوا أنفسهم مستهدفين من المجتمع القانوني الدولي.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023