الإطار المفاهيمي وأهميته في توحيد الرؤى وحشد الطاقات

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً : توطئة : 

يزعم كاتب هذه السطور أن أحد أهم مصادر المشاكل والأزمات التي يقع فيها الانسان على صعيده الشخصي ، أو الوحدات السياسية ؛ الرسمية منها وغير الرسمية ؛ كالدول والأحزاب والحركات ، مصدر الأزمات والمشاكل ينبع من الاختلاف في تعريف المفاهيم والمصطلحات ودلالاتها ، خاصة تلك المرتبطة بالعلوم الإنسانية أو الاجتماعية ، كون مساحة الخلاف في العلوم التطبيقية تكاد تكون معدومة . ففي النوع الأول من العلوم ـ الإنسانية ـ تكاد تجد عشرات التعاريف لمفهوم التهديد وما ينتج عنه من مقتضيات ، وكذا مفهوم الحليف أو الخصم أو الدفاع أو الهجوم . إذن فاصل الخلاف : مقاصد لم تفهم ، ومفاهيم لم تقصد !! . وحيث أننا ما زلنا نعيش تداعيات حرب " طوفان الأقصى " وما تبعها من حرب على لبنان أطلقت عليها المقاومة الإسلامية في لبنان " حزب الله " اسم معركة " الحساب المفتوح " وفي رواية أخرى حرب "أولي البأس " وما نتج عنها من حمل ثقيل على مستوى التضحيات البشرية والمادية . كان اللافت أن العدو الإسرائيلي بدأ لجان تحقيقه وتدقيقه فيما حصل في غزة صبيحة السابع من أكتوبر 2023 بتشكيل لجنة من ضباط في هيئة الأركان لبحث الإطار المفاهيمي الذي كان في أذهان قادة المنطقة الجنوبية والذي ـ الإطار المفاهيمي ـ أسفر عن مفاجأتهم من قبل قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام ، مما أدى إلى انهيار الجهاز الدفاعي لفرقة غزة في ثلاث ساعات تقريباً ، كما أسقط خط المغتصبات الملاصق لحدود القطاع الشرقية ، مركزاً – العدو- على بحث مفهومين رئيسيين أديا إلى ( نعف ) فرقة غزة ، وهما مفهوما الدفاع ، والاستخبارات . وحيث أن هذه المقالة لن تدخل في تعاريف هذه المفاهيم ومتقتضياتها أو ما ينبني عليها ، كون هذا البحث ؛ بحثٌ تخصصي يطول الحديث حوله ، كما أنه ثقيل على غير أصحاب الاختصاص و (الكار) ، فإننا سنتطرق في هذه المقالة وبشكل سريع إلى أهمية توحيد المفاهيم ، وكيف تنعكس إيجاباً على توحيد الرؤى وحشد الطاقات ؛ إن تووفق عليها ، وسلباً إن اختلف الناس عليها أو حولها . لكننا سنبدأ بذكر تعريف سريع لمصطلح الـ " مفهوم " . 

          المفهوم هو : معنى أو فكرة عامة ، أو مجموع الصفات والخصائص الموضحة لمعنىً كلي هناك اختلاف حوله . وعليه فمجرد إطلاق صفة المفهوم على مصطلح ما ، يعني ارتباط هذا المفهوم بمجموعة من الصفات والخصائص تجعل جميع من سمع بالمصطلح أو المفهوم ، يتصورون شيئاً محدداً بمقتضيات محددة لا ولن يختلف عليه أو حوله ، عندها تقل مساحة الخلاف ، وتنعدم مصادر التشكيك والأزمات ، فإن قيل ماء مثلاً ؛ فسيفهم الجميع أن الحديث عن سائل لا لون ولا طعم ولا رائحه له ، يتجمد عند درجة حرارة صفر مئوية ، ويغلي عندما تصل درجة حرارته إلى المئة مئوية .

ثانياً : أهمية توحيد المفاهيم والمصطلحات : 

تبرز أهمية توحيد المفاهيم والمصطلحات من خلال ما يعكسه هذا ( التوحيد ) من آثار إيجابية على الموقف محل البحث ،  كون أهم ما ينتج عن التوافق على المفهوم هو : 

  1. توحيد الأفهام : 

الصدور عن فهم واحد ، وموحد غير حمّال لأوجه حول الموضوع محل البحث ، فالأنظمة الداخلية ، ولوائح نظم الأعمال  ومقرراته ، ودساتير الدول ، حتى لا يختلف على مضامينها ؛ ترى كُتّابها يضعون شروحاً مختصرة لبعض المفاهيم والمصطلحات التي يعتقدون أنها قد تكون محل خلاف ، أو تباين في وجهات النظر ، وكون هذه الوثائق من المراجع التي يُرجع لها عند الخلاف ، فلا يستقيم أن تتعدد فيها الرؤى ؛ لذلك توضع في مقدماتها شروح لتبيين وتحديد بعض المفاهيم الإشكالية أو الـ ( متشابهة ) ، فلا يُختلف عليها ، ولا يُتنازع حول دلالاتها . 

  1. تحديد المقتضيات :

وهو ما يعني أن المفهوم محل البحث لا يمكن أن يكون صحيحاً أو ذا مصداقية ما لم يتبعه ما يدل على صحته ؛ فأن تقول وطناً ، فهذا يعني جغرافيا ولغة وثقافة وبشراً ، وعاطفة تشدك إلى هذه الجغرافيا معروفة الحدود ، وبشرها الذين يقطنون حيزها ، وأن تقول دولة ؛ فهذا يعني سكان وجغرافيا ونظام سياسي ، لذلك فإن تحديد المقتضيات ، يساعد في رسم حدود المفاهيم والمصطلحات ، ويمنع نشوء الخلاف والنزاعات. 

  1. بناء الأطر والهيكليات :

        كما يساعد توحيد المفاهيم في عمليات بناء الأطر والهياكل ، فإن قيل أننا نريد أن نبني بيتاً من طابق واحد وغرفة واحدة ، فأول ما يتبادر إلى الذهن أن هذا الأمر يقتضي وجود أربع قواعد خرسانية ، يعتليها أربعة أعمدة باطونية ، بجدران أربعة وباب ونافذة أو نوافذ ، يسقفها سقف ، وما دون ذلك فلا بيت ولا غرفة . وكذا عندما نقول أننا نريد أن نؤسس شركة تجارية ، أو حركة سياسية ، أو حزب مقاوم ، ما لم يُحدد مقتضى كل واحد من هذه المفاهيم ، وما ينبني على المصطلح من مقتضيات ؛ فقد ندخل في نزاعات وخلافات ، تستهلك الوقت وتستنفد الجهود ، وتقضي على القدارت ، دون أن نحقق أصل الهدف الذي من أجله ( بنيت ) هذه الأطر ، وتلك الهيكليات. 

  1. طرق ومصادر تعبئة وحشد القدرات : 

ومن الأمور التي تستهلك الوقت ، وتستنفد الجهد ؛ البحث عن مصادر القدرة ــ البشرية منها والمادية ــ ، حيث يعود السبب في ذلك إلى عدم تعريف المفهوم أو المصطلح المراد حشد وتعبئة الطاقات لتحقيقه ، فإن تم التعريف الدقيق ، والتحديد الصحيح ؛ فإن تأمين ما يحقق الهدف سهل ومقدور عليه ، وإن تعذر التعريف ، تعذر الحشد والتأمين . فمثلاً إن كنا نتحدث عن طالب في الصف الأول الإبتدائي ، فإن مقتضى هذه التسمية أن يكون لديه ملابس موحدة معروفة المصدر ، وكتب وقرطاسية محددة المكان ، فضلاً عن جسم إداري معروف ( الأب ) و (الأم) يحقق بعد عام دراسي هدف تخرج هذا الطالب في هذا المستوى بنجاح . 

  1. ترتيب الأولويات : 

ومن أهم مستتبعات ونتائج التوافق على المفاهيم ،  وتوحيد المصطلحات ، والصدور عن فهم واحد لتعاريف المفهوم ومتقضياته هو القدرة على ترتيب الأولويات ، وتقديم الأهم على المهم ، وتجنب الخلاف الناتج عن التدافع الفطري بين البشر ،  والصراع الإداري بين الهياكل والإدارات . 

  1. تخصيص القدرات : 

وأهم ما ينتج عن ترتيب الأولويات الناتجة عن تعريف المفاهيم والمصطلحات والتوافق عليها ، إمكانية تخصيص القدرات ، فيعطى كل ذي حق حقه ، بلا زيادة ولا نقصان ، فينتفي الشقاق والنزاع المفضي إلى زوال البركة وذهاب ( الريح ) ، وتخلص المؤسسة أو الحركة الدولة من مقولة ( كل واحد بدير النار على قرصه ) .   

  1. إمكانية تصور العواقب والتبعات : 

من الأخطاء التي يقع فيها المسؤولون والقادة ؛ عدم تصور عواقب بعض القرارات وتبعاتها ، الأمر الناتج عن عدم المعرفة الحقيقية لكنه وماهيّة وحقيقة بعض المفاهيم التي يستخدمونها في تصدير قراراتهم أو توجيهاتهم ، فمفهوم الهجوم مثلاً أو الدفاع أو المناورة وغيرها من مصطلحات (الكار) في ذهن القائد غيرها في ذهن الجندي ، وهي عند ضابط العمليات لا تشبه ما هو في ذهن أو مخيلة ضابط المعلومات . بالمناسبة نعتقد أن أهم نقطة ضعف عند العدو في الجبهة الجنوبية ( غزة ) قبل السابع من أكتوبر 2023 تضارب وعدم وحدة فهم بين ضباط العمليات وضباط الاستخبارات فيما يخص مفهومي الدفاع والهجوم الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة ضباط المعلومات على تأمين الاحتياج المعلوماتي الحقيقي الذي يمكّن ضباط العمليات من تشخيص شكل هجوم المقاومة ، ونوع وشكل الجهاز الدفاعي المطلوب بناؤه لصد أي هجوم ممكن من المقاومة في غزة ، وفي هذا حديث يطول ، ليس هذا مكانه . 

  1. تعريف البيئات : 

كما أن ما يساعد على فهم بيئات العمل الداخلية والخارجية ؛ تعريف مجموعة من المفاهيم من قبيل ، العدو والصديق والخصم والحليف والمنافس ، ومن ثم التوافق عليها ، من قبل جميع المشاركين في ساحة العمل محل البحث . فمتى تُعد البيئة أو الشخص عدواً ، ومتى يوضع في مصاف الأصدقاء ؟ وكيف نميز بين الخصم والمنافس ، وماذا ينبني على هذا التمييز ؟ متى يعد الطرف المقابل حليفاً ومتى يقال عنه رفيق مرحلة ؟ كلها أمور يمكن الفصل فيها والبناء على مقتضاها ، إن تم تعريفها ـ المفاهيم ـ بشكل دقيق ومفصل ، وما دون ذلك فقد نقع في الخلط الذي سيحيل الموقف أشبه بـ ( طبيخ الشحادين ) لا يعرف أولٌ له من آخر !!             

  1. وضع الضوابط والسياسات ورسم الخطوط الحمر والمحددات  : 

وما ينبني على النقطة السابقة ، المبنية على النقاط التي سبقتها ؛ ما يعرف بالضوابط والسياسات الحاكمة للعمل في كل بيئة من البيئات ، والخطوط الحمر واجبة الرعاية ، والمحددات التي لا يجب تجاوزها ، وما يمكن التنازل عنه ، وما يجب سفك الدماء عند حدوده ، كلها مقتضيات ناتجة عن الفهم الصحيح والدقيق والمتفق عليه بين الشركاء والدخلاء في ساحة عمل واحدة ، أو موضوع عمل محدد . 

  1. تحميل المسؤوليات : 

نختم بأهم ما ينبني على تحديد المفاهيم من مقتضيات ، ألا وهو تحمل وتحميل المسؤوليات عند المراجعة والمتابعة والتقييم في نهاية الأعمال  والإجراءات ، فمقولة أن " النصر له ألف أب ، والهزيمة تولد يتيمة " (ينعفها) التأكد من وحدة المفاهيم لدى العاملين والمسؤولين ؛ عندها يظهر والد النصر ، و ( أبو ) الهزيمة . 

كانت هذه بعض الأفكار والملاحظات المرتبطة بأهمية توحيد المفاهيم والمصطلحات ، وبناء الأطر المفاهيمية لأي عمل نريد القيام به ، أو تكليف نريد أن نكلف به الآخرين ، ومن ثم التأكد من صحة فهم مقتضيات هذه المفاهيم وما ينبني عليها ، ليصدق فينا قول الشاعر القائل : 

قس لكل بمقاس علمه    وزن له بميزان فهمه

تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الانكار لاختلاف المعيار

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023