كل ما تعرضت له القضية من ضربات وتحديات خطيرة من الاستيطان وسياسة الضم وصفقة القرن وضياع القدس والانقسام لم يستثير الطبقة السياسية أو يحركها لمواجهة هذه التحديات. لم تتحرك الطبقة السياسية في غزة والضفة إلا بعد التطبيع الإماراتي البحريني مع إسرائيل وما صاحبه من تسريبات عن التهيئة لقيادة جديدة تتجاوز السلطتين في غزة والضفة وربما تحل محلهما.
تفاءلت شريحة من الشعب بعد الاجتماع الأول لقادة الفصائل في بيروت ورام الله في الثالث من سبتمبر الماضي ثم لقاء استنبول والدوحة، ونتمنى ألا تكون اللقاءات الأخير، إلا أن ها التفاؤل أخذ بالتراجع سريعا مع حالة الالتباس والغموض وأحيانا التناقض فيما يتعلق بالموعد التالي لاجتماع الأمناء العامين وبموعد الانتخابات وبالتوافق على القضايا الخلافية، وفي نفس الوقت فإن التصريحات الصادرة عن قيادات حمساوية والتي تُظهر تقربها من حركة فتح وكأنه تنازل من حماس لإنقاذ الرئيس أبو مازن والسلطة من مأزقهم، وتصريحات من قيادات فتحاوية تتحفظ بل وتشكك بالتحركات الأخيرة التي تصدَّرَها جبريل الرجوب وأهدفه من ذلك. كما أن غالبية الشعب إما أنها غير مهتمة ولا تأخذ مأخذ الجد هذا الحراك أو تتخوف من أن تؤدي الانتخابات القادمة، إن جرت في المواعيد المحددة، لإعادة إنتاج الفشل وكسب الوقت.
ما نخشاه أن يتم توظيف الخلافات المبالغ فيها مع الدول العربية وتنطع البعض من الطبقة السياسية الفلسطينية للظهور بمظهر الوطنية ليخفي عجزه وفشله وحسابات شخصية وحزبية ضيقة عند متصدري ملف المصالحة والانتخابات والمطالبة الشعبية لإجراء انتخابات عامة، لتمرير انتخابات شكلية تكرس وتُعيد إنتاج نفس النخب وتشرعن وجودها وتُطيل من عمرها الوظيفي، مع استمرار الانقسام وتداعياته الاجتماعية والاقتصادية المدمرة، واستمرار حالة العجز عن مواجهة الكيان الصهيوني.
نتمنى ألا يتم خذلان الشعب مرة أخرى كما نتمنى أن يتم تصويب العملية الانتخابية ليصبح هدفها استنهاض الحالة الوطنية كلها وليس التوافق على توزيع مناصب ومنافع السلطة. وتسلسل العملية الانتخابية كما تم التوافق عليه-تشريعية ثم رئاسية ثم مجلس وطني-لا تخلو من مكر سياسي ولا تخرج عن سياق استراتيجية الإلهاء وهذه المرة بتخطيط بعض النافذين في الطبقة السياسية.
من أجل تحصين العملية الانتخابية وحتى لا يكون التقارب الأخير مجرد ردة فعل انفعالية لتسكين حالة الغضب الشعبي، وهوجة لكسب الوقت في انتظار مخرجات الانتخابات الأمريكية بالنسبة لحركة فتح والسلطة، ومخرج لحركة حماس من مأزق وضعها في غزة ووصول خيار المقاومة لطريق مسدود، فإننا نطرح الملاحظات والتساؤلات التالية:
1- إن كان هناك خلل استراتيجي بنيوي و وظيفي في النظام السياسي، وإن كانت توجد إرادة حقيقية في التغيير، فإن المجلس التشريعي ليس هو العنوان الصحيح للتغيير، فموئل ومركز القرار السياسي ليس في المجلس التشريعي بل في المؤسسات التي تشكل الدولة العميقة وهي: اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح وديوان الرئاسة) في هذه المؤسسات يجب التغيير.
2- يجب تبديد انطباع يتعاظم عند قطاع متزايد من الشعب بأن كل ما جرى من شبهة مصالحة منذ لقاء بيروت-رام الله للأمناء العامين لا يعكس يقظة ضمير أو صحوة وطنية عند الأحزاب بل الخوف من فقدان السلطة والمكانة السياسية.
3- هل بالفعل حدثت مصالحة جديدة وبالتالي تم تجاوز اتفاقات المصالحة السابقة: القاهرة 2011، الدوحة 2012، القاهرة 2017، وما هي بنود اتفاق المصالحة الجديد؟.
4- الذهاب إلى الانتخابات تحت تأثير الخوف المُشار إليه دون الحد الأدنى من التوافق قد يكرر وبشكل أكثر مأساوية وخطورة ما جرى بعد انتخابات يناير 2006.
5- إن كان هناك جدية في تشكيل حكومة توافقية أو حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات وهذا ما يجب أن يكون، فمن الأولى أن يتم التوافق على القضايا الخلافية العالقة أو غالبيتها قبل الانتخابات حتى لا تكون هذه القضايا سبباً في فشل التوصل لحكومة وحدة وطنية-تكرار تجربة مصالحة مكة وانتخابات 2006-.
6- الحديث عن قائمة مشتركة أو تحالف انتخابي بين فتح وحماس أمر مثير للتساؤل، في مواجهة مَن سيكون هذا التحالف؟ يمكن فهم هذا التحالف لمواجهة منافس قادم مدعوم خارجيا، إلا أنه في نفس الوقت سيقطع الطريق على أي قوى جديدة ويكرس هيمنة نفس الطبقة السياسية سواء في الضفة أو قطاع غزة. مما يُفقد الانتخابات روحها ومغزاها الديمقراطي كآلية لتجديد الطبقة السياسية.
7- أن يتم الاتفاق على تسبيق الانتخابات التشريعية دون تحديد إن كانت لمجلس تشريعي لسلطة الحكم الذاتي أو للدولة الفلسطينية معناه استمرار الالتزام بواقع سلطة الحكم الذاتي وهو ما يتناقض مع تصريحات سابقة للقيادة بالتحرر من نهج وسلطة أوسلو والانتقال إلى مرحلة الدولة وأن الانتخابات ستكون لمجلس تشريعي للدولة الفلسطينية.
8- موافقة حركة حماس وبقية (فصائل المقاومة) على التراتبية المُشار إليها للانتخابات وإن كان تبدو ظاهرياً بأنها خطوة لتجسير الفجوة والتوصل لحلول وسط إلا أنه لا توجد ضمانات لاستمرار المسلسل الانتخابي ما دام لم يتم الحسم بالقضايا الخلافية وما دامت حركة حماس خارج منظمة التحرير، كما أن هذا التوافق يشي بأن كل الأطراف تلتزم وتتمسك بالسلطة الوطنية.
9- إن كان بالفعل هناك خطر وجودي يهدد كل القضية والشعب الفلسطيني في الداخل والخارج فالأجدر لمواجهة هذا الخطر توحيد كل الشعب من خلال إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وأن تبدأ الانتخابات بالمجلس الوطني، ومجلس وطني توحيدي يضم الجميع هو الذي سيشكل الحماية ومصدر قوة للسلطة الوطنية، إن كان هناك ضرورة وطنية لوجودها.
10- ما يثير القلق أيضاً عدم بروز أي تيار أو قوى جديدة مستعدة للانتخابات، وبالتالي فإن جرت الانتخابات بإشراف وتوجيه الطبقة السياسية القائمة فمن المؤكد أنها ستجدد شرعية هذه الطبقة دون حدوث أي تغيير في النظام السياسي وتوجهاته وستعود هذه الطبقة وهي أكثر قوة وبطشاً، وهنا تقع المسؤولية على القوى الوطنية خصوصا الشابة للاستعداد للانتخابات وكأنها ستحدث غداً.
لا نروم من كل ما سبق إثارة الشكوك وتبديد الأمل، ولكن، حتى لا تتحول الانتخابات التي يريدها الشعب كسفينة إنقاذ لإخراجه من حالة التيه والإحباط ومواجهة استراتيجية الإلهاء إلى ملهاة جديدة فإن المطلوب ليس مصالحة شكلية بين فتح وحماس (طرفي الانقسام) كما يحلو للبعض تسميتهم بل وحدة وطنية حقيقية وانتخابات تغير الوجوه والبرامج، فانتخابات لا تغير الطبقة السياسية لن يكون لها قيمة وستكون مجرد ملهاة جديدة للشعب كما هو الأمر مع تشكيل (القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية) التي ولِدت ميتة ولا يسمع بها أحد.