حركات المقاومة ونظريات الأمن القومي

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

مقدمة : 

كنا فيما مضى من السنين ــ عام 2021 ـ  قد كتبنا ورقتين حول مفهوم " الأمن القومي " الذي يعد الحفاظ عليه هو أصل الهدف من عمل الدول والوحدات السياسية المستقلة والمستقرة ، ثم أتبعناه بمقال آخر حول مفهوم " الأمن الحركي " وكيف تحافظ الحركات التحررية أو السياسية على أمنها ، فلا تُخترق ، ولا تُحرف عن مسارها ، ولا تحيد عن أهدافها ولا ( يلغوص ) في ( مصارينها ) . وفي تلك الورقتين عرّفنا كلا المفهومين ؛ فقلنا أن الأمن القومي هو عبارة عن مجموعة الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية التي تقوم بها الدولة أو الكيان السياسي من أجل تأمين مصالحه الحيوية ، التي تؤمن له ولمجموع أفراده ومكوناته المختلفة العيش الكريم ، كما تشمل الإجراءات التيتتخذ للدفاع عن تلك المصالح وحمايتها من أن يُطمع فيها أو أن يعتدى عليها . كما عرّفنا الأمن الحركي فقلنا أنه عبارة عن كامل الإجراءات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والنفسية التي تتخذها حركة سياسية أو تحررية لرعاية أصل التأمين الشامل ــ أمن الأفراد ، أمن الوثائق ، أمن المنشآت ـــ  الذي يوفر لها الديمومة وحرية الحركة ، والعمل في مختلف المجالات ، الموضوعية والجغرافية التي تنشط وتتحرك فيها. 

في هذه الورقة سنحاول وبشكل سريع ، ودون الخوض في التفاصيل ، التطرق إلى المدارس أو المذاهب التي تصوغ بناء عليها ، وإنطلاقاً منها الدول أمنها القومي ، فتشتق من هذه المذاهب وتلك المدارس والرؤى طرقاً وإجراءات وسياسات ، كما تضع ضوابط ومحددات لأمنها القومي ، ثم سنحاول أن نستخدم هذه المذاهب لتلمس كيف يمكن أن تحافظ الحركات التحررية أو السياسية على أمنها الحركي ، وكيف تدفع ما يهدد أمنها ( القومي ) . 

في البداية سنتطرق إلى المذاهب ، فنحرر المفاهيم ، آخذين بعين الاعتبار أن الأمن شعور نسبي يتحقيق عندما يحصل توازن بين التهديد والضرر ، فإذا رجحت كفة التهديد على حساب كفة الضرر ؛ فهذا يعني أن الكيان أو الجسم أمنه مُهدد ، أما إذا كان العكس ؛ فرجحت كفة الضرر على حساب التهديد ؛ بمعنى أن الضرر المتوقع من التهديد المتصور قليل ، فهذا يعني أن الأمن بخير والدنيا ( گمرة وربيع ) . 

نظريات الأمن القومي : 

تصوغ الدول والوحدات السياسية المستقلة والمستقرة أمنها القومي إنطلاقاً من أربع مذاهب أو مدارس عمل لا خامس لها ، وتحفظ أمنها إنطلاقاً من العمل بمقتضى ما تتبنى وتعتقد ، وهنا يُطلب من الجهة التي تريد أن تصوغ نظرية الأمن القومي للدولة أولاً : أن تحدد وتُعّرف وتَعرف نفسها ووضعها الداخلي ومحيطها الخارجي  بشكل دقيق ثانياً ، فإن لم يتم هذا التعريف ، وذاك التحديد بشكل دقيق ؛ فاعتسف اعتسافاً ، أو ارتجل ارتجالاً ، فإن ما يبنى عليه يمكن أن يسمى أي شيء ، إلّا أنه مذهب أو عقيدة أمن قومي لتلك الدولة أو الوحدة السياسية !! 

أما عن المذاهب والمنطلقات فهي على النحو الآتي :    

  1. محورية أو أصالة الضرر : 

المذهب أو المدرسة الأولى لصياغة نظرية " الأمن القومي " هي المدرسة التي تقوم على " محورية الضرر " . في هذا النوع من المذاهب ، لا تحرص الدولة على أن تصنع لنفسها أعداء ، ولا تصرف كثيراً من الوقت على تعريف التهديد أو المخاطر الناتجة عنه ، كونها ـ الدولة ـ تُقدّر أن لا تهديد قد يشخص لها ، ولا مخاطر قد تواجهها . لكن في نفس الوقت فإن القائمين عليها يحرصون على أن يمتلكوا من القدرات والخبرات والعلاقات ، ما يمكنهم من كبح جماح أي تهديد قد تسول له نفسه أن يعترض طريقهم ، فيحصنون أنفسهم ، ويرفعون مناعة ( جسمهم ) ليوم كريهة وسداد ثغر . وهنا تحرص الدولة على أن تغطي مكامن ضررها ، ونقاط ضعفها ، كما تحرص في نفس الوقت على أن تبقى على اطلاع دائم على مكامن ضرر أعادائها الفرضيين ونقاط ضعفهم . وتعد روسيا الاتحادية الحالية أهم مصداق لمثل هذه الدول والوحدات السياسية التي صاغت نظرية أمنها القومي بناء على محوري أو أصالة الضرر . 

  1. محورية أو أصلة التهديد : 

يتجلى مثل هذا المذهب ، وتجد له مصاديق في الدول الهشة ، الضعيفة ــ بغض النظر عن سبب الهشاشة أو الضعف ــ أكانت طبيعية مثل صغر مساحة ، أو فقدان لمصادر القوة وبواعثها . لكنها في نفس الوقت تملك من القدرات البشرية والمادية  ما يُمكّنها من العمل الاستباقي لضرب التهديد في مهده ، وعدم انتظاره للتعرض لها ، فتخرج للقضاء على التهديد قبل تبلوره ، وخروجه إلى حيز الفعل . مثل هذهالدول ، حتى تعمل بمقتضى هذه النظرية ؛ يجب أن تخرج هي استباقاً لضرب التهديد والقضاء عليه ، ولكن قبل ذلك يجب أن يكون هناك تهديد حقيقي يهدد مصالحها من أجل تبرير العمل الاستباقي الذي ستقوم به . ومن أهم مصاديق هذه المدرسة ، الكيان المؤقت المحتل لفلسطين . 

  1. محورية أو أصالة الفرص : 

هذه الدول تبني نظرية أمنها القومي إنطلاقاً من اقتناص الفرص ، فهي لا تعرف شكل التهديد ولا نطاقه ولا المخاطر الناتجة عنه ، إلا أنها تُحضّر نفسها ، وتحشد قوتها ، وتعبئ طاقاتها لتحويل أي تهديد يعترضها إلى فرصة ، فهي تملك من القدرات والعلاقات وهوامش الحركة وسعة الفكر والحيلة ، ما يُمكّنها من تحويل هذا التهديد إلى فرصة . فبعض الدول مثل السودان مثلاً يشكل فيضان النيل السنوي أهم تهديد تواجهه المدن والقرى الواقعة على ضفافه ، وإلى الآن لم يجدوا حلاً لهذه التهديد  ، ودولٌ أخرى حولت تهديد فيضانات الأنهار لديها إلى فرصة ؛ فبنت سدوداً على مجاريه ، مولدة طاقة كهربائية تُشغل مصانعها ، واستجرت منه أقنية ماء فروت اليابس من أراضيها ، فزرعت و( قلعت) ، فشبعت وأشبعت . ومثل هذه الدول تحرص أن لا يتحول تهديدها هي للدول الأخرى ، إلى فرصة تستغلها تلك الدول المهددة من طرفها . وتعد أمريكا من أهم الدول التي تحول التهديد إلى فرصة ، بل هي تصنع أزمات ، و ( تخلق ) تهديدات من أجل أن تولد منها فرص ، وتجني مكتسبات . 

  1. محورية أو أصلة الموقع :

هذا النوع من الدول أو الوحدات السياسية ، جعلها موقعها الجغرافي محل أطماع الآخرين ، فهي إما طريقٌ لهم نحو أهدافهم ، أو ضرورية لهم لحشد وتعبئة قدراتهم ، أو حائل بينهم وبين أعدائهم . وقد لا تملك هذه الدول ما يساعدها على كبح جماح التهديد والوقوف في وجه المخاطر الناتجة عنه . لذلك تحرص على أن تستفيد من فرصة أنها في دائرة التهديد ، للحصول على أفضل موقف ووضع ، تحافظ و / أو تدافع  من خلاله عن مصالحها القومية . ولنا في مخلوقات الله أفضل مثال لشرح هذه الصورة ، فالمحار الذي يحوي لؤلؤ ، هو عبارة عن مخلوق ناعم هش ، يحوي كمية من اللحم الطري التي لا تقوى على مواجهة أي تهديد ، كما أنه لا يهدد أحداً ، ولكنه وقع في مسار حبات الرمال التي تتحرك في قعر البحر ، فعندما تدخل في جوفه ذرة رمل مدببة الرؤوس ، حادة الأطراف ، فإنها ستؤذيه وتلحق الضرر به ، لذلك ودفاعاً عن نفسه يقوم بترشيح وفرز مادة من ذاته ، تلف حبة الرمل هذه فتغطي أطرافها الحادة ، ومع مرور الزمن ، تتحول ذرة الرمل هذه إلى حبة لؤلؤ غالية الثمن ، فترفع من قيمة تلك المحارة ، وتُضاعف ثمنها . الأمر المهم هنا هو أن تملك تلك المحارة ( إقرأ دولة ) تلك المادة التي تُحوّل الرمل إلى لؤلؤ . وهنا قد تكون هذه المادة ؛ ثقافة غنية ، أو تاريخ عريق ، أو منظومة قيم وأخلاق تحوّل هذا التهديد الوارد إلى فرصة ترفع من القيمة وتضاعف من الثمن . نعتقد أن أفغانستان من الدول المرشحة لكي تبني مذهبها للأمن القومي إنطلاقاً من محورية أو أصالة الموقع . 

ما ورد سابقاً كان في الحديث الأصولي حول مدارس ومذاهب الأمن القومي ، على أن نستكمل في مقال آخر محاولة اسقاط هذه المذاهب والمدارس على حركات المقاومة . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023