لتدهور العلاقات الرسمية الفلسطينية مع بعض الدول العربية وبرودها مع أخرى تداعيات خطيرة تتجاوز وقف تمويل السلطة والاتهامات المتبادلة والاعتراف بإسرائيل، وأخطر هذه التداعيات احتمال فقدان الحاضنة الشعبية العربية من خلال كي وعي الشعوب العربية تجاه فلسطين بل وتشويه ذاكرتها وخصوصا الجيل الجديد الذي يتأثر بالموقف الرسمي لدولته وتعتمد ثقافته وذاكرته السياسية على وسائل الإعلام وخصوصاً الفضائيات وقنوات التواصل الاجتماعي، والدول العربية المطبعة مع إسرائيل وذات العلاقة المتوترة مع السلطة ومنظمة التحرير – السعودية ومصر والإمارات-حوالي نصف القنوات الفضائية العربية.
هذه الفضائيات لم تعد تتناول أو تتحدث عن الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته لا في نشرات الأخبار ولا البرامج الثقافية ولا تستضيف محللين ومثقفين ومسؤولين فلسطينيين أو عرب مساندين لعدالة القضية، كما تراجعت بل واختفت فعاليات المجتمع المدني المساندة لفلسطين ليس فقط على مستوى المسيرات والمظاهرات والندوات التي كانت شبه يومية في المدن العربية بل أيضا من مناهج التعليم والبحث العلمي حيث كان يتم مناقشة عديد رسائل الماجستير والدكتوراه عن القضية الفلسطينية.
والأمر لا يتوقف على الغياب بل تمارس بعض الفضائيات سياسة التلفيق والكذب وتشويه التاريخ الفلسطيني من خلال الاستعانة بشخصيات إسرائيلية أو غربية موالية لإسرائيل وشخصيات عربية من الأكاديميين والمحللين السياسيين الذي يتحدثون وكأن بينهم وبين الفلسطينيين ثأر، وما يشجعهم على انتقاد الفلسطينيين بقسوة الإغراءات المالية التي تقدمها الفضائيات وفي سبيلها مستعدون لقول أي شيء يُرضي سياسة دولة الفضائية.
إذا أضفنا إلى ما سبق حالة الخوف والهلع عند الجاليات الفلسطينية المقيمة في الدول العربية وخصوصا الخليجية وهي حالة تدفعها للحد من أنشطتها المجتمعية والثقافية والتعبوية المساندة لفلسطين، وبطبيعة الحال لا تُلام الجاليات على هذا التصرف سواء كان للحفاظ على وظائفهم وأعمالهم ومحل إقامتهم أو لقناعة بصوابية موقف الدولة المضيفة لهم ورفضهم لموقف القيادة الفلسطينية.
أيضا الأمر ينطبق على السفارات الفلسطينية ودورها في التواصل مع أبناء الجالية والمؤسسات المدنية والرسمية في تلك البلدان، وبالأصل فإن نهج بعض هذه السفارات، حتى قبل توتر العلاقات مع الدول العربية كان سيئاً حيث كانت تتصرف مع أبناء الجالية وحتى مع أهالي البلاد باستعلاء وكأنها سفارة دولة عظمى وليس سفارة أو ممثلية لشعب يناضل من أجل الحرية والاستقلال.
كل ما سبق سيكون له تأثيرات استراتيجية خطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية، الأمر الذي يتطلب سرعة تصويب العلاقات العربية الفلسطينية شعبيا ورسميا ولا داع للمكابرة والمعاندة لأن التطبيع ليس مجرد تصرف انفعالي أو مجرد مراضاة للرئيس ترامب وبالتالي سيتم التراجع عنه في حالة فشل ترامب في الانتخابات أو خوفاً من الرفض والغضب الفلسطيني، بل تحولات قد تستمر طويلا ويتزايد عدد المطبعين.
الطبقة السياسية في الدول المطبعة أخيرا متهيئة للتطبيع ثقافيا واجتماعيا ونفسيا نتيجة تربيتها وثقافتها وشبكة مصالحها ونظرتها المستقبلية البراغماتية، كما أن هناك تحولات عميقة تجري في المنطقة العربية وفي العالم يجب لحظها والتوقف عندها بتمعن، أيضاً دور الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي يتعاظم يوماً بعد يوم ويجب عدم تجاهله بل يجب خوض معركته بخطاب نضالي عقلاني وواقعي وعدم الاكتفاء بالخطاب الإعلامي الرسمي البئيس كما يتمظهر في الفضائيات الفلسطينية وخطابات قادة الفصائل ومسؤولي السلطة.
قد يقول قائل إن الأنظمة العربية قصَّرت في حق الشعب الفلسطيني وتواطأت مع العدو الإسرائيلي وخضعت لابتزاز الرئيس ترامب وهي التي ناصبت كل الشعب الفلسطيني العداء وليس فقط القيادة من خلال التطبيع ووقف تمويل السلطة ومحاولتها صناعة قيادة جديدة تابعة لها ومتساوقة مع صفقة ترامب والسياسة الإسرائيلية الخ، ومع اتفاقنا في غالبية ما سبق ومع حرصنا على كرامة الشعب وقيادته ورفض أية وصاية عربية جديدة على الشعب الفلسطيني، إلا أن العقلانية والواقعية السياسية ترفض منطق معاداة كل نظام له رؤية وسياسة مختلفة وحتى معادية لنهج السلطة حتى لا يؤدي معاداة النظام إلى قطع التواصل مع الشعوب العربية، ولنا في نهج تعامل منظمة التحرير مع دولة الكيان الصهيوني والمجتمع الإسرائيلي أسوة، بالرغم من البون الشاسع ما بين الدول العربية والكيان الصهيوني وما بين الشعوب العربية الشقيقة والمجتمع الصهيوني اللقيط .
فبالرغم من كل ممارسات إسرائيل العدوانية والإرهابية ويمينية وفاشية المجتمع الإسرائيل فقد دعت منظمة التحرير منذ بداية السبعينيات إلى التواصل مع القوى والشخصيات اليهودية غير الصهيونية، وفي السنوات الأخيرة وفي خضم الإرهاب الصهيوني وتنكره لعملية التسوية السياسية فقد شكلت القيادة في ديسمبر 2012 لجنة لل
تواصل مع المجتمع الإسرائيل عسى ولعل أن يؤدي ذلك لاختراق في هذه المجتمع اليميني المعادي، انطلاقا من ذلك فالأولى والاجدر أن يبادر الرئيس أبو مازن لتشكيل لجان للتواصل مع الأنظمة والشعوب العربية التي ليست عدوة للشعب الفلسطيني وكانت وستبقى عمقنا وسندنا الاستراتيجي حتى وإن شابت شائبة العلاقة بين الطرفين.
عندما نطالب بتصويب العلاقة مع الشعوب العربية لا نقصد بذلك استقطاب شخص هنا أو هناك من السياسيين القدامى أو الصحفيين ليكتب منوها بالرئيس أبو مازن أو بالقيادة الفلسطينية بشكل عام، بل التواصل مع القوى المجتمعية الفاعلة والمؤثرة في مجتمعاتها، أولئك الذين لا يرومون مكسب مالي أو شهرة بل يعبرون عن عمق الانتماء والولاء لعدالة القضية، وهؤلاء نجدهم في القطاع العريض من الكًتاب والصحفيين والفنانين والمحامين والمعلمين وأساتذة الجامعات والنقابات العمالية الخ، هؤلاء الذين وقفوا وساندوا الثورة الفلسطينية لعقود وقدموا الشهداء وتعرضوا لمضايقات واعتقالات بسبب ولائهم ومساندتهم لعدالة القضية الفلسطينية.
هؤلاء لا يمكن للدبلوماسية الرسمية الفلسطينية بنهجها وشخوصها التواصل معهم أو اقناعهم بل يحتاجون لشخصيات وطنية ذات مصداقية ويُستحسن أن يكونوا من خارج ذوي المناصب الرسمية. مع أن رئيس الوزراء محمد اشتيه دعا مباشرة بعد توتر العلاقة مع دولة الإمارات لتصويب المسار مع الدول العربية إلا أننا لم نسمع عن أي تحرك في هذا السياق.