الثابت والمتغير في فكر حماس السياسي

بقلم: د.  رمضان عمر

منذ نشأتها، مثلت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أحد أبرز الفاعلين السياسيين والميدانيين في القضية الفلسطينية، لكن مسارها لم يكن خطًا مستقيمًا، بل عرف تحولات وتطورات تعكس طبيعة تعقيدات القضية الفلسطينية، وتقلبات الإقليم والعالم. وقد انتقلت حماس _ مع أواخر الثمانينات من القرن المنصرم _من كونها فرعًا من جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين يُعنى بالتربية والدعوة، إلى حركة مقاومة ثورية فاعلة، بل إلى لاعب مركزي في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وفاعل مؤثر في النظام السياسي الفلسطيني، بل وحتى الإقليمي.

من هنا تبرز أهمية تحليل "الثابت والمتغير" في فكر حماس السياسي، من حيث الأصول والمرجعيات، والعلاقات الإقليمية والدولية، ومواقفها من الصراع مع الاحتلال، وكذلك رؤيتها لدورها الداخلي الفلسطيني والعالمي.

أولاً: الثابت في فكر حماس السياسي

المرجعية الإسلامية كمنطلق أيديولوجي

رغم كل التحولات، لا تزال المرجعية الإسلامية تمثل الثابت الأيديولوجي في فكر حماس. فهي حركة إسلامية تؤمن بأن الإسلام هو المرجع الشامل لكل مناحي الحياة، ومنه تستمد رؤيتها للصراع، وهو ما أُعلن بوضوح في ميثاقها الأول عام 1988، وفي الوثيقة السياسية المعدلة عام 2017، رغم الفارق بينهما في اللغة والمضمون.

 فحماس_ في علاقتها بمحيطها الداخلي والخارجي_ لم تسعَ يومًا إلى توسيع دائرة الاشتباك أو خلق جبهات استنزاف مجانية. ورغم ما تعرضت له من تضييق وحصار وتجريم، سواء من أطراف قريبة أو بعيدة، ظلت ملتزمة بمحددات المعركة الكبرى، متجنبة الانجرار إلى صراعات جانبية تُستنزف فيها القضية وتُربك فيها البوصلة. لم تُبادر إلى الاشتباك إلا اضطرارًا، وفي حدود ما تفرضه ضرورات الدفاع أو مقتضيات الكرامة الوطنية. فقد فهمت الحركة مبكرًا أن عمقها الحقيقي لا يُبنى بالمواجهة مع محيطها، بل بإدارته بحكمة تحصّن المشروع وتمنع عزله. لذلك، فإن كل صدام خاضته خارج معركتها المركزية لم يكن خيارًا بل مفروضًا، وكل صمت مارسته لم يكن ضعفًا بل وعيًا استراتيجيًا بمسار الصراع وسقفه الأخلاقي والسياسي.

مركزية فلسطين والقدس

الثابت الآخر هو مركزية القضية الفلسطينية واعتبار تحريرها، وعلى رأسها القدس، هدفًا أسمى لا يمكن المساومة عليه. هذا الثابت ظل راسخًا حتى مع التحولات السياسية التي اقتضت التعامل بمرونة مع بعض المراحل، مثل القبول بدولة فلسطينية على حدود 1967، دون اعتراف بإسرائيل.

خيار المقاومة

منذ تأسيسها، طرحت حماس نفسها كحركة مقاومة مسلحة، ترى أن "الجهاد" هو الخيار الاستراتيجي في مواجهة الاحتلال، وهذا الخيار لم يتغير، بل تطور في وسائله ومستوياته، من العمليات الفردية في التسعينيات، إلى الصواريخ والأنفاق والتكتيك العسكري المنظم في حروب غزة، وصولًا إلى عملية "طوفان الأقصى" التي مثلت نقلة نوعية في تاريخ الصراع.

ثانياً: المتغير في فكر حماس السياسي

التحول من التنظيم الدعوي إلى الفاعل السياسي

في بداياتها، كانت حماس تركز على العمل الدعوي والتنظيمي، متأثرة بنموذج الإخوان المسلمين، لكن سرعان ما تطور هذا الدور بعد الانتفاضة الأولى، لتصبح فاعلًا ثوريًا ثم سياسيًا بعد مشاركتها في الانتخابات التشريعية عام 2006 وتشكيلها للحكومة، وتوليها حكم غزة في 2007. هذا التحول يعكس استعدادًا لمغادرة الأطر التنظيمية الإخوانية التقليدية نحو براغماتية سياسية جديدة.

تطور العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي

علاقة حماس بالإخوان المسلمين بدأت كصلة عضوية، لكن بمرور الزمن، خاصة بعد الانتفاضة الأولى ( 87) ،  ثم  بعد ذلك   بعد الربيع العربي، وخصوصًا بعد انقلاب مصر 2013، بدأت تتمايز شيئًا فشيئًا، لتتخذ الحركه مسافة محسوبة من التنظيم الأم، وتبني علاقات خاصة مع دول مثل قطر وتركيا، وهي دول لا تتبنى بالضرورة أجندة إخوانية تقليدية، لكنها تدعم حركات الإسلام السياسي في مقابل محور "التطبيع".

العلاقة المعقدة مع إيران والمحور الشيعي

أحد أبرز المتغيرات كان بناء علاقة استراتيجية مع إيران، رغم التباين المذهبي والسياسي، وهو ما يعكس واقعية حماس في التعامل مع أطراف تقدم لها الدعم العسكري والسياسي، خصوصًا في ظل غياب الدعم العربي الرسمي. وعلى الرغم من بعض التوترات (كما حدث بسبب الموقف من الثورة السورية)، إلا أن حماس عادت لتعزز هذا التحالف مع "محور المقاومة".

التكيّف مع العمل السياسي والمؤسساتي

التحول نحو العمل السياسي، والمشاركة في الانتخابات، وتشكيل الحكومة، وتعاملها مع فصائل فلسطينية مختلفة (بما فيها فتح) يعكس متغيرًا كبيرًا في الفكر السياسي الحمساوي، الذي بات يجمع بين العمل الثوري والمقاوم من جهة، والعمل السياسي المؤسساتي من جهة أخرى. هذا التوازن بين البندقية والمكتب السياسي، كان دومًا تحديًا، لكنه ميّز حماس عن سواها من الحركات.

ثالثاً: حماس والغرب... بين الالتباس والاضطراب

رؤية الغرب لحماس كانت ولا تزال إشكالية. فبينما تصنفها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كـ"حركة إرهابية"، فإن جزءًا من الرأي العام الغربي، ودوائر أكاديمية وإعلامية، بدأت ترى فيها حركة تحرر وطني. هذا الارتباك ناتج عن طبيعة حماس المركّبة: فهي إسلامية، مقاومة، غير تابعة لأي نظام، وذات نفوذ شعبي واسع.

وفي كل مرة تواجه حماس إسرائيل عسكريًا، يعود النقاش الغربي حول شرعيتها، خصوصًا في ظل صمودها وقدرتها على المناورة السياسية.

رابعاً: حماس والفلسطينيون... من التنظيم إلى النسيج الاجتماعي

أثبتت حماس قدرتها على التحول من مجرد تنظيم إلى حالة جماهيرية متجذرة في النسيج الاجتماعي الفلسطيني، حتى مع اختلاف الأيديولوجيا، فإنها اكتسبت احترام شرائح كبيرة من الشعب الفلسطيني، بفضل:

• ثباتها على خط المقاومة،

• نزاهتها النسبية في الإدارة مقارنة بغيرها،

• قدرتها على الصمود والتماسك،

• نجاحها في بناء مؤسسات في قطاع غزة رغم الحصار.

هذا ما جعل حتى خصومها السياسيين يلتقون معها في بعض المفاصل الوطنية.


خامساً: هل يمكن إنهاء حماس؟

بين التحدي والواقع

في ضوء حرب غزة الأخيرة، برزت دعوات غربية وإسرائيلية تتحدث عن "إنهاء حماس"، لكن مثل هذا الطرح يتجاهل حقيقة مركزية: حماس فكرة، لا مجرد تنظيم. وحتى إن تم إضعاف بنيتها العسكرية مؤقتًا، فإن حضورها الشعبي، وفكرها المقاوم، وتشكلها كبديل حقيقي للسلطة المتهالكة، يجعل من استئصالها أمرًا شبه مستحيل. غير أن الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن يكون عاطفيًا، بل تحليليًا، من خلال 4 أبعاد رئيسية:

العامل العسكري

رغم سنوات من الحملات العسكرية (من "الرصاص المصبوب" إلى "الطوفان")، لم تفلح إسرائيل في القضاء على حماس عسكريًا.
السبب:

• تطور أدوات القتال (أنفاق، صواريخ، طائرات مسيّرة)،

• دعم شعبي يجعلها تتحرك من قلب المجتمع،

• بنية تنظيمية لا مركزية وقيادة موزعة.

خلاصة: الاجتثاث العسكري الكامل شبه مستحيل، حتى لو تم إسقاط حكمها.

العامل السياسي

إسقاط حماس من الحكم نظريًا ممكن، لكن بشروط صعبة: وجود بديل وطني شرعي ومقنع للفلسطيني، دعم إقليمي موحد، غياب الفوضى الأمنية التي   ستتشكل بشكل لا يمكن ضبطه  فيما لو انتهت  حماس، وكلها شروط غير متوفرة حاليًا.

العامل الاجتماعي والفكري

حماس ليست مجرد ميليشيا، بل خطاب وأمل وتمثيل لتيار واسع من الفلسطينيين الذين يرون فيها بديلًا عن فشل مشروع التسوية.
إنهاء تأييدها الشعبي يستدعي مشروعًا وطنيًا بديلًا أكثر إقناعًا، وهو ما لم يظهر حتى الآن.

العامل الإقليمي والدولي

حماس جزء من شبكة دعم إقليمي (إيران، قطر، تركيا.....الخ). والحلم بمحوها كمن يحلم بتحويل السراب ماء 

فحماس ليست مجرد تنظيم؛ إنها حالة نضالية وفكرية وسياسية، يصعب اختزالها أو استئصالها، بل إن كل محاولة لإنهائها تدفعها لإعادة إنتاج ذاتها في شكل أقوى وأكثر تأثيرًا.

ومن الواضح أن حماس اليوم، ورغم ما تواجهه من تحديات، لا تزال تمثل أحد أبرز الفواعل السياسية والميدانية في الشرق الأوسط، إن لم تكن الأكثر تأثيرًا، في زمن تتآكل فيه الأنظمة، وتُعيد فيه الشعوب طرح سؤال التحرر من جديد.




جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025