مستقبل المقاومة الفلسطينية بعد وقف الحرب على غزة: تثبيت الفكرة وتحول الأدوات .

مطاع الأدهمي

كاتب سياسي

(تقدير موقف)


تمهيد السياق ما بعد الحرب

توقّف الحرب على غزة، إذا جاء في صيغة ترتيبات دائمة أو شبه دائمة، لن يكون نهاية لمرحلة بقدر ما سيكون اختبارًا حادًا لمستقبل مشروع المقاومة الفلسطينية بأبعاده الإسلامية والوطنية. فالحرب لم تُنتج هزيمة لروح المقاومة ولا قبولًا بالمعادلة الاحتلالية القائمة، بل عمّقت الإحساس الجمعي بأن الكيان الاستيطاني لا يزال يمارس نزعًا ممنهجًا للأرض والهوية والحقوق الأساسية. في هذا السياق، تصبح المسألة الجوهرية ليست ما إذا كانت المقاومة ستستمر، بل بأي شكل تنظيمي، وبأي أدوات، وتحت أي سقف سياسي وإستراتيجي.


ثوابت حاكمة لمستقبل المقاومة

هناك جملة من الثوابت تدفع باتجاه استمرار حضور المقاومة بوصفها خيارًا مركزيًا في الوعي الفلسطيني:

1. استمرار واقع الاحتلال والاستيطان والحصار والسيطرة على القدس والأسرى واللاجئين؛ أي بقاء أسباب الصراع في جوهرها بلا حل عادل.

2. تعمّق القناعة الشعبية، خاصة بعد الحروب على غزة، بأن الرهان الحصري على المسارات التفاوضية التقليدية لم يحقّق حماية الأرض ولا رفع الحصار ولا وقف التوسع الاستيطاني.

3. تثبيت المقاومة كجزء من الهوية السياسية والدينية والثقافية لشريحة واسعة من المجتمع، وكمعبّر عن كرامة جماعية في مواجهة محاولات الإخضاع.

4. تنامي الوعي الإقليمي والدولي بوجود مأزق بنيوي في إدارة الصراع، ما يفتح هامشًا لحضور رواية مقاومة أكثر تماسكًا وقدرة على مخاطبة الضمير العالمي.

هذه الثوابت تعني أن أي ترتيبات أمنية أو سياسية بعد الحرب، تسعى إلى شطب المقاومة كفكرة وكقوة فاعلة، ستصطدم ببنية عميقة من الإيمان بحق الدفاع عن النفس وبمشروع التحرر، خاصة لدى التيارات الإسلامية والجهادية والوطنية التي ترى نفسها في قلب هذه المهمة التاريخية.


ملامح التحول في بنية المقاومة

من المرجح أن تشهد المقاومة في مرحلة ما بعد الحرب تحولات تنظيمية وليست تفكيكًا حقيقيًا:

• الانتقال من الاعتماد على مظاهر القوة العلنية الثقيلة التي يسهل استهدافها، إلى أنماط أكثر مرونة وسرية، شبكية ولامركزية، تحافظ على وجودها مع تقليل قابلية كشفها.

• تعميق التكامل بين مكوّنات المقاومة الإسلامية والوطنية ضمن معادلة “تعدد الأطر ووحدة الاتجاه”، بحيث تظل البوصلة هي تحرير الأرض وحماية الشعب، مع تقليل النزاعات البينية.

• تعزيز الارتباط بين الداخل والشتات، بحيث لا تبقى المقاومة محصورة جغرافيًا، بل تمتد سياسيًا وإعلاميًا وماليًا ومعنويًا عبر فضاء أوسع يخفف من اختلال ميزان القوى المباشر.

هذا التحول يمنح المقاومة قدرة أكبر على الاستمرار في بيئة رقابة وقمع شديدين، ويرسّخ فكرة أن قوة المقاومة ليست في البنية العسكرية وحدها، بل في الشبكة الاجتماعية والإيمانية والسياسية التي تحيط بها.


أدوات المقاومة في المرحلة المقبلة

1. المقاومة الشعبية والمجتمعية

بعد الحرب، ستكون إعادة بناء المجتمع في غزة، وتعزيز صمود الضفة والقدس والداخل، جزءًا جوهريًا من فعل المقاومة نفسه. شبكات التكافل، حماية العائلات المتضررة، دعم الأسرى و الجرحى، حملات المقاطعة، مواجهة تهويد الأرض، تنظيم الاحتجاجات والعصيان المدني المدروس، و اعادة بناء النسيج الاجتماعي؛ كل ذلك يشكل جبهة ممتدة تجعل من الكتلة الشعبية قاعدة إسناد فعلية للمقاومة، لا مجرد جمهور متفرج. نجاح هذا المسار يرسّخ قناعة بأن مشروع المقاومة حريص على المجتمع لا مستنزِف له.

2. المقاومة السياسية و الدبلوماسية

برغم التشوّه العميق في البنية السياسية الفلسطينية، فإن مرحلة ما بعد الحرب تفرض إعادة تعريف المشروع السياسي على أساس تثبيت حق المقاومة لا نفيه. الاتجاه المتوقع من منظور تقديري هو سعي قوى المقاومة لأن تكون جزءًا فاعلًا في صياغة التمثيل الفلسطيني، أو في فرض أجندة تحصّن ثوابت الشعب من محاولات إعادة إنتاج مسار تسوية خاسر. إذا نجحت المقاومة في تكوين خطاب سياسي واضح، يربط الثبات الميداني برؤية إستراتيجية عقلانية، فإن قدرتها على تحويل منجزها إلى مكاسب سياسية ستتزايد.

3. المقاومة القانونية والحقوقية

الميادين الحقوقية والقانونية الدولية ستتحول إلى ساحة صراع حقيقية. استخدام لغة القانون الإنساني، ملاحقة جرائم الحرب، توثيق الحصار والتهجير والتدمير، ليست مسارات جانبية، بل جزء من معركة شرعية الرواية. بالنسبة للمقاومة، هذا يعني تثبيت صورتها كحركة تحرر شعب واقع تحت الاحتلال، في مواجهة محاولة وصمها الدائم. النجاح هنا يعزز موقف القوى المقاومة، بما فيها الإسلامية، كفاعل يدّعي الدفاع عن حق مشروع، لا كطرف خارج عن القانون.

4. المقاومة الإعلامية والرقمية

الفضاء الرقمي بعد الحرب لن يعود كما كان قبلها. حجم التوثيق، الصور، الشهادات، كشف الخطاب المزدوج الدولي، كلها عناصر تُستثمر لصياغة وعي عربي وإسلامي وعالمي أكثر تقبلًا لرواية المقاومة. الأرجح أن قوى المقاومة الإسلامية والجهادية والوطنية ستسعى لتطوير أدواتها الإعلامية نحو خطاب أكثر احترافًا، متعدد اللغات، يرتكز على المظلومية الحقيقية وعلى سردية تحرير لا على لغة شعاراتية منفصلة عن الواقع. هذا المسار يساهم في كسر محاولات العزل والتشويه.

5. المقاومة المسلحة و الجهادية

في أي تقدير واقعي، من غير المرجح اختفاء العمل المسلح من معادلة الصراع، ما دامت بنية الاحتلال قائمة. المتوقع هو تحوّل نحو:

• مستويات اشتباك أكثر انتقائية، مرتبطة بحسابات دقيقة لموازين القوى والردع.

• إدارة أكثر انضباطًا للسلاح بحيث يُقدّم كأداة دفاعية وردعية.

• اعتماد تكتيكات منخفضة الكثافة طويلة النفس، تضغط على الاحتلال وتؤكد استمرار القدرة على الرد، من دون انجرار دائم إلى حروب استنزاف شاملة تفوق كلفة المجتمع.

من زاوية هذا التقدير، استمرار وجود فصائل المقاومة الإسلامية والجهادية كجزء من مشهد القوة، ضمن منظومة أكثر تنسيقًا وتكاملًا، يعزز قدرة الفلسطينيين على منع فرض حلول تصفوية، ويُبقي على معادلة ردع نسبية مهما اختلّ ميزان السلاح التقليدي.


الانتصار التراكمي

لا يمكن قراءة “النصر” هنا بوصفه لحظة عسكرية حاسمة فقط، بل عملية تاريخية تراكمية. في المنظور الإستراتيجي للمقاومة الفلسطينية:

• النصر يعني منع تصفية القضية، وإبقاء مشروع التحرر حيًا وفاعلًا.

• النصر يعني فرض الاعتراف بوجود شعب لا يمكن شطبه، وبحقوق لا يمكن تجاوزها في أي ترتيبات.

• النصر يعني تحويل كل جولة عدوان إلى عامل يوسّع التأييد لحق الفلسطينيين في المقاومة، ويكشف حدود القوة العسكرية في حسم الصراعات الوجودية.

• النصر يعني افشال عملية تهجير شعب من ارضه.

• النصر يعني قلب الموازين على اعقابها، بحيث لم تعد سردية الاحتلال هي المهيمنة.

• النصر هو فشل تحقق "النصر الحاسم" للاحتلال و بقاء المقاومة.

• النصر هو اعادة تشكيل الوعي العالمي للتضامن مع قضية شعب حر.

بهذا المعنى، استمرار التيار المقاوم، خصوصًا في صيغته المؤمنة بعدالة القضية والمسنودة بهوية إسلامية وعربية وإنسانية، هو ركيزة في صناعة انتصار طويل المدى، لا ينفصل فيه البعد العقدي عن البعد الوطني والإنساني، ولا تُفصل فيه أدوات السلاح عن أدوات السياسة والقانون والمجتمع. فبكل حال، الحر يورث الحر بعده ثأرا.


خلاصة تقديرية

تقويمًا للمعطيات، تبدو فرص القضاء على المقاومة، الإسلامية أو الوطنية، شبه معدومة ما دامت بنية الاحتلال نفسها قائمة. الأرجح هو:

• إعادة تموضع المقاومة في أشكال أكثر ذكاءً وتنظيمًا، مع حضور أعمق في المجتمع.

• تزايد تداخل الأدوار بين القوى الإسلامية والجهادية والقوى الوطنية في مساحات العمل الشعبي والسياسي والإعلامي.

• تعزيز سردية أن خيار المقاومة، بأدواته المتنوعة، هو الضمانة الوحيدة و الأخيرة للحفاظ على القضية من التصفية، وأن أي تسوية لا تعترف بجذور المظلومية ستنتج دورة جديدة من المقاومة.

بهذا التقدير، مستقبل المقاومة في فلسطين بعد وقف الحرب على غزة ليس انحسارًا، بل إعادة تشكّل في اتجاه يجعلها أكثر رسوخًا في الوعي، وأكثر تنوعًا في الوسائل، وأكثر قدرة على الاستمرار في صراع طويل، يُقاس فيه النجاح بقدرة الشعب على الصمود وانتزاع الاعتراف بحقوقه، لا فقط بنتائج الميدان في جولة واحدة من الجولات. و نهاية القول، طالما أبى الفلسطينيّ إلا أن يعيش بعزّةٍ وكرامةٍ، فلا مَحالَ من المقاومة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2025