هآرتس
نير حسّون
ترجمة حضارات
تقول الدكتورة ميمي سَيد، وهي طبيبة أمريكية تطوّعت للعمل في مستشفيات غزة: "أعتقد أن ما يسمح بحدوث كل هذا هو الخوف، والعنصرية، ونزع الإنسانية، إذا لم ترَ فيهم بشرًا، يمكنك أن تفعل بهم كل شيء"، هذا الأسبوع بدا كأن مستوى "أن تفعل بهم كل شيء" قد ارتفع درجة أخرى، القتل بالجملة للعائلات والأطفال، الترحيل القسري، التجويع، وسلب الإنسانية من سكّان غزة بلغ مستويات جديدة.
يوم الاثنين نشر الجيش وجهاز الشاباك بيانًا بشأن قصف مدرسة فهمي الجرجاوي. البيان تضمّن كل المصطلحات المعتادة: "الهجوم استهدف ضرب مخربين مركزيين" كانوا في "مجمّع قيادة وسيطرة"، ومرة أخرى، كما في آلاف المرات السابقة، قيل إن "خطوات كثيرة اتُّخذت لتقليل احتمال إصابة المدنيين".
بدأ القصف قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. حنين الودَيّة، طفلة في الرابعة من عمرها كانت تعيش مع أسرتها المهجّرة في المدرسة، استيقظت والنار تحيط بها من كل جانب وأختها تصرخ "ماما، ماما"، في مقطع فيديو صوّره أحدهم تُرى حنين وهي تشق طريقها بين ألسنة اللهب، قالت من سريرها في المستشفى، وعيناها منتفختان ومغمضتان ونصف وجهها ويدَيها مغطى بالحروق: "سمعت ميمي (أختها) تنادي أمي، لكن لم أستطع أن أجدها. بدأت أنادي أنا أيضًا: ماما، ماما، خرجت إلى الخارج وبدأت أبكي". أمها وأبوها وأختها قُتلوا في الحريق مع أكثر من ثلاثين شخصًا آخرين.
في مستشفى آخر في جنوب القطاع يرقد آدم النجار، الناجي الوحيد من بين عشرة إخوة وأخوات، بعد أن تعرّض بيتهم للقصف قبل يومين من قصف المدرسة، أمه نجت، وأبوه مصاب بجراح خطيرة، في هذه الحالة أيضًا أكّد الجيش أنه عمل بكل الوسائل الممكنة، بل إن العائلة وُبِّخت لأنها لم تُخلِ البيت رغم أمر الإخلاء الذي أصدره الناطق باسم الجيش بالعربية، لكن أمر الإخلاء الأخير لم يشمل "الكتلة 87" التي يقع فيها البيت؛ فقط في أمر سابق، صدر قبل شهر ونصف، تم تحديد هذه المنطقة ضمن مناطق الإخلاء. هذه الأوامر لا يوجد لها تاريخ انتهاء صلاحية، ولا توجد "صافرة تهدئة" تُعلن انتهاء الخطر، وعلى المدنيين أن يخمّنوا بأنفسهم إن كانت الخطورة قد زالت أم لا، وكثيرون يختارون المخاطرة، لا خيار آخر لديهم؛ مساحة الحياة المتاحة لسكان غزة تواصل الانكماش، وأكثر من 80% من مساحة القطاع باتت تحت سيطرة إسرائيل المباشرة أو تحت أوامر الإخلاء.
أوامر الإخلاء خرائط ملوّنة بالأحمر تُنشر على "تويتر" و"تلغرام، هي التمثيل الجغرافي للوحشية ولنزع الإنسانية تجاه السكان المدنيين في غزة، يوم الاثنين الماضي أصدر الناطق باسم الجيش بالعربية أمر إخلاء جديدًا، من أهم الأوامر التي صدرت منذ بداية الحرب: 43% من مساحة القطاع وُضعت باللون الأحمر مع عبارة "منطقة قتال خطرة" (بما في ذلك، مرة أخرى، الكتلة 87)، تغريدة واحدة، وتنقلب حياة عشرات الآلاف من الناس مجددًا، في الشهرين والنصف منذ أن خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار اضطرّ أكثر من 630 ألف إنسان إلى النزوح والترحال.
عمليات النزوح المتكررة تدفع السكّان إلى حافة القدرة على البقاء، لا يمكنهم أن يكدّسوا ممتلكات أو غذاء، لا يمكنهم أن يجدوا مكانًا آمنًا، ويجدون صعوبة في الوصول إلى أساسيات مثل مياه نظيفة وصرف صحي ومأوى وغذاء وعلاج طبي، مليونا إنسان يُحشرون في مساحة تزداد صِغرًا، يعيشون بين الأنقاض أو في خيام تزداد تمزّقًا، الأطفال لا يتعلمون منذ عامين، الاكتظاظ، والحرّ، وغياب المياه الجارية وشبكة الصرف الصحي، والتدمير المنهجي لمنظومة الصحة، (28 هجومًا استهدفت مستشفيات وعيادات في الأسبوع الأخير وحده) ترفع جدًا خطر الأمراض والأوبئة، المنطق القاسي الكامن في هذه السياسة مخفي في واحد من أهداف القتال: "تركيز وتحريك السكان"، وقد أصبح التطهير العرقي سياسة رسمية مُعلنة لحكومة إسرائيل.
وفوق كل شيء، يواصل الجوع السيطرة على القطاع، في الأسبوع الماضي أعلن بنيامين نتنياهو عن "إعادة المساعدات"، لكنها أُعيدت بالتقطير، بضع عشرات من الشاحنات دخلت كل يوم من معبر كرم أبو سالم، وأقل من ذلك يصل إلى نقاط التوزيع داخل القطاع، هذه الكميات تكاد لا تؤثر على الوضع الغذائي في القطاع، جموع الأطفال يواصلون الوقوف ساعات طويلة ومعهم قدر فارغ، على أمل الحصول على طعام، يوم الثلاثاء هجم حشد من الناس على منشأة توزيع الغذاء التي أقامتها إسرائيل، آلاف الجياع ركضوا في الرمال وتزاحموا قرب الأسوار، وتوسّلوا الطعام إلى حراس أمريكيين مسلحين (أجر الواحد منهم 1100 دولار في اليوم).
تقول الدكتورة سَيد: "أنا أؤمن أن الإسرائيليين لا يريدون هذا، لا يريدون أن يحدث كل ذلك باسمهم، أعتقد أن أكبر شيء تعلمته في غزة هو أنه لا يمكن تجاهل الحقيقة، بعد أن ترى ما يحدث هناك يصبح من السهل جدًا أن تميّز بين الخير والشر".
في الفيديو، تُرى حنين الودَيّة ذات الأربع سنوات تشق طريقها بين ألسنة اللهب، "سمعت ميمي (أختها) تنادي أمي، لكن لم أستطع أن أجدها، بدأت أنادي أنا أيضًا: ماما، ماما، خرجت إلى الخارج وبدأت أبكي"، قالت من سريرها في المستشفى، وعيناها منتفختان ومغمضتان، ونصف وجهها ويدَيها مغطى بالحروق، أمها وأبوها وأختها قُتلوا في الحريق مع أكثر من ثلاثين شخصًا آخرين.
تقول سَيد: "أكثر من 50% من سكان غزة هم أطفال، حكومة الولايات المتحدة تموّل حربًا غير قانونية ضد الأطفال، تقريبًا كل منظمة إنسانية دولية وصفت ما يجري في غزة بأنه جريمة حرب، لكن الولايات المتحدة تواصل تزويد السلاح الذي تُرتكب به هذه الجرائم، عندما أجلس في بيتي براحة، أتذكّر أن جرائم متعمدة وبغيضة ما زالت تُرتكب ضد الأطفال، متى سيتوقف هذا؟ متى ستمثّل حكومة الولايات المتحدة ما كنت أعتقد يومًا أنها تمثله؟ ألم نكن نحن من أوقف ألمانيا عن إبادة هذا العدد الكبير من الأرواح البريئة؟ ألسنا نحن المفترض بنا أن نكون "الطيّبين"؟"
تطوّعت سَيد في غزة مرتين، في آب/أغسطس وفي كانون الأول/ديسمبر. في كلتا الفترتين في القطاع أعلنت وفاة عشرات الأطفال، رأت ثمانية أطفال ماتوا من انخفاض حرارة الجسم في الشتاء، وطفلة في التاسعة توفيت لأنهم لم يستطيعوا الحصول على دواء عادي لعلاج الصرع، وكذلك رضيعة في التاسعة من عمرها ماتت بسبب تلوث في الماء، منذ عودتها إلى الولايات المتحدة تحكي سَيد لكل من يريد أن يسمع عن ما يجري في غزة، ولا تُخفف شيئًا عن مستمعيها في الأوصاف أو الصور، هذه بعض من القصص القاسية التي واجهتها خلال تطوّعها.
"ذهبت لأعالج مصابين آخرين، لكن أمه أمسكت بيدي وتوسّلت" الطفل الذي يُحمل على الأيدي هو سامي، في الثامنة من عمره، أخوه الأكبر يحمله، الاثنان وصلا إلى مستشفى الأقصى على عربة يجرها حمار، دقائق بعد أن شظية صاروخ مزّقت وجه سامي، صحفيون وفضوليون وقفوا حولهما وصوّروهما، سامي يرتدي قميصًا مخططًا أبيض وأحمر، الجزء المصاب من وجهه مخفي عن الكاميرا ومسنود على كتف أخيه.
تروي سَيد: "كان لدى سامي جرح انفجاري في الوجه. معظم الأجزاء الحيوية الفم، الأنف، الجفون، تضررت، باقي جسده كان سليمًا تقريبًا باستثناء بعض الجروح السطحية، وضعوه على النقالة بلا أي شخص بالغ معه، كان مغطى بسترة ملوثة بالدم، بينما كان مستلقيًا بدأ يغرغر ويختنق أمامي بدمه، بدأت بالشفط لإزالة الانسداد في مجرى التنفس، وعندها أدركت أن الفك السفلي كله قد اقتُلع ويتدلّى على قطعة من الجلد، حروق وشظايا غطّت وجهه.
في الأثناء واصل مصابون آخرون في حالة حرجة الوصول، واضطررت أن أنزله إلى الأرض لأفسح مكانًا لمرضى آخرين، وصلت أمه وعمّه وراحا يصرخان رعبًا، ألقت أمه بنفسها على الأرض وبدأت تصلي لينجو ابنها، أمسكت بيدي بقوة وتوسّلت أن ننقذه، أومأت برأسي، لكنني كنت أعرف أنني لا أستطيع أن أعدها، وأن نجاته ستكون معجزة، نجحت في تثبيته لنقله إلى جهاز التصوير المقطعي".
كانت المشكلة أن جهاز التصوير الوحيد في المنطقة لم يكن في مستشفى الأقصى، بل في مستشفى يافا، على بُعد دقائق بالسيارة، حسب تعليمات وزارة الصحة في غزة، يُمنع على المتطوعين الأجانب الوصول إلى مستشفى يافا، الذي كان قريبًا آنذاك من مواقع للجيش الإسرائيلي، خوفًا على أمنهم. تقول سَيد: "اخترت رغم ذلك أن أركب سيارة الإسعاف لأحمي مجرى التنفس لديه"، "في سيارة الإسعاف نفسها وضعوا امرأة تحتضر، كانت تتنفس عبر أنبوب، وابنها المراهق يمسك بيدها، السيارة كانت تسير بين الركام، وحشود من الناس وقفت على الطريق".
خضع سامي للتصوير المقطعي وعاد إلى مستشفى الأقصى لجراحة ترميمية في الوجه. "في اليوم التالي تجولت في المستشفى وشعرت بأن أحدًا يشدّ ذراعيّ، كانت أمه، جلست على سرير في الممر المليء بالمصابين على الأسرة وعلى الأرض، على أحد الأسرة كان سامي مستلقيًا، والغرز تملأ وجهه. بالكاد يستطيع أن يفتح فمه ويشرب من خلال مصّاصة، كان يبكي من الألم كلما تحرّك".
"كانت لا تزال تتحرك، فقررت أن عليّ أن أحاول إنقاذها" الفتاة ميرا، في الرابعة من عمرها، يعرف صورتها من يتابع الإعلام الدولي: رصاصة مغروسة في رأسها، تحوّلت إلى واحد من رموز الحرب وإحدى أكثر صورها إثارة للجدل، نُشرت الصورة إلى جانب صورتين إضافيتين لأطفال آخرين لديهم رصاصات مزروعة في رقابهم، في صفحة الرأي في صحيفة "نيويورك تايمز"، ضمن مقال وقّعه 65 طبيبًا عملوا في غزة، الأطباء ادّعوا أن الجيش الإسرائيلي يطلق النار عمدًا على الأطفال، فأثاروا عاصفة ردًا على النشر، تلقت الصحيفة عددًا كبيرًا من رسائل الاحتجاج التي زعمت أن الصور مزيفة.
في 15 تشرين الأول/أكتوبر نشرت كاثلين كينغزبري، محرّرة صفحة الرأي في الصحيفة، رسالة رد مفصلة على هذه الادعاءات، بحسب كينغزبري، تحقّقت الصحيفة من خلفية كل الأطباء ومن كونهم كانوا فعلًا في غزة، وأرسلت صور الأشعة المقطعية لمجموعة من الخبراء المستقلين في مجالات إصابات الرصاص، والأشعة، وطب الطوارئ للأطفال، وهؤلاء صادقوا على صحتها. كذلك جرى فحص بيانات الميتاداتا للصور وقورنت بصور الأطفال، تقول كينغزبري إن لدى محرري الصحيفة صورًا إضافية تؤكد صور الأشعة لكنها قاسية أكثر من أن تُنشر، وكتبت: "نحن نقف خلف المقال والبحث الذي يدعمه. كل ادعاء بأن الصور مزيفة غير صحيح ببساطة".
روى والدَا ميرا لقناة "الجزيرة" أنهما استيقظا ذلك اليوم في خيمتهما في منطقة المواصي، استيقظوا مبكرًا لأن البنات كنّ متحمسات احتفالًا بعيد ميلاد أخت ميرا الكبرى، فجأة بدأ إطلاق النار في المنطقة، والناس ركضوا من مكان إلى آخر، دخلت ميرا إلى الخيمة ووجهها مغطى بالدم، جرح مفتوح فوق جبينها، أخذها والدها إلى مستشفى ناصر، وبحسب البروتوكول القاسي الذي وُضع في غزة، في حالات الإصابات الجماعية لا يُعالَج المصابون بإصابات دماغية، القاعدة هي أنه إذا كان هناك اختراق للجمجمة أو خروج لمادة دماغية إلى الخارج، فلا جدوى من محاولة إنقاذهم بسبب النقص في جرّاحي الأعصاب وندرة الموارد الطبية اللازمة لإنقاذهم.
كان من المفترض أن تترك سَيد ميرا لتموت، تقول: "بدأت أفحصها، وأحد الأطباء قال لي: لا تُضَيّعي وقتك. لكنني شعرت أنها لا تزال تتحرك، كانت تستجيب للألم. هذا جعلني أفكر أن عليّ أن أحاول". أدخلت أنبوبًا إلى مجرى التنفس واستطاعت تثبيتها. خضعت ميرا لعملية جراحية في المخ، أُخرجت الرصاصة من رأسها ونجت، سَيد بقيت على تواصل مع والديها، مؤخرًا وصلتها مقاطع فيديو تظهر ميرا تمشي وتتحدث، وتقول إنها تأثرت جدًا بذلك: "آخر مرة رأيتها فيها كانت بالكاد تفتح عينيها"، لكن، كما هو الحال مع سائر مرضاها الذين نجوا، ميرا أيضًا في خطر دائم؛ فهي تحتاج إلى علاج مستمر لتخفيف الضغط داخل الجمجمة، وتعاني من ضعف في الجانب الأيسر من جسمها وتحتاج إلى أدوية، في كانون الثاني/يناير أصاب هجوم آخر خيمتهم العائلية وفقدت أمها إحدى ذراعيها، تحاول العائلة الخروج من غزة لتلقي العلاج الطبي، من دون نجاح حتى الآن.
أخذت سَيد صورة ميرا معها إلى واشنطن والتقت أعضاء في مجلس الشيوخ محاولة إقناعهم بوقف دعمهم لإسرائيل، تقول: "واجهت تشكّكًا حول مصداقية الصورة، لكنني لمستها بيدي، أنا من عالجها، أنا من أنقذتها. التشكيك في ذلك يحطّم قلبي حقًا، سألوني: لماذا قد تستهدف إسرائيل الأطفال؟ لكن من المنطقي استهداف الأطفال إذا كنت تريد استهداف المستقبل".
"ألمه يطاردني بطرق تعجز الكلمات عن وصفها" شَبان توفي بسبب الحرب من دون أن يُصاب بشظية أو رصاصة، بل بسبب تدمير البنى التحتية في غزة، وُلد في كانون الأول/ديسمبر 2022، وعندما بلغ السنتين، في قلب الحرب، مرض وبدأ جلده يصفرّ، تقول سَيد: "كان في عمر ابني الصغير تقريبًا، لكنه بدا أصغر بكثير منه. بياض عينيه كان بلون برتقالي فاقع، وبشرته بلون مشروب تانغ البرتقالي.، كان مستلقيًا بلا حراك، يتنفس بصعوبة، بطنه متورمة، وكل حركة تسبب له الألم".
كان شَبان يعاني من فشل كبدي نتيجة إصابته بالتهاب الكبد A (اليرقان)، الذي التقطه بسبب ظروف الحياة في القطاع وتدمير أنظمة المياه والصرف الصحي، تقول سَيد: "في الولايات المتحدة وفي أي دولة متقدمة أخرى من الصعب للغاية أن تُصاب بالتهاب الكبد هذا، وحتى إذا أصبت به، فالعلاج بسيط نسبيًا، في غزة لم يكن لدينا ما نفعله من أجله".
تضيف: "أمه أرتني صورًا له أُخذت قبل سنة؛ كان مشرقًا بالصحة والسعادة، وشعرت بموجة من الحزن تغمرني"، لكي يُنقَذ شَبان كان بحاجة إلى زراعة كبد، لكن حتى في هذه الحالة لم تحصل العائلة على تصريح لإخراجه من القطاع للجراحة، التقطت سَيد صورة للأم وهي تحمل طفلها خارج المستشفى، تقول: "لا أستطيع أن أتخلص من صورة أم تحمل طفلها، وكلاهما ملفوفان باليأس، معاناة هذا الطفل تطاردني بطرق تعجز الكلمات عن وصفها، الطبيبة التي في داخلي تعرف أنه مات بعد وقت قصير، لكن الأم التي في داخلي ترفض قبول هذه الحقيقة".
"جلس أطفاله الصغار بجانبها بوجوه مذعورة، ماتت في اليوم نفسه" فاطمة، 29 عامًا، وصلت إلى المستشفى برفقة ثلاثة أطفال صغار، جميعهم دون السابعة، لم تُصب بالقصف، لكنها كانت تعاني من نزيف حاد في الصدر، تقول سَيد: "جلس الأطفال بهدوء إلى جانبها، ووجوههم مذعورة. مددت يدي إلى حقيبة معداتي وأخرجت بعض البالونات لأشغلهم، أضاءت وجوههم، وبدا أنهم نسوا للحظة الفظائع من حولهم".
اتضح أن فاطمة تعاني من سرطان ثدي متقدم جدًا، تقول سَيد: "رغم خبرتي في المناطق المهملة، لم أرَ شيئًا مثل هذا من قبل، كان لديها ورم سرطاني هائل ومشوّه، مغطى بحفاضة مليئة بالدم، وكان واضحًا أنه مصدر النزيف"، عمتها، التي رافقت الأم والأطفال، قالت إن الأطباء اكتشفوا الورم، بحجم حبة زيتون، قبل سبعة أشهر، في بداية الحرب، الأطباء أحالوها إلى جراحة وعلاج كيماوي، لكن بسبب الحرب وتدمير النظام الصحي لم تستطع الحصول على العلاج، منظمة الصحة العالمية وافقت على إجلائها للعلاج، لكن، بحسب سَيد، رُفض الطلب من جانب إسرائيل أو أن الموافقات استغرقت وقتًا طويلًا جدًا حتى وصلت.
تقول سَيد: "من الواضح أن سرطان فاطمة كان قابلًا للعلاج في أي بلد آخر، وحتى في غزة قبل الحرب كانت ستُشفى، لكن الآن لم يكن هناك أي شيء يمكننا فعله، لم يكن لدينا حتى ما يكفي من الدم لنثبت حالتها، والموارد الجراحية التي احتاجتها كانت مطلوبة لمرضى آخرين يملكون فرص شفاء أكبر، فاطمة ستموت قريبًا، لن ترى أبدًا أبناءها يكبرون، لن ترى ابنتها تتخرج من الجامعة أو ابنها يصبح رجلًا، الظلم اشتعل في داخلي كنار لن تنطفئ أبدًا"، في النهاية أُحيلت فاطمة إلى مستشفى آخر، وعندما اتصلت سَيد لتسأل عن مصيرها، قيل لها إنها ماتت في اليوم نفسه.
"هي طفلة في الثامنة كانت تلعب في الخيمة، شظايا مزّقت جمجمتها" في أحاديث مع أطباء في غزة يعودون دائمًا إلى اللحظات التي تلي إصابة جماعية للمدنيين، الأوصاف تتكرر: بعد دقائق من سقوط صاروخ أو قنبلة، تتحول غرف الطوارئ والعناية المركزة إلى مشاهد من فيلم رعب، صرخات ألم المصابين تمتزج بعويل ذويهم الذين يكتشفون أن أحبّتهم قد ماتوا، الأسرة والنقالات، ثم الأرضيات بعد ذلك، تمتلئ بالمصابين، وبرك الدم تتجمع بينهم، وعلى الأطباء مرة بعد مرة أن يتخذوا قرارات قاسية: من يجب التنازل عنه، لأن فرصة إنقاذه معدومة تقريبًا أو لأن إنقاذه يتطلب موارد يحتاج إليها آخرون يمكن إنقاذهم.
تقول سَيد: "وصلت إلى قطاع غزة مرة أخرى في الرابع من كانون الأول/ديسمبر. كانت الرحلة مهزّة للأعصاب؛ الطرق مدمرة، والأطفال يسيرون إلى جانبها. بعد ساعة من السفر وصلنا إلى مستشفى ناصر. ظروف سكن الطاقم لم تتغير، أسرّة طابقية مكتظة ورائحة كريهة للصرف الصحي. بدأت أفرغ أغراضي، ثم هزّ المبنى انفجار كبير. كان أقرب من الهجمات السابقة، أنا معتادة، لذلك ركضت إلى منطقة علاج الإصابات، بينما كنت أتصارع لأرتدي القفازات رأيت طفلين يُنقلان إلى الداخل، وضعت العائلات إياهما على الأرض لأنه لم تكن هناك أسرة شاغرة، حتى قبل أن ألمسهما عرفت أنهما ميتان بعد ذلك دخلت طفلة في الثامنة اسمها آلاء، في عمر ابنتي تقريبًا، روى والدها أنها كانت تلعب أمام الخيمة عندما بدأ الهجوم، وأن شظايا مزّقت جمجمتها. كانت مصابة إصابة خطيرة جدًا، جسدها بالكاد يتحرك ومادة الدماغ كانت مكشوفة، حسب البروتوكول اعتُبرت غير قابلة للإنقاذ، لكنني رأيت اليأس في عيني والدها؛ أخذت منظار الحنجرة وثبّتت مجرى التنفس لديها، ثم أسرعنا إلى غرفة العمليات".
بعد أيام نُقلت سَيد إلى مستشفى آخر، وفقدت إمكانية متابعة تقدم حالة آلاء، والدها وعد بأن يُطلعها على الأخبار، لكنها كانت تخشى الأسوأ، تقول: "في أحد المساءات، بعد نحو شهر، تلقيت رسالة فيها مقطعان، في الأول نرى آلاء جالسة منتصبة تقرأ في كتاب وعلى رأسها ضمادة، وفي الثاني تظهر وهي تمشي، بخطى غير ثابتة لكنها مستقلة، توقفت في منتصف الصورة وقالت: شكراً دكتورة، أنا بخير".
لكن آلاء تحتاج إلى زراعة صفيحة تحمي دماغها، وهي عملية غير ممكنة في غزة، مثل حالات أخرى، تنتظر هي أيضًا إجلاءً طبيًا إلى خارج القطاع، يقول سَيد: "في الولايات المتحدة لدينا القدرة على إحداث تغيير، على إنقاذ الأرواح، في غزة، حتى لو أنقذت حياة، لا يكون واضحًا أنك نجحت حقًا. غدًا يمكن أن تموت آلاء، دماغها مكشوف، إذا سقطت غدًا بين الأنقاض ستموت، أو ستمرض بسبب تلوث، كل شيء غير آمن، الإحساس هو أنك لا تفعل الكثير، أنك لا تُحدث فرقًا".