الايمان بالسلام والإيمان بمفاوضات السلام
المستشار/ أسامة سعد

​​​​​​​
السلام هدف سام يسعى إليه كل إنسان يحمل فطرة سليمة، لا ينبذه إلا من كان يحمل في قلبه ضغينة مرضية ضد بني جنسه من البشر، فالسلام يعني أن تسود المحبة والرخاء والتطوير. وعلى العكس تماما فالحرب تعني الدمار، والجوع والمرض والتخلف، لذلك يسعى الانسان السوي إلى إحلال السلام مؤمنا به كرامة للإنسان الذي خلقه الله سبحانه وتعالى مكرما.
ولو آمن كل بني آدم بفكرة السلام، لما اشتعلت الحروب ولما وجدنا القهر والاستبداد والتعذيب ولما عرف الناس التشرد والقتل، ولما عانى ملايين البشر من الجوع والمرض، ولما ساد الجهل والتخلف بين بعض الأمم.
إذا فكرة السلام بحد ذاتها فكرة جدلية من حيث الايمان بها كفكرة مثالية فيها سعادة الإنسانية أو العمل بها، فالناس في معظمهم يؤمنون بالسلام إيمانهم بمزاياه التي لاشك أنها في صالح البشرية جمعاء، ولكن العمل بها يحتاج إلى جهد ربما يتجاوز ما تبذله الدول في سبيل تحقيق أمنها واستقرارها من خلال إعداد وسائل القوة والدفاع.
ولكن الحقيقة أن كثيرا من الدول ترفع شعار السلام بمفهوم يحقق أمنها ومصلحتها فقط، وهذا يعني أن السلام الذي تؤمن به قائم على ما تراه يصب في تحقيق أهدافها حتى ولو كانت هذه الأهداف فيها تعدي على حقوق شعوب دول أخرى، وبمعنى آخر ترى كثير من الدول أن السلام يأتي بفرض الإرادة باستخدام وسائل القوة المتاحة، وإخضاع الآخرين فتتحقق مصالحها وبذلك يعم السلام. وهذه هي حقيقة "نداء" السلام الذي ينادي به العالم "الحر" الذي يمثل في الجانب الآخر للشعوب الأخرى ظلما كبيرا واستبدادا.
وذلك ليس غريبا، فدول العالم كلها تبني علاقاتها من خلال لغة "المصالح" وهذا يعني أن مصلحة الدولة هي المقدمة على كل ما سواها بما يعنيه من ظلم لشعوب دول أخرى. وتختلف مبررات الدول في تحقيق مصالحها تبعا لقدراتها العسكرية والاقتصادية التي تستطيع من خلالها فرض إرادتها، ومن أجل ذلك تسعى الدول وخصوصا الضعيفة منها إلى بناء تحالفاتها على أساس الحفاظ على مصالحها أيضا من خلال الانضواء تحت مظلة دولة أو عدد من الدول التي تتحد مع مصالحها ومن ثم تتوحد سياساتها تبعا لذلك، وطالما أن "مصلحة" الدول تعني تحقيق أكبر قدر من الرفاه وما يستلزمه ذلك من جلب أكبر قدر من الموارد دونما نظر إلى وسيلة جلب هذه الموارد، فهذا بالضرورة يعني إيقاع الظلم على قسم آخر من الدول والشعوب التي لا تستطيع حماية مواردها، وبالتالي تُنهب هذه الموارد ممن يمتلك قوة علمية وعسكرية واقتصادية أكبر فتعيش شعوب ليس لديها موارد تذكر برفاه ورخاء يتجاوز ربما مئات المرات ما تمتلكه من موارد، وتعيش شعوب أخرى فقرا وتخلفا رغم الكم الهائل من الموارد التي تمتلكها.
ولذلك تسعى الدول التي تسيطر على موارد الشعوب الأخرى إلى إبقاء هذه الحالة على ما هي عليه مدعية بأن ذلك يعني الحفاظ على السلام والأمن الدوليين وهذا هو المبدأ الذي يعمل وفقا له مجلس الأمن الدولي المسيطر عليه من الدول الخمس المنتصرة في الحرب العالمية الأخيرة.
إذا فالسعي إلى السلام بمفهومه النقي في ظل الحالة العالمية التي ذكرت يعني ضربا من العبث ومثل من يبحث عنه كمثل الحمل الساعي للأمان بين قطيع الذئاب.
وهذا هو حال قيادة السلطة الفلسطينية التي ما برحت هذا المقام منذ نحو ثلث قرن من الزمان وأصبحت المسألة لديها ليست إيمانا بإحلال السلام بقدر ما هي إيمان باستمرار مفاوضات السلام رغم وجود العلم اليقيني لقيادة السلطة أن استمرارها بهذا الطريق كمثل من يسعى لنقل الماء بالغربال.
ولذلك غريبة هي عودة أبو مازن لعقد مؤتمر دولي للسلام تشرف عليه الرباعية الدولية بعد مضي حوالي ثلاثين عاما على مؤتمر مدريد الذي أطلق عملية سلام لا نهاية لها رغم أنه كان برعاية القوتين العظمتين في العالم في ذلك الوقت.
فهل يسعى أبو مان لتكرار تجربة فاشلة مر عليها ثلاثين عاما ليعيش الشعب الفلسطيني ثلاثين عاما أخرى تائها بين عواصم العالم لجلب سلام مفقود، وهل إيمان أبو مازن بالسلام له مكان في عالم مبني على المصالح ولا يحكمه إلا لغة القوة، وهل الشعب الفلسطيني مستعد لخوض مثل تجربة مدريد أو أوسلو مرة أخرى؟
إن إقدام قيادة السلطة على إعادة إنتاج مشروعها الفاشل تحت اسم جديد يعني مزيدا من التيه والضياع والمقامرة بمستقبل جيل جديد من الشعب الفلسطيني سيضيع بلا طائل كما ضاع مستقبل جيل كامل وعاش مشتتا بحلم مزيف أثبتت الوقائع أنه وهم.
لذلك على الشعب الفلسطيني أن يهب لإنقاذ جيل جديد كامل معرض للدخول في غياهب التيه والضياع وإلا سيكتب على الشعب الفلسطيني أن يعاني لمدة ثلاثين عاما جديدة أو أكثر ثم يستفيق مرة أخرى على الحقيقة المرة أنه لا سلام مع الغاصب.
غزة في. م 6/12/2020