"وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" لما تمعنت في معنى هذه الآية فهمت أن الانسان سيظل في تتبع ٍ للعلم واكتشافٍ له إلى يوم القيامة، وسيعلو بالعلم وسيكتشف خباياه وسيُذهل بمعانيه ومعجزاته، غير أنه برغم كل ذلك سيظل على شاطئه بالكاد بلّل أقدامه بما جاد عليه هذا البحر من أمواج، وسيبقى كل هذا العلم الذي حُزناه جزءً يسيرا من علم العليم الأعلى.
وعندما تابعت حلقات برنامج There is no clash على(bbc) الذي يسلط الضوء على عدم تعارض العلم مع القرآن، أصبح لدي ما يشبه اليقين أن القرآن والذي هو كلام الله المنزل هو ذاته العلم الخالص، غير أننا ما زلنا نتعثر في معرفة مكنوناته واستنباط مفاهيم العلم الراسخ فيه أو الوصول إلى منهجية ثابتة واضحة ؛لاستخراج هذه العلوم منه وهذا ليس عجزا فينا بقدر ما هو إعجاز كامل في كلمات الله الخالدة أوربما هذا ما أفهمه من قوله تعالى ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا )
عندما بدأت أتعلم القراءة في سن صغيرة كان أبي رحمه الله يحضر لي قصص الأنبياء للأطفال وقصص السيرة والكتب العلمية كلما طلبت منه كتبا للقراءة، ولهذا درجت على حب التاريخ والعلوم جنبا إلى جنب، غير أنني منذ مدة اكتشفت أن كل ما اختزنته من معلومات من قصص الأنبياء تلك لا دليل على صحتها من القرآن والسنة، واكتشفت أن موسوعة البداية والنهاية مثلا تعج بالإسرائيليات والأساطير، وأن ليس كل ما قيل لي من معلومات هو بالضرورة صحيح ما لم يؤيده نص من الكتاب والسنة، فبدأت حيرتي ما بين التاريخ والأسطورة والعلم إلى أن استهوتني معاني القرآن الكريم، ووقعت في قلبي فسيطرت على أفكاري وجعلتني أخوض غمار البحث فيها، ومقارنتها بالنظريات العلمية التي اكتشفها العلماء على مر الأزمان، ورغم جدالاتي الكثيرة والمزعجة لمن هم حولي ورغم التيه الذي قد أشعر به في كثير من الأحيان موزعة أفكاري بين النظريات العلمية الزاخرة وبين كلمات القرآن ومعاجم اللغة، إلا أن الأفكار التي تتكشف أمامي والحلول التي تترتب في عقلي - بهداية من الله قبل كل شيء - هي أعظم إنجاز وجائزة قد أتحصل عليها أبدا .
وقد يقول البعض أنه إذا تم تفسير المعجزة بطُل إعجازها، ولكنني أقول أن أي معجزة تقاس بدرجة تحضر وغزارة علوم عصرها ولا تقارن أبدا بزمن وعصر آخر، ونحن كمسلمين إنما معجزتنا هي القرآن الكريم وإن ذروة الإعجاز أن يفسر قرآنا يُتلى منذ ١٤٠٠ سنة علوما لم تكتشف إلا منذ سنوات؛ بل وسيظل متوافقا مع العلوم التي ستكتشف بعد قرون، وإنما هو دليل لا يدحض على أن منزل هذا القرآن هو العلي العليم صاحب العلم ومقدّر الأحداث .
لعلها مقدمة طويلة نوعا ما ولكنني سأشارككم بعدها ببعض ما اكتشفته في قصص القرآن الكريم وكلماته وترابطه مع العلم الحديث في هذا المقال وما يليه من مقالات، غير أني أشترط على قارئ المقال أن يتجرد من كل عصبيته القديمة لأي علم وقناعاته السابقة بأي أسطورة سكنت عقله قبل القراءة، وانما يدخل بفطرته التي خلقه الله عليها والتي تنبع من قدرته على التعلم.
قرى لوط
اتفق الجميع على أن قرى لوط أو كما ورد في التوراة سدوم وعامورة هي مجموعة من القرى في منطقة البحر الميت ولربما لذلك كان يسمى قديما ببحيرة لوط .
وهنا سأورد لكم النص الذي جاء في تفسير ابن كثير لأحداث العذاب الذي حل بأهل القرى بعدما غلب عليهم الفساد والفاحشة وبعدما جاءت الرسل لتنذر لوط عليه السلام وتأمره بالرحيل ..
قال ابن كثير : وذكروا أن جبريل - عليه السلام - خرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل غارت بالكلية، ولم يبق لها محل ولا أثر ... قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37].
وفي الصباح أهلكهم الله تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 82-83] قال ابن كثير في تفسيره: (قال مجاهد: أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن).
عندما قرأت الآيات بمعزل عن تفسير ابن كثير أو غيره خضت جدالا من جدالاتي المزعجة المعتادة التي بالكاد أصبح الجميع يحتملها .. فقلت:
لو أننا رتبنا الأحداث التي مرت بليلة عقاب قوم لوط لكانت كالتالي:
أولا: طمسنا أعينهم
ثانيا: جعلنا عاليها سافلها
ثالثا: أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك
وقلت .. كل الأحداث السابقة تتفق مع حدث سماوي كبير بدأ حدوثه في الليل؛لأن الله قال (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ) وطلب الرسل منه عدم الالتفات والنظر إليهم؛ لكيلا يصيبه ما أصابهم ألا وهو طمس الأعين ( وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) ثم انتهى حدوثه في الصباح ( إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).
وهذا الحدث السماوي قد يكون نيزكا ضخما بدأ دخوله إلى نطاق الأرض في الليل وكان ضوء احتراقه ساطعا جدا فطمس أعين من نظر اليه ، ثم سقط في الصباح ودمر القرى، وجعل عاليها سافلها ثم استمرت بقاياه المتفتتة خلفه في الغلاف الجوي بالسقوط كالمطر، والتي تمثل حجارة من سجيل منضود أعدت للظالمين في السماء منذ زمن بعيد؛ ليكون موعدهم الصبح وإن الصبح لقريب .
وكان رأيي أن التحليل بهذه الطريقة العلمية منطقي أكثر من تفسير ابن كثير حيث لا نص في القرآن ولا السنة يؤيد القصة التي أوردها.
وفي ذلك الوقت كان رد مُحاوِرِي أن كلامي يبقى فرضية تحتمل الصواب وتحتمل الخطأ، وهذا صحيح، فكل أفكارنا فرضيات قد يثبت صحتها أو خطؤها مع الوقت وقد تبقى فرضية إلى الأبد أيضا، ولكنني في ذلك الوقت أرحت عقلي بإجابة منطقية وهذا هو الأهم.
بعد ثلاثة أيام من هذا الحوار وصلتني من مُحاوري رسالة مفادها أن بعثة علمية تعمل منذ أكثر من عشر سنوات وتبحث في آثار سدوم وعمورة تعلن عن أدلة على سقوط نيزك في هذه المنطقة دمر التجمعات السكنية التي عاشت في منطقة البحر الميت، لكن بالطبع فاتهم أن ألفاظ القرآن الكريم أخبرتنا بهذه المعلومات قبل أربعة عشر قرنا.
إنها محاولة لفهم ما درجنا نحفظه من قصص، ومحاولة للتقريب بين النظريات العلمية والمفاهيم الدينية د؛ لنساعد أبناءنا على الفهم الصحيح، في زمن أصبحت الفتن فيه تدخل على بيوتنا دون أن نملك أن نمنعها.
حصنوا أولادكم بالعلم والقرآن وبالفهم الصحيح والقدرة على التحليل، أو اعتزلوا الحياة والتكنولوجيا لتحموهم من الفتن .
هذا ما عندي، فإن أحسنت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.