أم أحمد

سميرة نصّار

إعلامية وكاتبة فلسطينية

حينما خبّأتْ "أُمُّ أحمد" في مسلسلِ "التغريبة الفلسطينية" مفتاحَ بيتِها قريباً من قلبِها، وبعدَ قرارٍ متثاقلٍ وحَذَرٍ بمُغادرتِه؛ خوفاً من عتادِ ونارِ العدوِّ الصهيوني، لم تقررْ حينَها أنْ تعيشَ فصلاً طويلاً من الشقاءِ والهجرةِ بعيداً عن مسكنِها؛ فقد عاشتْ فصولاً مريرةً من العَوَزِ والفقرِ وسطوةِ الإقطاعيّينَ، إضافةً لثورةِ الفلاحينَ عامَ (1936)، والتي تصدَّرتْ أُسرتُها صفوفَها الأولى؛ بل وكان ابنُها الأكبرُ أحدَ قادتِها، وضعتْ حينَها في بالِها مشواراً قصيراً ليَعودَ المفتاحُ إلى بابِه، ولكنّ المشوارَ طالَ، وأصبحتْ "أُم أحمد" تَعدُّ طولَه بالعقودِ لا بالأيامِ.


"أم أحمد" الفلسطينيةُ كانت رمزًا للمرأةِ الحازمةِ الصارمةِ، وصاحبةِ القلبِ الحاني الضامرِ للخيرِ والحُبِّ، فكانت الشريكَ الحقيقَ في معاركِ فلسطينَ المُتشَعبةِ والمتكرّرةِ والمتلونةِ.
"أم أحمد" التي شاهدتْ بعيونِها، وأحسّتْ بقلبِها أقسَى ما يشاهدُه ويَحسُّه بَشرٌ، وهي واقفةٌ بألَمِها الخَفي، تُداري دمعَها خوفاً بأنْ تُتَّهَمَ بالضعفِ؛ فالضعفُ ليس من شِيَمِ القلاعِ. 

"أم أحمد" رفيقةُ الدرْبِ؛ وحاميةُ البيتِ؛ ومؤمنةُ الجانبِ؛ حافظتْ على الجبهةِ الداخليةِ لِتبقَى آمِنةً قويةً أمامَ اختراقاتِ العدوِّ، متماسِكةً أمامَ التساقطِ النفسي الأُسري في ذروةِ الحروبِ والمواجهاتِ.


"أم أحمد" قارَعتْ انتهاكاتِ العدوِّ المتكرّرةَ القاهرةَ، وهي متيقِنةٌ أنّ الأقوَى مَن هو أكثرُ إيماناً بقضيتِه عاملاً لأجلِها؛ فتَحدّتْ مشاعرَها وهي تودّعُ زوجَها حبيبَ عُمرِها، وتَنثُرُ الرمالَ على وَجهِه المُدرَّجِ بالدماءِ متمتمةً "ألقاكَ هناك حبيبي في منازلِ الشهداءِ".


وهي ذاتُها التي عضّتْ على أصابعِها قهراً، وهي ترَى بيتَ عُمرِها ينهارُ أمامَها بصواريخِ ومدافعِ العدوِّ، أو بقرارِ إزالةٍ جائرٍ، داعيةً ربَّها "ربِّ ابنِ لي عندَكَ بيتاً في الجنةِ ".
وأقسَى المراراتِ التي فاتت على قلبِ "أم أحمد"، وهي تدفعُ بوَلدِها إلى ميدانِ القتالِ؛ تُخاطبُه بروحِها الثكلَى "إنْ كنتَ أنت الغالي؛ فاللهُ ثُم الوطنُ أغلَى ".


أثبتتْ بنورِ نواياها وصِدقِ عملِها عكسَ ما أشاعَه الإعلامُ الغربيُّ وغيرُه، بأنها الأمُّ التي تَحملُ في أعماقِها قلباً قاسياً، وهى تذُبُّ تُرابَ التقاعسِ والتخاذلِ عن أبنائها، دافعةً بهم إلى ميادينِ المقاومةِ لمواجهةِ عدوِّهم والنيلِّ منه.


"أم أحمد" عدّتْ الليالي الطوالَ، والأيامَ الثقالَ من عُمرِ ابنِها الذي أمضاهُ وراءَ قضبانِ المحتلِّ، وحاولتْ أنْ تنتزِعَ من الحياةِ مزيداً من السنينِ لِعُمرِها؛ لِتضُمَّه ضمّةً واحدةً خارجَ مُعتقلِه؛ ولكنّ لقاءَها برَبِّها كان أكثرَ قُرباً.


ولم تهملْ مرارةَ الفقرِ والعَوزِ والفاقةِ "أم أحمد"؛ بل كانت عناوينَ لمراحلَ عديدةٍ في حياتِها من "مرحلَتي التهجيرِ والانتفاضتينِ، والحواجزِ، والجدارِ الفاصلِ" واكتملتْ القصةُ لدَى نِسوةِ غزةَ بالحصارِ المُطبِقِ الظالمِ، والذي كان خيرَ تكريمٍ لغزةَ؛ لأنها عاشتْ تجربةَ الديمقراطيةِ التي ينادي بها المجتمعُ الدوليّ، ولكنّها واجهتْ كابوسَه بنفسٍ ساميةٍ، وسواعدَ فَتيّةٍ, مُحافِظةً على كرامتِها وكرامةِ أسرتِها, تُحاولُ أنْ تخطَّ طريقَ نورٍ وسطَ حاضرٍ المٍ مُظلمٍ.


وهي ذاتُها تُمسِّكُ بزمامِ المبادرةِ, وسطَ تهميشٍ مجتمعيّ مقصودٍ وغيرِ مقصودٍ؛ لتَصِلَ وتكونَ عنواناً للصعودِ والرّيادةِ في ربوعِ جُلِّ الأعمالِ، العلمي،الأكاديمي، والإعلامي، والصحي، والشرطي، والخيري، والتنموي، لم تُهملْ درْباً إلّا ووضعتْ لِاسمِها شمعةً على قارعتِه.


كما كانت "أم أحمد" مِعوَلَ بناءٍ في الرُّكنِ التأسيسي لجميعِ الفصائلِ الفلسطينيةِ الإسلاميةِ والعَلمانيةِ واليساريةِ سواءً، فكانت شريكاً من مرحلةِ الحَرثِ والغرسِ والمُمارسةِ. 
"فأم أحمد" سيدةُ هذا الزمانِ، وإنْ لَحِقَ أحدٌ بِرَكْبِها من نساءِ العالمينَ؛ فيَقيناً أنهنَّ قد تَتلمَذْنَ على موائدِ وَعيها وصبرِها و تضحياتِها وسموِّها.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023