الأمن الحركي... الأهداف والمرتكزات
1/2
تحدثنا في المقال السابق عن الأمن القومي للدول والكيانات السياسية، وقلنا إن الأمن القومي هو عبارة عن مجموعة الإجراءات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية التي تقوم بها الدولة أو الكيان السياسي من أجل تأمين مصالحه الحيوية، التي تؤمن له ولمجموع أفراده ومكوناته المختلفة العيش الكريم، كما تشمل الإجراءات التيتتخذ للدفاع عن تلك المصالح وحمايتها من أن يُطمع فيها أو أن يعتدى عليها، كما تطرقنا في نفس المقال إلى أهداف ومرتكزات الأمن القومي للدول والوحدات السياسية.
وفي هذا المقال سنتحدث عن الأمن الحركي على اعتبار أن ما ينطبق على الدول المستقلة المستقرة فيما يخص الأمن القومي، قد لا تنطبق جزئياته على الحركات السياسية أو الحركات التحريرية، وسنحاول في هذا المقال أن نجمل الحديث في هذا الموضوع بحيث نتطرق إلى تعريف الأمن الحركي وأهدافه ومرتكزاته الكلية، آخذين بعين الاعتبار أن هذا البحث يطول الحديث فيه وتختلف فيه وجهات النظر، إنطلاقاً من كونه من العلوم الإنسانية التي لا يتفق الباحثون فيها على ما تتضمنه من مضامين وجزئيات. وهنا أيضاً نود الإشارة إلى أننا سنورد ما نعتقد أنه غير قابل للخلاف بين الباحثين فيما يخص الأهداف والمرتكزات، ونترك المجال مفتوحاً للزيادة والتفصيل فيما يخص الجزئيات والمشتقات الممكن الحديث حولها انطلاقاً من تلك الأصول التي سنوردها في ثنايا المقال.
سنبدأ بتعريف الأمن الحركي كمنطلق للبحث حول باقي جزئيات المقال، فنقول إن الأمن الحركي هو عبارة عن كامل الإجراءات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والنفسية التي تتخذها حركة سياسية أو تحررية لرعاية أصل التأمين الشامل ــأمن الأفراد، أمن الوثائق، أمن المنشآت ـــ الذي يوفر لها الديمومة وحرية الحركة والعمل في مختلف المجالات الموضوعية والجغرافية التي تنشط وتتحرك فيها.
كان هذا التعريف الذي سنبني عليه المقال ونستخلص منه ونقيس عليه ما يمكن أن يعتري حركات المقاومة أو التحرير من مخاطر داخلية أو خارجية تهدد وحدتها وتمنعها من تحقيق أهدافها؛ حتى لو طال زمن مقاومتها وصراعها مع عدوها، وهنا لابد من التذكير بأمر يغفل عنه الباحثون في مجال الأمن، أو قد لا يعطونه ما يستحق من تركيز؛ ألا هو الشكل الكلي للتهديدات التي تواجه حركات التحرر والمقاومة وما ينبثق عن هذه التهديدات من مخاطر؛ ففي الشكل الكلي لهذه التهديدات يبرز تهديدان اثنان يشكلان أصل كل التهديدات التي تواجه هذه الحركات وهما:
- الاختراق والتجنيد والعمالة:يعتقد بعض العاملين في الحقل الحركي بشقيه السري والعلني أن ما يواجههم هم والمنتمين لصفوف حركتهم من تهديدات لا يعدو أن يكون خطر اختراقهم من قبل عدوهم وزرع عملائه في صفوفهم أو تجنيد بعض العاملين في صفوف الحركة لصالح العدو، فيصبحون مصادر معلومات يزودونه بما تطاله أيديهم من معلومات وأخبار وتوجهات، تعد محل احتياج للعدو لمعرفة نوايا وتوجهات الحركة المستقبلة. هذا أمرصحيح ويجب أن يكون محل توجه وانتباه ومتابعة من قبل الأجهزة المختصة في الحركة، ترصد مؤشراته وتتابع كل شاردة وواردة فيه مهما صغر شأنها وخف دبيبها.
- انخفاض الهمة والدافع والفتور الذي ينعكس سلباً على الجاهزية: التهديد الثاني الذي يواجه حركات المقاومة والتحرير هو انخفاض الدافع لدى منتسبي هذه الحركات، فإن كان التهديد الأول خطير يودي بالحركة مهاوي الردى، إلا أنه ولاعتبار المتابعة الداخلية وتسليط الضوء عليه من قبل أجهزة الاختصاص؛ قابل للملاحظة والمتابعة والاستئصال، إلا أن هذا التهديد الثاني قد يكون أكثر خطورة من الأول كونه قد لا يلقى العناية اللازمة من جهات الاختصاص، وأثره قد لا يشاهد بوضوح في أيام الدعة والرخاء، ولكنه يبرز كتهديد قاتل بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ في الملمات والأزمات، ففي الوقت الذي تكون فيه قيادة الحركة تراهن على عدتها وعديدها وتحصي وتعد نموهم وتطورها؛ تفاجأ بانخفاض روح الحماس لديهم وقلة الدافعية للأعمال وانعدام الجاهزية عند الحاجة لها، فتقع الفأس في الرأس وتؤتى من حيث ظنت أنها في مأمن. إذن كان هذان هما منبع الشرور والتهديد والمخاطر التي تواجه حركات المقاومة والتحرير؛ فمن أين ينفذ العدو إلى داخل الجسم؟ وكيف يصل إلى داخل الصف؟ إن التعرف على الثغرات التي يلج منها العدو إلى داخل الصف، تعيننا على تحديد آليات ووسائل الحماية والوقاية من غارات العدو وكمائنه التي يشنها وينصبها في كل طريق وخلف كل زاوية. وهنا سنتطرق إلى الثغرات التي ينفذ منها العدو إلى داخل الجسم والمسارات التي يسلكها للوصول إلى أحشاء حركات المقاومة والتحرير (فيسرطنها) ويحيلها أثراً بعد عين، والتي هي على النحو الآتي:
- الأيدلوجيا: إن أول الثغرات التي يلج منها العدو إلى داخل الجسم الحركي هي ثغرة الأيدلوجيا والفكرة التي قامت عليها الحركة، وعلى أساسها تجند وتستقطب، فإذا كانت هذه الأيدلوجيا قائمة على أسس واهية وليس هناك ما يعضدها ويقويها ويواكب نموها وتكريسها في نفوس أبناء العمل الواحد، فإنها تتحول إلى ثغرة يلج منها العدو للجسم عن طريق التسفيه والضحد ونقض العرى التي قامت عليها، فينهار الدرع الأول الذي يلبسه أبناء الحركة أو التنظيم، فيسهل بعد ذلك تجنيدهم أو التأثير على هممهم ودوافعهم، وصولاً إلى خفض جاهزيتهم وكفاءتهم القتالية.
- المال: الباب الثاني الذي قد يلج منه العدو إلى داخل حركة المقاومة أو التحرير هو باب المال، فالمال زينة الحياة الدنيا، وبه تستقيم أمور العباد والبلاد، وما لم تؤمن حركة المقاومة أو التحرير ما يقيم أود منتسبيها من موازنات ومتطلبات مالية بما يضمن لهم ولذويهم المعيشة الكريمة، وفق ترتيب للأولويات واضح المرتكزات تخصص على ضوئه القدرات، مالم تفعل ذلك؛ فإنها تجعل منتسبيها والعاملين فيها عرضة لغارات العدو التي تستهدفهم من هذا الباب، فتقتنص منهم كل محتاج معوز.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن ما هو مطلوب؛ ما يؤمن كريم العيش لا ما يلهي ويشغل ويثقل ويعيق ويقعد عن العمل والتضحية. - التوريط:كما أن العدو قد يعمد إلى توريط بعض العاملين في حركات المقاومة في مختلف المشاكل الشخصية والذاتية على مستوى الفرد والعائلة، متخذاً من هذا العمل منصة ينطلق منها إلى المزيد من الإغراق في حمأة الخطيئة، وهنا إن لم ير أبناء المقاومة أو حركة التحرير في سابق سيرة حركتهم نماذج عملية عن التعامل مع مثل هذه الحالات قائمة على التصرف مع الفرد على أنه إنسان يعتريه الضعف وأن الهدف في مثل هذه الحالات هو الإصلاح وليس العقوبة، التي قد تكون جزءاً من عملية الإصلاح؛ ما لم ير الفرد مثل هذا السلوك، فإنه سيسدر في غيه ويزيد من تورطه ويمعن في الخطأ الذي لا رجعة عنه، الأمر الذي يشكل مزيداً من الضرر على الشخص وحركة المقاومة. لذلك يجب التعامل مع مثل هذه الحالات بعقل بارد وصدر واسع، وتحويل التهديد إلى فرصة.
- الــــ( أنا ): إنها أول خطأ إبليس الرجيم، بها عصى ربه وبها خرج من رحمته سبحانه، وهي التي تطمس الحقائق وتمنع وصول الخير، إن الشخص الذي يرى ذاته ولا يرى الآخرين؛ هو ثغرة كبيرة يصل منها كل شر، وحجر عثرة كبير يسد كل خير.
إنها الأنا التي يأتي العدو ليرفع من شأنها ويغذي طموحها عند الفرد، فيسيطر عليه بواسطتها ويتحكم به من خلال ما يؤمنه له من أسباب نفخها وتضخيمها، إنها الأنا التي تعمي عن الخطأ وتمنع التراجع عنه، لذلك كانت وما زالت وستبقى من الثغرات التي يلج منها العدو ويصل عبرها الخطر. - الانتقام:كما يُعد الانتقام باب من أبواب الشر الذي يصل منه العدو للجسم الحركي وينفث من خلاله سمومهويعمل بمعوله الهدم والتدمير، إنه ــ الانتقام ــ موقف يدفع له الشخص دفعاً من خلال شعوره بالظلم وعدم الانصاف والإهمال من قبل مسؤوليه أو بيئته أو مجتمعه، لذلك قبل أن يحاسب مثل هذا الشخص ـــ ويجب أن يحاسب ــ يجب السؤال عما أوصل ومن أوصل مثل هذا الشخص إلى هذا الموقف، ففي غير هذه الحالة، فإن سبب ومولد حالات الانتقام سيبقى يدفع بالآخرين إلى مثل هذا الموقف، موفراً للعدو مادة عمل وثغرات ينفذ منها الى داخل الجسم.
- الإجبار: كما قد يلجأ العدو إلى إجبار العناصر على العمل معه وتزويده بما يحتاجه من معلومات عن الحركة أو التنظيم، مستخدماً ما يتوفر لديه من وسائل الضغط والإجبار ــ تأمين احتياج ملح، التشهير، الابتزاز ــ لذلك يجب أن تومن حركة المقاومة أو التنظيم البيئة المناسبة والحضن الدافئ الذي يلجأ له الفرد في مثل هذه الحالات، فيرى فيها خط دفاعه الأول والأخير وأنها هي موئله ومنتهاه، وهي الصخرة التي تتحطم عليها كل محاولات العدو التي تستهدفه ومن خلاله تستهدف حركته بالضرر والخراب.
كانت تلك المخاطر التي تهدد حركات المقاومة والتحرير السياسية؛ العلنية منها والسرية، تلاها مجموعة الثغرات التي يحاول العدو أن ينفذ من خلالها إلى داخل الجسم فيلحق به الضرر والخراب.
فإن كانت تلك هي المخاطر وهذه هي المداخل، فما هي أهداف الأمن الحركي وما هي مرتكزاته، الأمر الذي سنأتي على ذكره في الجزء الثاني من هذا المقال إن شاء الله.
عبد الله أمين
22 03 2021