استطراداً لمقالنا السابق عن الصراع في الكيان الصهيوني، فبما أن في (إسرائيل) كل هذه الصراعات السياسية والدينية كما أن تأسيسها جاء نتيجة مصالح وتوازنات دولية؛ بحيث يمكن القول إنه لو انهزمت بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ما كان وعد بلفور والاحتلال البريطاني الذي سَهَل تطبيقه لاحقاً ولو انهزمت دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ما قامت دولة إسرائيل، بالإضافة إلى أن مجتمع هذا الكيان لمم من شعوب متعددة، بالرغم من كل ذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا هذا الكيان المصطنع الصهيوني والعنصري هو الدولة الأكثر استقراراً وتطوراً في الشرق الأوسط، ومجتمعه الأكثر تحصيناً من أي اختراقات خارجية؟.
هذا هو الواقع حتى وإن كان يصدم أو لا يُعجب البعض ممن يتمسكون بالشعارات الكبرى البعيدة عن الواقع وبالصورة التقليدية عن اليهود كما تتوارثها الأجيال العربية، وهي شعارات وتصورات لم تعد مؤثرة أو مقنعة في زمن الثورة المعلوماتية والرقمية والسماوات المفتوحة.
تعريفنا لإسرائيل شيء ومعرفتها الموضوعية شيء آخر ويجب عدم الخلط بين الأمرين، ووضع استراتيجيات المواجهة والصراع يجب أن تبنى على المعرفة العلمية الواقعية لإسرائيل وليس على تعريفنا السياسي والايديولوجي والديني لها.
الاعتراف بهذه الحقيقة لا تضفي أية شرعية على دولة الاحتلال ولكنها تنسجم مع المثل الصيني والإغريقي القديم الذي يقول (اعرف عدوك) ومعرفة العدو بموضوعية والاعتراف بقوته لا يعني الاعتراف بشرعية وجوده، كما أن هذه الحقيقة لا تتفي وجود هشاشة في بعض مفاصل هذا الكيان ولو تم الاشتغال عليها جيداً، وما زال في الإمكان ذلك، لتغيرت موازين القوى لصالح عدالة القضية الفلسطينية .
نعم يجب الاعتراف بتفوق الكيان الصهيوني في العلوم والتكنولوجيا وفي المجالات الاقتصادية والحربية، بل يمكن القول إن انتماء الإسرائيليين لدولتهم أقوى من انتماء المواطنين العرب لدولهم، بحيث نادراً ما نسمع عن إسرائيليين يهود يخونون دولتهم لصالح جهات أجنبية، كما أن الصراعات والخلافات السياسية عندهم لا تصل لدرجة الحرب الأهلية أو الاحتكام للسلاح لحلها- باستثناء عملية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين عام 1995 على يد ايغال عامير المتطرف اليهودي، أما عند العرب فحدث ولا حرج عن أشكال متعددة للخيانة والعمالة والارتباط بجهات أجنبية على حساب الوطن .
من الممكن إرجاع سبب تماسك المجتمع الإسرائيلي وقوته بالرغم من كل أشكال الصراع داخله إلى إحساس الإسرائيليين بالخطر الخارجي والخوف من زوال دولتهم، حيث التهديد الخارجي لأي مجتمع يدفع أفراده ومكوناته السياسية للترابط والتماسك وتعزيز مرتكزات القوة الذاتية حفاظاً على وجودها، وهذا التفسير ينسجم مع نظريات الصراع كما تطرق لها عديد علماء الاجتماع ومنهم العالم الألماني جورج سمبل ( Georg Simmel (1858- 1918 الذي حدد للصراع مع عدو خارجي عدة وظائف منها توحيد المجتمع وزيادة ترابطه وتماسكه.
ولكن لا يكفي تفسير سبب قوة الكيان الصهيوني وتماسك مجتمعه بوجود خطر خارجي يهدد وجوده مصدره عالم عربي وإسلامي يحيط به ويريد القضاء عليه- حتى هذا الخطر زال في السنوات الأخيرة-؛ لأنه إن كان الأمر كذلك فلماذا لا تنطبق هذه النظرية على المجتمعات العربية وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، فهي تتعرض أيضاً لتهديدات خارجية وبدلاً من أن تؤدي هذه التهديدات والمخاطر لزيادة وحدة وتماسك المجتمع فإنها تزيده تمزقاً وانهياراً؟.
فأين تكمن المشكلة يا تُرى؟
في اعتقادنا أنه بالإضافة إلى التهديد الخارجي ودوره الملتبس يمكن الإشارة إلى عدة عوامل أو معطيات كانت وراء تفوق الدولة والمجتمع الصهيوني عن جيرانه من حيث حالة الاستقرار السياسي والمجتمعي:
1- الدولة ودورها وقدرتها على توفير متطلبات الحياة الكريمة لجميع المواطنين بما في ذلك الأمن والحماية؛ ودولة الكيان الصهيوني وبالرغم من حداثتها وكونها دولة احتلال عنصري استطاعت توفير كل ذلك لمواطنيها وساعدها على ذلك قوة تحالفاتها الخارجية وولوجها عالم التطور والحداثة والثورة المعلوماتية دون أن يشكل الدين والجماعات الدينية عامل إعاقة لذلك.
2- وحدة العقيدة والأيديولوجيا، بالرغم من التعددية السياسية وتعدد وتطرف الجماعات الدينية في إسرائيل إلا أنها جميعاً تقريباً يمينية صهيونية تتوافق على وجود دولة يهودية واحدة، وكل الجماعات والقوى السياسية سواء الدينية او العلمانية ليس لديها تصورا أو تعريفا للدولة إلا دولة إسرائيل، وإن كانوا يختلفون على توقيت ظهورها ودور الدين فيها وحدودها، فالدين يلعب دوراً توحيديا لليهود، بينما الجماعات الدينية الإسلامية حوَّلت الدين لعامل فُرقة وصراع، وغالبية الجماعات الدينية في فلسطين وفي العالم الإسلامي عموماً لا تعترف بالدولة الوطنية بل بدولة الخلافة وهو مصطلح لا أصول أو مرجعية واضحة له لا في القرآن ولا في السنة، ودولة الخلافة أو الإمارة غير مرتبطة بأرض محددة بل يمكن أن تقوم في أي بقعة في العالم وبالتالي فمفهوم الانتماء الوطني ملتبس عندهم.
3- الكيان الصهيوني دولة مؤسسات وفصل سلطات وقضاء عادل بين ساكنة الدولة من اليهود، أما في الحالة العربية بما فيها الفلسطينية فالدولة دولة الرئيس أو الملك أو العسكر ولا يوجد فصل للسلطات إلا شكلياً والقضاء يأتمر بأمر ذوى السلطة والسلطان.
4- الدعم الخارجي والتوافق شبه العالمي على الحفاظ على إسرائيل. منذ تأسيسها و إسرائيل تحظى بدعم ورعاية دول الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر بقاء واستقرار إسرائيل مصلحة للغرب بل جزءاً من الأمن القومي الأمريكي، وعليه فإن العامل الخارجي مساعد بل من أهم عوامل وجود إسرائيل واستقرارها وتماسك مجتمعها، بينما العامل أو الشرط الخارجي بالنسبة للكيان والمجتمع الفلسطيني سلبي، بل يمكن القول إن أطرافاً عربية وإسلامية تناهض فكرة قيام دولة وطنية فلسطينية.
5- في الحالة الفلسطينية هناك غياب للدولة كما أن الشعب لا يعتمد على الدولة/السلطة في تأمين متطلبات حياته الضرورية من مأكل وأمن وحماية، وبالتالي فولاء افرد كثيرين يكون لمن يقدم لهم هذه المتطلبات سواء كانت العشيرة والقبيلة والعائلة والحزب أو الطائفة أو جهات خارجية وخصوصاً العربية والإسلامية، وهذا ملموس بشكل أكثر وضوحاً في قطاع غزة، كما أن الانتماء للأيديولوجيا والفكر المجرد أقوى من الانتماء لدولة غير موجودة الآن أو أنها في طور إعادة البناء، وحتى بعد قيام السلطة الفلسطينية ثم سلطة أخرى في قطاع غزة تحكمها حركة حماس لم توفر هاتان السلطتان ما يؤمن للمواطنين متطلبات حياتهم وأمنهم إلا في أضيق نطاق، فالاحتلال يواصل الاستيطان والعدوان ويتحكم في كل مناحي الحياة في الضفة والقدس، وقطاع غزة محاصر ومحكوم بحركة دينية لا تُعير كثير اهتمام بالدولة الوطنية، كما أن دول الجوار وأخرى منتمية للإسلام السياسي تنازع الانتماء الوطني في كسب ولاء المواطنين.
6- حدة الصراعات السياسية الفلسطينية ووصولها لدرجة حمل السلاح وتخوين وتكفير بعضها البعض أضعف رابطة الانتماء الوطني الجامع، ولو صحت الاتهامات المتبادلة وخصوصا بين حركتي فتح وحماس خلال السنوات الماضية لكان كل من ينتمي لهاتين الحركتين إما جواسيس أو كفار !!!.
وأخيراً، ولأن الصراع آل إلى صراع فلسطيني إسرائيلي ولو في المدى القريب، بالرغم من أن الإسرائيليين واليهود عموماً ينظرون لكل العرب والمسلمين كأعداء وهو ما يجب أن يفهمه المطبعون، و مع حقيقة أن المجتمع الإسرائيلي ومع مرور الأيام ينحو باتجاه التطرف والعنصرية، إلا أن الأمر يتطلب من الفلسطينيين بذل مزيد من الجهد لمعرفة أكبر وأعمق للمجتمع الإسرائيلي وما يعتريه من تناقضات وصراعات، وهذه المعرفة ضرورية في سياق وضع استراتيجية وطنية لمواجهة متعددة المسارات والمجالات لدولة الاحتلال، دون نسيان أن هناك 20% من المجتمع الإسرائيلي فلسطينيون ويجب أن لا ينقطع التواصل معهم .