بقلم: عبد الله أمين
يظن البعض أن الحديث من مسار يقصد فيه تحرير فلسطين من رجس المحتل، في ظل عدم تكافؤ القوى والبيئة السياسية التي نحيا فيها وحالة الانبطاح العربي الرسمي واليأس الشعبي، لا يعدو ضرباً من الخيال أو تنظيراً نظرياً لا يمكن أن يجد له سبيل للتطبيق، والبعض الآخر يركن إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم حول المعركة الفاصلة بين المسلمين ويهود ــ حديث النهر ــ والذي ضعفه الشيخ الألباني، وآخرون يركنون إلى وعد الآخرة الذي سيأتي برجال الله إلى أرض الله فيسوؤا وجوه يهود ويدخلوا المسجد مرة ثانية كما دخلوه في المرة الأولى.
على وجاهة كل ما طرح وما يحمله كل من هذه الفرضيات من معطيات تسنده ومؤيدات تؤيده، إلا أننا نعتقد أن مسار التحرير ليس ضرباً من الخيال ولا نظراً في مجهول ولا ضرباً في رمل أو قراءة فنجان؛ إنما هو مسار ممكن التحقيق والعمل عليه ومراكمة الإنجازات على طوله، بشرط تأمين أسباب البناء ومسببات النمو والإنجاز واقتفاء السنن الكونية في مثل هذه الأعمال، الأمر الذي بنيت عليه فرضية هذه المقالة التي تقول أن مسار التحرير هو مسار عملي ممكن التحقيق والبناء والسير فيه وصولاً إلى تحرير فلسطين كل فلسطين، من أرزها شمالاً إلى نخيلها جنوباً ومن نهرها شرقاً حتى بحرها غرباً.
وهنا سنتقدم في مناقشة هذه الفرضية وتفصيل مفرداتها والغوص في كنه معالمها وصولاً إلى تقديم تصور حول هذا المسار، يتطلب تفعيل ما فيه من عناوين ومفردات، إلى أعمال ومتابعات لا يمكن الحديث عنها في صحف أو مجلات أو مواقع الكترونية وتغريدات، الأمر الذي سيترك لأهل الاختصاص وأصحاب القرار ليروا فيه رأيهم ويقرروا فيه قرارهم.
أولاً : تحديد الهدف :
إن أول خطوة في هذا المسار هي تحديد الهدف النهائي المطلوب الوصول له، والمراحل المطلوب طيها في هذا المسار، كما يجب أن تتم الإجابة عن السؤال المفصلي في هذا المسار، ألا وهو، ما هو الجهد و/ أو الجهود الرئيسية التي تنجز فيها المهام الرئيسية في مسار التحرير؟ وما هي الجهود الثانوية المصاحبة للجهد الرئيسي؟
أما فيما يخص تحديد الهدف ؛ فكل العاملين لفلسطين متفقون على أن تحرير فلسطين كل فلسطين وفق التعريف الحدودي الذي جئنا عليه سابقاً، هو الهدف النهائي والغاية العليا لكل ما يقومون به من أعمال وفعاليات ونشاطات. وما في هذا من شك، ولكن الخلاف يقع عندما يتم التفصيل في كيفية الوصول إلى هذا الهدف وتلك الغاية، وهنا تذهب الناس مذاهب شتى، بدءاً ممن يقولون بالعمل العسكري الخشن وانتهاءً بمن يرون أن الانخراط في العملية السياسية والمطالبة بنظام انتخابي قائم على قاعدة: رجل واحد صوت واحد، كما حصل في جنوب أفريقيا عندما سحب السكان الأصليين البساط من تحت أقدام ( مستعمريهم ) البيض بانتخاباتٍ أفضت إلى تولي الراحل نلسون مانديلا رئاسة البلد كأول رئيس ببشرة سوداء يحكم تلك البلاد، مروراً بمن يرى أن المقاومة الشعبية هي السبيل لمقارعة محتل يختل توازن القوى بيننا وبينه، لأن هذا النوع من الأعمال يحرم العدو من تفعيل وتشغيل كامل قدراته القتالية في مواجهة متظاهرين سلميين يطالبون محتلهم مشاركته بما أحتل من أرض وغصب من خيرات !! إن هذا التنازع في تحديد الكيف الذي ستحرر به الأرض كل الأرض، يفضي إلى ضياع الجهود وتبعثر القدرات وصبها في غير مصبها الأصلي.
وهنا لا نريد أن نبدو كمن يأخذ الثور من قرنيه أو من يطرح حلولاً عدمية لا يمكن أن تصمد في وجه المنطق والعقل، لذلك نقول أن التوحد على وجهة نظر واحدة في تعريف كيفية التحرير وتحقيق الأهداف النهائي هي الخطوة الأولى التي ستحكم بناء المسار، وبدون تحديد طبيعتها الكلية، لا يمكن أن يبنى مسار أو يطرح خيار، وهنا تبرز الأسئلة الكلية التي لا ضير في طرحها في مستواها الاستراتيجي علناً، على أن تبقى الإجابات التفصيلية في مستوييها التعبوي والتكتيكي حبيسة غرف العمليات وملفات الوضعيات.
وهذه الأسئلة من قبل الآتي على سبيل المثال لا الحصر: ما هو الجهد الرئيسي في مسار التحرير المنوي بناؤه؟ هل هو جهد عسكري خشن ؟ أم مقاومة شعبية صرفة؟ أم عمل سياسي ونقابي وشعبي؟ ما هي مراحل بناء هذه المسار وما هي متطلبات كل مرحلة منها؟ متى تبدأ كل مرحلة ومتى تنتهي؟ كيف ترتب الأوليات وتخصص القدرات؟
ثانياً : تعريف العدو أو الأعداء : قد يبدو هذا العنوان غريب بعض الشيء، فهل هناك من يختلف على أن العدو الذي نواجهه هو الكيان الغاصب في فلسطين ؟ أوليس هو محتلها ومنه نريد تحريرها ؟ فعلام هذا السؤال إذن ؟ إن الداعي لهذا السؤال هو اختلاف أهل الأرض والبلاد على هذا المحتل وحقه فيما احتل واغتصب، أوليس جزءٌ من أبناء شعبنا يرون في هذا المحتل الذي يغتصب 78% من أرض البلاد فعلياً ويستبيح الــ 22 % مما تبقى منها ليلاً ونهاراً، أليس جزءٌ لا يستهان به من أبناء شعبنا يرون في هذا المحتل جاراً يجب التعايش معه وحفظ أمنه والتنسيق معه في كل شاردة وواردة ؟ بل أكثر من ذلك ؛ أليس في التيارات الفلسطينية التي تقول أنها قامت لتقاوم هذا المحتل وتقارعه من سلّم بأحقية هذا المحتل فيما احتل عام 1948 ! أوليس في أبناء فلسطين الذين احتلت مدنهم وقراهم في 1948 وفرضت عليهم ( جنسية ) هذا المحتل من يرى فيه مالكاً وولي أمر يشارك في تجميله بالمشاركة في ( مؤسسات ) حكمه التنفيذية والتشريعية ؟ فإن كان هذا هو الحال مع من هم أبناء البلد والمتضرر الرئيسي من هذا الاحتلال ؛ فما بالنا في الدائرة المحيطة بفلسطين المحتلة وما يحكمها من أنظمة وحكومات، أوليس منهم من تربطه بهذا المحتل معاهدات واتفاقيات سلام تلزمه بالتنسيق معه ضد المقاومة وأبنائها؟ ثم ها هي الدائرة الثانية المحيطة بفلسطين المحتلة بدأت تتهاوي مكوناتها الواحدة تلو الأخرى في عملية دراماتيكية سريعة، يظن المرء معها أن هؤلاء القوم كانت تربطهم بهذا المحتل صلات ووصلات قديمة قدم الكيان، وأن ما يتم الآن لا يعدو تظهير لصور التقطت في قديم الزمان! ثم ما هو توصيف الدائرة الدولية والإقليمية الأوسع؟ أو ليست في علاقاتها مع هذا الكيان أكثر قوة ومتانة من علاقاتنا نحن معها؟ أولا ترى هذه الدوائر في سلوك أبناء الأرض ما يبرر لهم سلوكهم؟ فإن كان هذا هو توصيف المشهد فيما يعنى هذا المحتل، ألا يستدعي منا جهداً وعملاً متواصلاً لإعادة تعريف هذا العدو وسبل التعاطي معه ومع من يمدونه بأسباب العيش والبقاء؟ أو ليسوا هم حبل الناس الذي قال الله فيه أنه أحد أسباب بقائهم؟ وعليه نحن نعتقد أننا لا بد من أن نعيد تعريف هذا العدو والشبكة التي تمده بأسباب البقاء والديمومة، وتعريف آليات العمل والتعامل مع كل مكونات هذه الشبكة، بترتيب يراعي الأولويات والمقتضيات، ليبني على الشيء مقتضاه، وبدون إعادة التعريف هذه؛ قد نجد أنفسنا في قادم الأيام نقاتل ــ فعلاً وقولاً ــ أناس وأنظمة وحركات؛ كنا نعتقد أنهم معنا فإذا هم ضدنا، وبدلاً من يصبّوا دلاء مائهم في طاحونة التحرير؛ فإذا بهم يسكبونها في ناعورة المحتل.
ثالثاً: تعريف الحليف أو الحلفاء: تحدثنا في أحد المقالات حول المقاومة وطبيعتها وأركان وجودها وديمومتها الأربعة؛ حيث قلنا في حينه أنه حتى يكون لديك مقاومة لا بد لك من أركان أربعة هي: القضية العادلة، القيادة الراشدة، الشعب الواعي، الحليف الصادق المستعد للذهاب معك في الشوط إلى آخره. وهنا نريد أن نبسط الحديث في أمر هذا الحليف بما يسمح به المقام في غير إيجاز مخل أو إطناب ممل، فالحليف الصادق المستعد لتقديم ما تتطلبه المقاومة من مقومات صمود ؛ من العملات النادرة في هذا الزمن؛ لاعتبار أن العلاقات الثنائية بين المكونات السياسية المختلفة قائمة على قاعدة المصلحة والمصلحية، فحيثما تقاطعت مصالح طرفين أو عدة أطراف على مصلحة واحدة أو مصالح عدة؛ تكونت بينهم علاقات ونمت فيما بينهم المشتركات، فالدول والكيانات ــ مطلق الدول والكيانات ــ السياسية ليست جمعيات خيرة ولا نوادي رياضية ولا دور عجزة تقدم الدعم المادي والمعنوي للآخرين بدون مقابل، لذلك قبل بناء التحالفات ومد يد الصداقات من أجل بناء العلاقات لا بد من التفكير ملياً بمسببات قيام هذه العلاقة وما يمكن أن يؤثر عليها سلباً أو إيجاباً. أما فيما يخص فلسطين ومسار تحريرها وما هو مرتبط بعنوان الحلفاء والتحالفات، لا بد من إعادة تعريف هذه التحالفات وترتيب العلاقة مع أولائك الحلفاء على قاعدة مصلحة أصل مشروع التحرير وعلّة قيام حركات المقاومة الفلسطينية ألا وهي تحرير فلسطين؛ كل فلسطين، فما كل ما هو موجود الآن يخدم في أصل الهدف هذا ! وإن قدمت بعضها بعض الخدمات هنا أو هناك، والسبب من إعادة طلب ترتيب وتعريف هذه التحالفات يرجع إلى أن بعضها وفي حال التدقيق والتمحيص المتجرد؛ إنما هو مَغرمٌ في ثوب مغنم، وحركات المقاومة لا تملك فائض وقت ولا فائض كوادر ولا فائض ماليات وموازنات لتقيم شبكة من العلاقات تضرب شرقاً وغرباً بغير طائل أو قليل جدوى، ظانين أننا دولة مستقلة مستقرة ترى أنها يجب أن تقيم أكبر كم من العلاقات السياسية والدبلوماسية، بل إن الدول تراها في كثير من الأحيان تخفف من بعض العلاقات السياسية التي ترى أنها تكبلها أكثر مما تمنحها من هامش مناورة ومساحة عمل، فإن كانت الدول كذلك؛ فمن باب أولى أن تكون حركات المقاومة متخففة مما لا يصب في أصل الهدف من تكونها ونشوئها، حتى لا تصبح هذه العلاقات في ظرف من الزمن عائقاً ومكبلاً لحركة المقاومة السياسية والتعبوية.
كان هذا ما اتسع له المقال في هذا المقام، على أن نستكمل في الجزء الثاني بعض متطلبات بناء هذا المسار، آملين أن تكون هذه السلسلة بعد أن نختمها محركاً لحوار وورش عمل تحول ما جاء في هذه السلسلة من أفكار إلى إجراءات تنفيذية وخطط عمل تعبوية.