إنها أفغانستان؛ مقبرة الغزاة كما يسميها من غزاها؛ بدءاً من البريطانيين ومروراً بالسوفييت وانتهاء بالأمريكان الآن، ما غزاها غاز أو طمع بها طامع إلا ردته خائباً مخزياً محطماً على سفوح الهندكوش وفي ممرات خيبر وأودية خوست وسلاسل جبال نورستان، هُزمت قوات شركة الهند البريطانية بقيادة إلفينستون في حرب مع الأفغان استمرت من 06 حتى 13 01 1842 متكبدةً خسائر قدرت بـــــ 16000 قتيل لم ينج منهم إلا شخص واحد هو مساعد جراح يدعى ويليام برايدن في كارثة وصفتها مجلة الأيكونومست بأسوأ كارثة عسكرية بريطانية حتى سقوط سنغافورة بعد قرن بالضبط من ذاك التاريخ، وخرج منها الروس مدحورين مكسورين بعد غزو امتد إلى عشر سنوات من 1979 حتى 1989، خسر فيه الاتحاد السوفيتي 14453 قتيل و 265 مفقود فضلاً عن خسائر مادية تعد بمئات الطائرات والدبابات والمصفحات، هزيمة عدها المؤرخون المسمار الرئيسي الذي دُق في نعش الاتحاد السوفيتي إلى أن شظّاه إلى دول وممالك في عالم 1990، ثم جاء الدور على الأمريكان الذين غزوا هذا البلد تحت حجة الانتقام لأحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، فجاسوا خلال الديار طولاً وعرضاً، تدميراً وذبحاً، ولكن لم يقر لهم قرار ولم توقد لهم فيها نار، بقوا حبيسي قواعدهم مستعينين بحلف الناتو فحشدا عشرات آلاف المقاتلين فضلاً عن المرتزقة والمتعاقدين، دخلوا إلى هذا البلد ولم يراجعوا التاريخ ولم يقرأوا عن الأفغان إلا ما قاله لهم صاحب سلسلة مطاعم ــ حامد كرزاي ــ جيء به ليصبح رئيساً على دبابة أمريكية؛ فأصبح اسمه قريناً للعمالة ووسماً يوسم به كل متعاون مع محتل، وبعد عشرين سنة صحوا من نومهم بعد أن كبدتهم أفغانستان 3200 قتيل و 20500 جريح و 670 مليار دولار حسب أرقام وزارة الدفاع الأمريكية، لم يحسبوا حساب الجدوى والأكلاف لمغامرتهم البائسة، ولو راجعوا التاريخ لكفو أنفسهم عناء الخسائر وتقليل الهيبة أمام شعب أقل ما يقال فيه أنه ما زال يعيش في القرن التاسع عشر ــ لا يغرنكم دخول النت والهواتف المحمولة وربطات عنق يتزين بها عبد الله عبد الله الرئيس التنفيذي لافغانستان ـــ فالعارفون ببواطن الأمور يعون أن هذا الشعب ما زال هناك في القرن التاسع عشر، وما في هذا التوصيف من إهانة لهم، فهم أهل للفخر والاعتزاز، إنما هو توصيف يساعد على فهم ما حصل وسيحصل هناك في الأيام القادمة.
اختارت أمريكا أن يكون انسحاب قواتها المقدرة بين 2500 ـــ 3500 جندي عدا عن المتعاقدين المدنيين، في الذكرى العشرين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، منهية ــ إن تم الانسحاب ــ أطول غزو لها لبلد أجنبي، مبقية على بعض القدرات التي لم يُفصح عنها وفقاً لتصريح رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز. لكن لماذا الآن ؟ وماهي دوافع الزمان والمكان التي دفعت لاتخاذ هذا القرار ؟
لن نخوض في دوافع الزمان، فقد يقال فيها الكثير من قبيل الرغبة الأمريكية في سحب أوراق ضغط من أيدى منافسين لها في المنطقة، بدءاً بإيران مروراً بروسيا وانتهاء بالصين، قد يعمدون ــ منافسو أمريكا في المنطقة ـــ إلى استخدام الساحة الأفغانية كرافعة ضغط على أمريكا لدفعها إلى التنازل في ملفات هي محل اشتباك بين هذه الأطراف وبينها، وقد يقال أن عشرين سنة من الاحتلال كانت كافية لتعلم الدرس والوصول إلى قناعة أن لا سبيل لتحقيق الأهداف في هذا البلد، وإن كان فيها حكومة طيعة يمكن أن تعمل على تنفيذ ما ترد الإدارة الأمريكية بدون خسائر وأكلاف تدفع من اللحم الحي، وغير هذا من تفاسير وتحاليل.
لكن قد يغفل المحللون أو المتابعون عن أهم دافع لقرار الانسحاب، أو قد لا يولونه كبير اعتناء على اعتبار أن ما قيل في دوافع الزمان كاف لأخذ قرار الانسحاب، الأمر الذي لا نظن أنه صحيح ولا يستقيم مع هذا الموقف؛ حيث نرى أن أهم دافع للانسحاب هو دافع المكان الذي يسكن فيه الانسان، لذلك فإن هذه المقالة وبعد هذه التوطئة التاريخية تعنى بتسليط الضوء على هذا الدافع لمعرفة نقاط قوته التي ضغطت على هذا المحتل فدفعته كما دفعت من سبقه للانسحاب.
ففي دافع المكان؛ نحن نتحدث عن دولة مساحتها لا تقل عن 6475000 كلم مربع مختلفة التضاريس سماها من غزاها من بريطانيين بلاد الصخور والصحاري والرمال والثلوج والجليد، سلاسل جبالها تكاد تعانق السماء في قمم يصل بعضها إلى 7492 متر فوق سطح البحر، تظنها غير مسكونة ولكنها تختزن في سفوحها شعوباً وأقواماً مرأوا على صعودها والنزول عنها بلا عناء أو شقاء، بلد لا يتمتع ببنى تحتية كما يظن البعض، فلا يمكن حصار أهله ولا قطع طرق سيرهم وترددهم، فالسير في الجبال والوديان عندهم اسهل من السير على طرق معبدة وممرات مرصوفة، الدواب عندهم للنقل أهم من السيارات !.
وما أضفى ويضفي أهمية على المكان، من يقطنه ويسكنه من بشر وإنسان، فمن هم هؤلاء الــ 38,928,346 نسمة الذين طوعوا ثلاث إمبراطوريات مرت في تاريخهم القديم والحديث، فاستعصوا على الكسر، مع ما نال جسدهم من جراح غارت في جلودهم ( غوران ) أوديتهم في سهولهم، وتركت ندباً على بشرتهم كندب جبالهم فوق أراضيهم. وحيث أن الفصل الحالي ــ ولا أظنه يكون الأخير ــ الذي يخط في تاريخ أفغانستان ( الحديثة ) يخط باسم طالبان، فسنعرج على ذكرهم والتعريف بهم، حيث كثر الحديث حولهم ولمن ينتسبون ومن الذي يدعمهم ويقف خلفهم، ثم نختم بتوصيف هذا الشعب الذي منه خرج طالبان لنقول أن هذه الصفات هي نقاط قوة هؤلاء القوم، كانت وما زالت وستبقى ما بقي ( كوه بابا ) في باميان.
أما عن طالبان فهم جزء من هذا الشعب درسوا وما زالوا يدرسون في مدراس باكستان الدينية الكبيرة منها كالمدرسة الحقانية في بيشاور التي خرجت معظم قادتهم، وتلك الصغير منها في فناء مسجد في بيشاور أو كوتا أو جلال أباد أو خوست أو غزني، من هذه المداس استمدوا اسمهم ورسمهم، وهم عابرون للأحزاب؛ ففي حقبة ما قبل ظهورهم أي ما قبل 1994 كانوا منتشرين في كل الأحزاب الأفغانية، بدءاً بأكثرها تنظيماً وصرامةً وانضباطاً؛ الحزب الإسلامي بزعامة حكمت يار الذي أصدر هو وقيادة الحزب أمراً لكوادرهم ومنتسبيهم أن ينضموا لحركة طالبان التي بدأت تقضم الأرض وتسيطر عليها إنطلاقاً من قندهار وجلال آباد وخوست وغيرها من المدن، كما كانوا في الاتحاد الإسلامي بزعامة الأستاذ سياف، والجمعية الإسلامية بزعامة المرحوم برهان الدين رباني، مروراً بحزب الحركة الإسلامية بزعامة صبغة الله مجددي وفصيل القائد محمد نبي وغيرهم من القادة، هذا الأمر الذي ساعدهم في السيطرة على كامل التراب الأفغاني في أقل من ثلاث سنوات منذ ظهورهم الأول في بدايات 1994 إلى حين دخولهم كابل عام 1997، هؤلاء هم طالبان ــ باختصار ــ الذين خرجوا من رحم الشعب الأفغاني ومن جبال ووهاد أفغانسان، ولكن ما هي الصفات التي يتميز بها هذا الشعب الذي خرج منه هذا الفصيل الذي جعل منهم رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في أي تسوية في هذا البلد الجريح الذي ما فتئ يقاتل منذ ما يزيد عن 42 سنة ؟ هذا هو مربط الفرس ومكمن الفائدة المعول بعد الله عليها في تعلم دروس سريعة من مقاومة هذا الشعب العظيم، علنا نجد ـــ وأكيد سنجد ــ فيه ما يسند مسيرنا ويجبر كسيرنا، وهنا نقول أن من أهم صفات هؤلاء القوم:
هذا غيض من فيض هؤلاء القوم، قد يساعد في فهم طبيعتهم وكيف يتصرفون، وما هم بـــ ( دواجن ) فيدجنون ولا بملائكة فلا يقلدون ولا عمالقة فلا يهزمون، إنما هم بشر مما خلق ربنا وبرأ، لهم وعليهم، والفطين من أخذ بخير ما عندهم ليتقي شر ما أصابهم.