إدارة المعركة... بين الفعل والانفعال
كثر الحديث في الأيام الأخيرة وعلى هامش هبة الأقصى والمواجهات الجارية في القدس بين أبنائها وقطعان المستوطنين حول غزة وسلاحها وأنها يجب أن تتدخل في مثل هذه المعركة اسناداً ودعما لهبة أهلنا هناك، وأنها ــ غزة ـ يجب أن ترسل من الرسائل الخشنة ما يُفهم العدو أن هناك سلاح يمكن يشهر في وجهه إن هو تمادى وسدر في غيه، وما قيمة السلاح إن لم يشهر دفاعاً عن القدس والمقدسات وعن الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ وعلى هامش هذا النقاش يحضر في الذهن ما قيل ويقال وسيبقى يقال ويسأل حول الحكمة من سكوت إيران أو حزب الله على ما يتلقيانه من ضربات في سوريا أو العراق من قبل العدو الإسرائيلي؟ ولم يكظمون غيظهم ويعضون على جراحهم ويبتلعون (الإهانة) تلو الإهانة؟ فلا يردون إلا بضربات رمزية هنا وأخرى هناك، وبالمناسبة هو نفس السؤال الذي طرح من قبل محبي المقاومة في فلسطين عندما استهدف مجاهدوها في آخر اشتباك مع العدو باصاً قد توقف للتو وأنزل جنوداً منه، وبعد نزولهم استهدف الباص بصاروخ مضاد للدروع، كان مطلقه قادراً لو أراد أن يصيبه في منتصفه ( فينعف) من كان فيه ( نعفاً) فلا يبقى منهم ولا يذر، فما الذي جعله يعدل عن هذا الأمر؟ وهل هذا العدول من بنات أفكار هذا المجاهد الأسد الرابض خلف قاذفه؟ أم هو أمر صدر له باستهداف النقطة التي استهدفها من الباص لإرسال رسالة للعدو تحمل في طياتها من المعاني ما تحمل دون أن تخضب بكثير من الدماء؟ إن هذه المقالة تناقش في طيتها إدارة المعركة وكيف يتم التصعيد فيها أو التهدئة على قاعدة أن الفعل العسكري الخشن إنما هو فعل يُلجأ له كآخر أداة في منظومة تحصيل المصالح أو الدفاع عنها فهو كيٌ إذا استعصى الداء على دون الكي من الدواء. وهنا لا بد لنا من التذكير بالحرب وتعريفها غير موغلين في كثير من التعاريف والتفاصيل التي يُنسي أولها آخرها، لذلك سنعمد إلى أبسط تعاريف الحرب كما عرفها المفكر العسكري كلاوزفيتز عندما قال: إن الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى، فالحرب إذاً فعل يُستحضر عندما تعجز الدول بما تملك من أدوات فعل سياسية ودبلوماسية ممثلة بالمفاوضات والوساطات، أو وسائل الفعل الاقتصادية من حصارٍ وتضييق على خصومها من أجل فرض إرادتها عليه لتحصيل مصلحة أو دفاعاً عنها. فإن عجزت هذه الوسائل عن تحقيق الهدف؛ تعمد الدول إلى تفعيل ما يناسب من قدرات قتالية تتناسب مع الهدف المنوي تحصيله أو الدفاع عنه، بعد أن تخضع هذا الهدف لمعادلة الجدوى والأكلاف، فلا الشرع ولا العقل والعرف والمنطق يقول أننا من أجل تحصيل هدف ما يحمل قيمة معنوية أو مادية معيّنة؛ يجب أن نضحي بالغالي والنفيس، ولا ضير من هدم نصف البلد الآن من أجل تحرير قرية حدودية احتلها الغاصب أو اعتدى عليها بالأمس. وهنا ندخل في جدلية قد يطول الحديث فيها وهي من سنخية جدلية الدجاجة والبيضة وأيهما مقدم على الثاني، بمعنى هل السياسة مقدمة على الفعل العسكري أم أن الفعل العسكري يغرس غراساً يحصدها العمل السياسي؟ إن كاتب هذه السطور يعتقد أن هذه الجدلية إن كانت مطروحة لقياس فعل دولة مستقلة مستقرة ؛ فإن الفعل السياسي فيها مقدم على الفعل العسكري، بحيث تستنفد الدولة كل الوسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في تحصيل المصالح والدفاع عنها، فإن نهضت هذه الوسائل بما هو مطلوب، فبها ونعمت، وإن لم تف وكان الهدف أو المصلحة مما لا يستغنى عنه ولا يمكن السكوت عليه ؛ عمدت إلى اخضاع هدفها المطلوب لمعادلة الجدوى والاكلاف؛ ليبنى على الشيء مقتضاه من تحديد لحجم ونوع وكم وزمان ومكان القدرة المطلوب تشغيلها دفاعاً أو تحصيلاً لتلك المصلحة، أو الكف عن الاستخدام الآني للقدرات إلى حين توفر الظروف الموضوعية والذاتية التي تمكنها من تحصيل ما فوتته سابقا ً، هذا في عرف الدول وكخلاصة السياسة مقدمة على الفعل العسكري. أما في عرف حركات المقاومة التي تقارع محتلاً احتل واغتصب وشرد وقتل وهجر ولا يعترف بحق ولا ينوي التنازل عما اغتصب ؛ فإن الأمر على عكس ما قيل في شأن الدول المستقلة المستقرة، فالمقاومة العسكرية معنية بأن تفرض على العدو باستخدام ما يناسب من القوة الخشنة مواقف جغرافية وموضوعية تُستثمر على صورة إنجازات وتحقيق أهداف وتحصيل حقوق ضمن مسارات تحريرها لأرضها والدفاع عن مصالحها ومصالح شعبها، الأمر الذي يتطلب مساراً متدرجاً يراعي القدرات والإمكانات والظروف الزمانية المكانية التي تجعلها لا تخسر أكثر مما تكسب، ولا توفر للعدو الظروف التي تجعله يشغل من القدرات ما لا تتحمله ولا تطيقه، فيدمر ما بنت وما راكمت من قدرات، هي في أشد الحاجة لها للمعركة الفاصلة أو لتحقيق هدف حيوي ومهم لم يحن أوانه. إن الحرب من أعقد النشاطات التي يمارسها الإنسان ففيها تختلط العاطفة مع العقل، وتمتزج المشاعر مع الأحاسيس، فمرة أنت مطالب أن تقدم أحاسيسك ومشاعرك على عقلك، وأحياناً لا مكان ولا مجال للأحاسيس والمشاعر والعواطف، بل أنت بحاجة إلى قلب من صوان ومشاعر متجلدة ورأس بارد، هذا في حق الجندي الذي يخوض المعركة على الأرض؛ فما بالك بمن يقودها ويراها بكل تفاصيلها، وهو مسؤول عن كل قطرة دم تراق أو بيت يهدم أو جندي يؤسر وأرملة ترمل، وهو ــ القائد ــ مطالب أن يتصرف برباط جأش وهدوء رأس، خال من العواطف مقدرٌ لمآلات الأمور، فبإشارة منه تراق الدماء وتهدم الحواضر، مستحضراً للهدف النهائي لمعركته، مقدماً ما هو أهم على ما هو مهم، مرتباً للأوليات مخصصاً للقدرات بما يحقق له الأهداف بأقل الخسائر وأقصر الأزمان، مستحضراً نصب عينيه أن أخطر صفة في أي قائد هي: عدم معرفته بمحددات القدرة، فيتعامل معها على أنها غير مسقوفه بسقف ولا يحدها حد، (مشخصناً ) الأمور متعاملاً معها بردات فعل غير معلومة العواقب، ناسياً أو متناسياً وتحت ضغط الظروف الميدانية أن القدرة تقيدها قيود وتحد من طاقتها أمور من قبيل:
وفي موروثنا الشرعي والديني الكثير من هذه الآيات والأحاديث التي تسند مثل هذا الأمر وتؤيده، ولكن المقام لا يتسع.
إنها معادلة معقدة يتداخل فيها المادي مع المعنوي والعقل مع العاطفة، ولا يمكن أن يتم التعامل معها بردات فعل، فالعمل بردات فعل في ميدان السياسة فضلاً عن الميدان العسكري يفضي إلى كوارث ومصائب لا تحمد عقباها، فكما أن الشيطان يلعب بالحديد ( الانسان حاد الطبع ) كما يلعب الأطفال بالدمية، فإن العدو يلعب بالحديد وفقاً لما يضع هو ـ العدو ـ من شروط وما يفرضه من وقائع ويسوقه إلى حتفه سوقاً وهو ــ الحديد ـ يظن أنه يحسن صنعاً.
عبد الله أمين
28 04 2021