إدارة المعركة... بين الفعل والانفعال

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

إدارة المعركة... بين الفعل والانفعال

كثر الحديث في الأيام الأخيرة وعلى هامش هبة الأقصى والمواجهات الجارية في القدس بين أبنائها وقطعان المستوطنين حول غزة وسلاحها وأنها يجب أن تتدخل في مثل هذه المعركة اسناداً ودعما لهبة أهلنا هناك، وأنها ــ غزة ـ يجب أن ترسل من الرسائل الخشنة ما يُفهم العدو أن هناك سلاح يمكن يشهر في وجهه إن هو تمادى وسدر في غيه، وما قيمة السلاح إن لم يشهر دفاعاً عن القدس والمقدسات وعن الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ وعلى هامش هذا النقاش يحضر في الذهن ما قيل ويقال وسيبقى يقال ويسأل حول الحكمة من سكوت إيران أو حزب الله على ما يتلقيانه من ضربات في سوريا أو العراق من قبل العدو الإسرائيلي؟ ولم يكظمون غيظهم ويعضون على جراحهم ويبتلعون (الإهانة) تلو الإهانة؟ فلا يردون إلا بضربات رمزية هنا وأخرى هناك، وبالمناسبة هو نفس السؤال الذي طرح من قبل محبي المقاومة في فلسطين عندما استهدف مجاهدوها في آخر اشتباك مع العدو باصاً قد توقف للتو وأنزل جنوداً منه، وبعد نزولهم استهدف الباص بصاروخ مضاد للدروع، كان مطلقه قادراً لو أراد أن يصيبه في منتصفه ( فينعف) من كان فيه ( نعفاً) فلا يبقى منهم ولا يذر، فما الذي جعله يعدل عن هذا الأمر؟ وهل هذا العدول من بنات أفكار هذا المجاهد الأسد الرابض خلف قاذفه؟ أم هو أمر صدر له باستهداف النقطة التي استهدفها من الباص لإرسال رسالة للعدو تحمل في طياتها من المعاني ما تحمل دون أن تخضب بكثير من الدماء؟ إن هذه المقالة تناقش في طيتها إدارة المعركة وكيف يتم التصعيد فيها أو التهدئة على قاعدة أن الفعل العسكري الخشن إنما هو فعل يُلجأ له كآخر أداة في منظومة تحصيل المصالح أو الدفاع عنها فهو كيٌ إذا استعصى الداء على دون الكي من الدواء. وهنا لا بد لنا من التذكير بالحرب وتعريفها غير موغلين في كثير من التعاريف والتفاصيل التي يُنسي أولها آخرها، لذلك سنعمد إلى أبسط تعاريف الحرب كما عرفها المفكر العسكري كلاوزفيتز عندما قال: إن الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى، فالحرب إذاً فعل يُستحضر عندما تعجز الدول بما تملك من أدوات فعل سياسية ودبلوماسية ممثلة بالمفاوضات والوساطات، أو وسائل الفعل الاقتصادية من حصارٍ وتضييق على خصومها من أجل فرض إرادتها عليه لتحصيل مصلحة أو دفاعاً عنها. فإن عجزت هذه الوسائل عن تحقيق الهدف؛ تعمد الدول إلى تفعيل ما يناسب من قدرات قتالية تتناسب مع الهدف المنوي تحصيله أو الدفاع عنه، بعد أن تخضع هذا الهدف لمعادلة الجدوى والأكلاف، فلا الشرع ولا العقل والعرف والمنطق يقول أننا من أجل تحصيل هدف ما يحمل قيمة معنوية أو مادية معيّنة؛ يجب أن نضحي  بالغالي والنفيس، ولا ضير من هدم نصف البلد الآن من أجل تحرير قرية حدودية احتلها الغاصب أو اعتدى عليها بالأمس. وهنا ندخل في جدلية قد يطول الحديث فيها وهي من سنخية جدلية الدجاجة والبيضة وأيهما مقدم على الثاني، بمعنى هل السياسة مقدمة على الفعل العسكري أم أن الفعل العسكري يغرس غراساً يحصدها العمل السياسي؟ إن كاتب هذه السطور يعتقد أن هذه الجدلية إن كانت مطروحة لقياس فعل دولة مستقلة مستقرة ؛ فإن الفعل السياسي فيها مقدم على الفعل العسكري، بحيث تستنفد الدولة كل الوسائل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في تحصيل المصالح والدفاع عنها، فإن نهضت هذه الوسائل بما هو مطلوب، فبها ونعمت، وإن لم تف وكان الهدف أو المصلحة مما لا يستغنى عنه ولا يمكن السكوت عليه ؛ عمدت إلى اخضاع هدفها المطلوب لمعادلة الجدوى والاكلاف؛ ليبنى على الشيء مقتضاه من تحديد لحجم ونوع وكم وزمان ومكان القدرة المطلوب تشغيلها دفاعاً أو تحصيلاً لتلك المصلحة، أو الكف عن الاستخدام الآني للقدرات إلى حين توفر الظروف الموضوعية والذاتية التي تمكنها من تحصيل ما فوتته سابقا ً، هذا في عرف الدول وكخلاصة السياسة مقدمة على الفعل العسكري. أما في عرف حركات المقاومة التي تقارع محتلاً احتل واغتصب وشرد وقتل وهجر ولا يعترف بحق ولا ينوي التنازل عما اغتصب ؛ فإن الأمر على عكس ما قيل في شأن الدول المستقلة المستقرة، فالمقاومة العسكرية معنية بأن تفرض على العدو باستخدام ما يناسب من القوة الخشنة مواقف جغرافية وموضوعية تُستثمر على صورة إنجازات وتحقيق أهداف وتحصيل حقوق ضمن مسارات تحريرها لأرضها والدفاع عن مصالحها ومصالح شعبها، الأمر الذي يتطلب مساراً متدرجاً يراعي القدرات والإمكانات والظروف الزمانية المكانية التي تجعلها لا تخسر أكثر مما تكسب، ولا توفر للعدو الظروف التي تجعله يشغل من القدرات ما لا تتحمله ولا تطيقه، فيدمر ما بنت وما راكمت من قدرات، هي في أشد الحاجة لها للمعركة الفاصلة أو لتحقيق هدف حيوي ومهم لم يحن أوانه. إن الحرب من أعقد النشاطات التي يمارسها الإنسان ففيها تختلط العاطفة مع العقل، وتمتزج المشاعر مع الأحاسيس، فمرة أنت مطالب أن تقدم أحاسيسك ومشاعرك على عقلك، وأحياناً لا مكان ولا مجال للأحاسيس والمشاعر والعواطف، بل أنت بحاجة إلى قلب من صوان ومشاعر متجلدة ورأس بارد، هذا في حق الجندي الذي يخوض المعركة على الأرض؛ فما بالك بمن يقودها ويراها بكل تفاصيلها، وهو مسؤول عن كل قطرة دم تراق أو بيت يهدم أو جندي يؤسر وأرملة ترمل، وهو ــ القائد ــ مطالب أن يتصرف برباط جأش وهدوء رأس، خال من العواطف مقدرٌ لمآلات الأمور، فبإشارة منه تراق الدماء وتهدم الحواضر، مستحضراً للهدف النهائي لمعركته، مقدماً ما هو أهم على ما هو مهم، مرتباً للأوليات  مخصصاً للقدرات بما يحقق له الأهداف بأقل الخسائر وأقصر الأزمان، مستحضراً نصب عينيه أن أخطر صفة في أي قائد هي: عدم معرفته بمحددات القدرة، فيتعامل معها على أنها غير مسقوفه بسقف ولا يحدها حد، (مشخصناً ) الأمور متعاملاً معها بردات فعل غير معلومة العواقب، ناسياً أو متناسياً وتحت ضغط الظروف الميدانية أن القدرة تقيدها قيود وتحد من طاقتها أمور من قبيل: 

  1. القيود الشرعية: فشرع الله وما أمر به هو أول قيد من القيود التي تنظم عمل القدرة، فقد قيدها ربنا في قرآنه في كثير من الآيات، فقوله سبحانه "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " قيد للقدرة،  وعندما قال عز من قائل " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة  " قيد القدرة مكاناً في ظرفٍ زماني معين، وعندما أوصى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم قادتهم بأن لا يقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا يقطعوا شجرة ولا... ؛ قيدوا فعل قادتهم وحددوا لهم أهداف استخدام القدرة التي بين أيديهم. 

وفي موروثنا الشرعي والديني الكثير من هذه الآيات والأحاديث التي تسند مثل هذا الأمر وتؤيده، ولكن المقام لا يتسع. 

  1. القيود السياسية: كما أن من محددات القدرة ومقيداتها؛ التدابير السياسية التي تصدر عن قادة الدولة أو قيادة المقاومة، فالقائد قبل أن يأخذ قراراً أو يصدر أمراً لابد له من تصور رد فعل خصمه عليه، وكيف سيكون سلوك عدوه في الرد على سلوكه، فإن كان الهدف أو المصلحة المطلوب تحصيلها أو الدفاع عنها تحصل أو تحمى بأقل الجهود العسكرية وبأقل الخسائر البشرية والمادية، فما هي الحكمة في إصدار أوامر باستخدام القوة بكامل طاقتها؟ إن ما تصدره القيادة السياسية للدولة أو المقاومة من تدابير وضوابط لاستخدام القوة، هي قيد لها من أن تسدر في غيها، فتفسد أكثر مما تصلح وتهدم أكثر مما تبني، فالجهاد في مآلاته النهائية، حياة وإحياء. 
  2. قيود جغرافية: كما أن الجغرافيا قد تقيد القدرة، فما كل ما تملك من قدرات ممكن الاستخدام في أي جغرافيا وفي أي مكان، ففي العمل في المناطق الجبلية تقيد قدرات المشاة، والعمل في الصحاري يقيد بعض الوسائل الجوية ــ مثلاً طائرة الترنيدو وهي ما هي من التطور، لا يمكن أن تعمل في ظروف الصحراء ــ والعمل في الغابات يقيد سلاح المدرعات وغيرها من البيئات الجغرافية، القصد أن الجغرافيا تقيد وتحد وتفرض نفسها على المشهد، شاء القائد أم أبى.
  3. قيود ديموغرافية: فقائد الدولة أو المقاومة إنما يستخدم قدراته القتالية من أجل الدفاع عن مصالح شعبه وتحقيقاً لأهدافهم، وأهم مصلحة من مصالح الشعب الحفاظ على حياتهم ورغد عيشهم، وهو وهم يضحون ببعض بنى جدلتهم طائعين مختارين من أجل تأمين مصالح البقية منهم، فإن كان استخدامهم لقدراتهم القتالية في ظرف زماني أو مكاني معين سوف يفني الأعم الأغلب منهم ؛ فما هي المصلحة من ذلك؟ وأين يمكن استخدام القاعدة الشرعية التي تقول بقبول أخف الضررين دفعاً لأعظمها إن لم يكن في مثل هذا الموضع؟ وهل  الشرع والعقد والعرف والحكمة تقول بأن يشن القائد هجوماً جوياً أو مدفعياً على عدوه وهو يعلم أن هجومه إن قتل عشرة من أعدائه ــ جنداً كانوا أو مدنيين ــ سوف يكون رد عدوه عليه بقتل مئات من بني قومه؟ وأن هدمه لمنزل عند عدوه، يجدي ولو كان يقابله هدم حي عنده؟   
  4. قيود ذاتية: فالدول والمقاومات تبني قدراتها وتراكمها من أجل تحقيق مصالحها، وليس هناك دولة ولا حركة مقاومة ملكت من القدرات أو الإمكانيات وبشكل آني وفوري ما يمكنها من مقارعة أعدائها أو الدفاع عن مصالحها وتحقيق أهدافها مرة واحدة، وإنما تبني هذه القدرات بشكل متدرج وضمن مسار غير خطي يراعي تطور قدرات العدو والتهديدات والمخاطر التي تواجه هذه الدولة أو تلك الحركة، لذلك ليس من الدين ولا العقد ولا العرف في شيء أن تستخدم قدراتك أولاً بأول أو أن توفر لعدوك من المبررات ما تجعله ( يجز ) قدراتك كلما نمت وتعاظمت، فأنت يجب عليك أن تراكم من القدرات أكثر بكثير مما يطلبه تحقيق الهدف أو الدفاع عن المصلحة، بحيث إن اضطررت لتفعيل قدراتك لتحصيل أهدافك ؛ حصلتها، مع بقاء شيء من القدرة للدفاع عن المنجز أو تثبيت الأمر الواقع الذي وصلت له. 

إنها معادلة معقدة يتداخل فيها المادي مع المعنوي والعقل مع العاطفة، ولا يمكن أن يتم التعامل معها بردات فعل، فالعمل بردات فعل في ميدان السياسة فضلاً عن الميدان العسكري يفضي إلى كوارث ومصائب لا تحمد عقباها، فكما أن الشيطان يلعب بالحديد ( الانسان حاد الطبع ) كما يلعب الأطفال بالدمية، فإن العدو يلعب بالحديد وفقاً لما يضع هو ـ العدو ـ من شروط وما يفرضه من وقائع ويسوقه إلى حتفه سوقاً وهو ــ الحديد ـ يظن أنه يحسن صنعاً.

عبد الله أمين

28 04 2021

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023