سيف القدس ... لماذا فشلت ( إسرائيل ) ؟
للخبير العسكري والأمني: عبدالله أمين
بعد الحرب التي شنتها ( إسرائيل ) على لبنان في تموز 2006 وصمود المقاومة اللبنانية ثلاثة وثلاثون يوماً في وجه العدو الإسرائيلي ومنعه من تحقيق أهدافه التي أراد من تلك الحرب، والتي رفع سقوفها عالياً، ثم عاد ليقزم ما يريد منها إلى مستوى غرس علم فوق مبناً في مدينة بنت جبيل، ليسوق لناسه وللإعلام أنه وصل إلى تلك النقطة التي وقف عندها السيد الحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني وقال فيها : "إن ( إسرائيل ) أوهن من بيت العنكبوت "، ومع ذلك لم يصل ولم يحقق ما يريد، على تفاهة الهدف وضآلة المنجز، بل أكثر من ذلك هو لم يستطيع أن يقتحم قرية مارون الراس التي تبعد عن خط الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان سوى مئات الأمتار، فلم يدخها إلا بعد أن صدر الأمر لمجموعة المقاومين المتمركزين فيها والذين لم يتجاوز عددهم الخمسة عشرة مقاتل بالانحياز إلى رفاقهم في مدينة بنت جبيل، فدخلها بعد أن انسحبوا منها بعد ما يقارب أسبوع كامل من القتال فيها . ثم في الحرب التي شنها على غزة عام 2008، بقيت قواته على الحافة الأمامية للمناطق السكنية، لم تجرؤ على التقدم أو التوغل إلى داخل ولا حتى متر واحد، وعندما أراد أن يسجل صورة نصر، قام بالاندفاع من معبر المنطار باتجاه البحر من جنوب مدينة غزة في المناطق الخالية ليتموضع في محررات غزة التي خرج منها عندما انسحب عام 2005، وبقي متموضعاً في تلك المناطق، يشن منها هجومات باتجاه مدينة غزة، دون أن يحقق أي منجز تعبوي ممكن أن يشكل قاعدة انطلاق لتحقيق أهدافه من تلك الحرب . وكذا في الحروب التالية على 2010 و 2012،لم يحقق العدو ما يريد من أهداف، وفشل فشلاً ذريعاً . وهنا كان تتعالى أصوات المتضررين ـــ من عرب وعجم ـــ الذين ساءهم أن تصمد المقاومة وأن تُثبت عجز خياراتهم، وصواب نهجها وما ذهبت له من مقاومة هذه المحتل وعدم الرضوخ له، معتمدة في ذلك على الله ثم على ما تيسر بين يديها من قدرات وإمكانات، وكان نهج هؤلاء المثبطين قائم على أن فشل العدو لا يرجع لقدرات المقاومة وصمودها، وإنما لتعمد لعدو عدم استخدام كامل طاقته في ضرب المقاومة، فهو بزعمهم كان قادراً ولكن لم يرد !! وعليه فلا نصر ولا إنجاز للمقاومة، ولكن سوء تقدير العدو حرمه من التقدم والإنجاز . هذا التبرير تجده في معظم كتابات من تحدث عن هذه الحروب وتلك المعارك من تيارات الخنوع والخضوع والاستسلام التي ساءها ويسؤها وسيسؤها بإذن الله ما تنجزه المقاومة من صمود ونصر وإفشالٍ لمخططات العدو على طريق النصر والتحرير القادم لا محالة بإذن الله . هذه المقالة ليست معنية بالحديث عن سبب نصر المقاومة وقدرتها على إفشال خطط العدو، أو نقاط قوتها وضعفها ــــــــ لعلنا نفرد لها حديثاً منفصلاً في قادم الأيام ــــــــ، وإنما ستتحدث عن الأسباب التي أدت إلى فشل هذا العدو الذي يعد صحاب أحدث جيش مجهز بأفضل التقنيات مدعوماً بأفضل وسائط القتال البرية والبحرية والجوية ومؤيداً بالدعم السياسي من الدول الغربية وبعض الدول ( العربية )، حيث سنعدد أهم أسباب فشل العدو وعلله، لتكون لنا رائداً ومعياً ـــــ بعد معية الله وفضله ـــــ في فهم ما حدث ويحدث وسيحدث إن شاء الله في أي مواجه معه في المستقبل، لنثبت للعالم أجمع أن عين الحق المكنوف بكنف الله، قادرة على مواجهة مخرز الشر مهما دقت حافته وقويت بنيته . فما هي إذا أسباب الفشل الإسرائيلي في مواجهاته السابقة والتي كان آخرها معركة " سيف القدس " ؟ إن أهم أسباب الفشل التي قادت هذه الآلة العسكرية الجبارة والمجنونة ، من فشل إلى فشل ومن هزيمة إلى أخرى ـــــــ هذه الأسباب تنطبق على أي مؤسسة عسكرية أخرى ــــــــ يمكن أن تُختصر بما يأتي :
- تحديد الأهداف من العمليات : يقال أن أهم ما يأخذه المقاتل معه إلى ساحة المعركة ليس السلاح ولا العتاد، وإنما الإجابة على سؤال لماذا أقاتل ؟ تشكل الإجابة على هذا السؤال المحفز الرئيسي والدافع المهم الذي يدفع المقاتل قبل القائد على تجشم عناء القتال، وتحمل أهوال القتل والدمار، إن هدف أو أهداف المعركة هي التي تحدد مستواها وما هو مطلوب من قدرات وصنوف قوات لخوضها . وهنا يجب أن تكون هذه الأهداف محددة مسبقاً، متناسبة مع ما يمكن وما يسمح به الظرف الزماني والمكاني لك لتشغيل ما هو ممكن مما تملك من قدرات . وهنا يبرز السؤال الآتي : هل عندما خرج العدو الإسرائيلي إلى هذه المعركة كان محدداً أهدافه منها بشكل دقيق ؟ إن المتابع لتصريحات قادة العدو السياسيين والعسكرين قبل وأثناء وبعد المعركة،يستطيع أن يصل وبكل سهولة إلى نتيجة مؤداها أنهم لم يكونوا محددين أهدافهم بشكل دقيق من هذه المعركة ــ قتل ؟ تدمير ؟ إنهاء حكم ؟ إضعاف سيطرة ؟ تثوير الحاضنة الشعبية ؟ ــ وفي هذا تفصيل قد يطول شرحه في هذه العجالة .
- تعريف النصر : كما أن من الأمور التي تساعد على تحقيق الأهداف، تعريف النصر، فتحقيق الأهداف في جزء من مضامينه يعد تعريفاً للنصر، وما لم يتم تحديد الأهداف وتعريف النصر قبل أخذ قرار الحرب أو المعركة والخروج لها، فإن القيادة العسكرية والسياسية سوف تدخل في حلقة مفرغة من القتال، ستطول وتستنزف القدرات، وقد يفضي الأمر ــ إطالة المعركة ـ إلى تضيع ما يمكن أن تكون حققته من إنجازات في بدايتها . وهنا أيضاً لم يتم تعريف النصر بشكل دقيق وقابل للقياس، فقادة العدو كان أحد تعاريفهم للنصر وتحقيق الأهداف، قتل أكبر عدد من المقاومين، قادة وكوادر، ولكن مثل هذا الهدف غير قبال للترجمة على الأرض، فما هو العدد المطلوب ؟ وما هو المستوى القادة والكوادر الذين إن تم قتلهم، يكون النصر قد تحقق والهدف قد أنجز ؟
- فشل استخباري معلوماتي : كما فشل العدو فشلاً لا يستهان به في مجال المعلومات والاستخبارات، وهنا قد لا يكون الفشل حاصل في عملية الجمع والتحليل، فالعدو لديه من القدرات البشرية والتقنية ما يمكّنه من جمع كم هائل من المعلومات والمعطيات عن المقاومة، فوسائطه الجوية التي تجمع المعلومات لا تغادر سماء القطاع، ولا شك أيضاً أن لديه شبكة من العملاء والمصادر البشرية لا يستهان بها، فالفشل هنا ليس في الجمع، وإنما في التحليل والاستنتاج الذي يوصل إلى معرفة نوايا العدو ـــــــ إقراء المقاومة ـــــــ فالهدف من كامل العملية الاستخبارية في شقها المعلوماتي هو : معرفة نوايا العدو، وهنا أخفق العدو في هذه المهمة، وقد فضحت تصريحات قادته السياسيين والعسكريين أثناء المعركة وبعهدها هذا القصور والعجز المعلوماتي، لقد ذكرنا هذا العجز بما قيل بعد حرب تموز 2006 أثناء تحقيقات لجنة فينو غراد عندما قالوا فيما يخص المعلومات أننا "وجدنا الغابة ولكن لم نعثر على الأشجار " !!
- مواجهة مقاومة لديها إرادة قتال ومستعد للذهاب بالشوط إلى آخره : وهنا يكمن الفارق المهم والرئيسي، فقوة العدو ليست في ذاته ــ وإن كان يملك من أسباب القوة الشيء المحترم ــ ولكن في ضعف أعدائه ومن يواجهونه، وأيضاً ومن وحي معاركه وحروبه، ففي خلاصات لجنة تحقيق فينو غراد قالت اللجنة : أنهم أثناء الحرب كانت لدهم مشاكل في الاستراتيجية وفي القيادة والسيطرة وفي إدارة المعركة تعبوياً وفي عمليات الإمداد، لكن اللافت أن اللجنة أضافت أن هذه المشاكل كانت موجودة في كل حروبهم ومعاركهم منذ 1948 حتى اجتياح لبنان 1982، فكيف انتصروا هناك، وهزموا هنا ؟ فكانت الإجابة بشكل بسيط من أفواههم هم أنهم في تموز 2006 واجهوا أناس لديهم إرادة قتال، ومستعدون لدفع أكلاف المعركة والذهاب بها حتى نهاتيها، لذلك هزموا، وهم لذلك أيضاً لم يحققوا أهدافهم في جميع معاركهم في غزة، منذ 2008 وحتى "سيف القدس" 2021، وهنا يكمن الفارق، فمن يملك إرادة القتال ومستعدٌ لتحمل أكلافها، سينتصر فيها لا محالة.
- الخشية من الخسائر البشرية : ومن أسباب فشلهم في " سيف القدس "، خشية القيادة السياسية والعسكرية ومن خلفها من بيئة داخلية من وقوع الخسائر وتحمل الأضرار، والمفارقة هنا أن الخشية على الجنود وليس على المدنيين فحسب، فإن كانت الخشية على المدنيين مبررة، فإن الخشية الزائدة عن الحد في تحمل الخسائر في الجنود والمعدات، ستكبل القادة و(تخصي) قدراتهم، فالجندي طبيعة عمله ومهمته والواجب الذي خرج له، يتضمن إمكانية القتل أو الجرح والأسر، فإن خيف عليه زيادة عن الحد المنطقي والمطلوب فقد قيمته كجندي مقاتل، وما فائدة المؤسسة العسكرية كجهاز دفاع عن البلاد والأوطان والمصالح والأهداف إن خيف على قدراتها البشرية والمادية إلى الحد الذي يمنعها من تشغيلها عند الحاجة ؟
- ضغط الجبهة الداخلية وهشاشتها : وهنا أيضاً كانت هناك مشكلة ومعضلة، فالجبهة الداخلية عند العدو كانت وما زالت وستبقى بطنه الرخوة التي لا تتحمل ضربات ولا يمكن أن تعيش تحت ضغط النار والحصار في الملاجئ مدة طويلة، فــــ ( مواطنيه ) إنما جاءوا واستوطنوا بحثاً عن سمنٍ وعسلٍ وعدوا به، فإن تحولت حياتهم إلى طين وبصل، فلن يبقوا ولن يستمروا، وسيشكلون على القيادة السياسة والعسكرية عبءً يثقل كاهلهم ويقيد مناورتهم ويضيق هوامش حركتهم عند كل معركة، الأمر الذي فطنت له المقاومة، فحولت هذه الجبهة والضغط عليها إلى أداة ورافعة تضغط بها على صاحب القرار، لتعلو صرخته قبل صرخة المقاومة .
- غياب الانسجام والتماسك القيادي : هذا الأمر له من الشواهد ما لو أردنا تعدادها أو إحصاءها، لأسلنا حبراً كثيراً . أليس الكيان على وشك الدخول في جولة انتخابات خامسة خلال الأيام القادمة ؟ أليس قادته السياسيين المسؤلين عن قرار الحرب لا يثق بعضهم ببعض ؟ هل كان متصور أن يجتمع وزير الدفاع بني غينتس مع نتن ياهو لولا الحرب ؟ أولا يسنّ بعضهم لبعض سكاكين الطعن والتجريح من قبل أن تضع الحرب أوزارها ؟ فكيف لقيادة سياسية بهذا الوصف أن تقود حرباً تتحمل أكلافها وهي تعتقد أنها ستكون محل مسائلة لجان التحقيق وهجوم المعارضة عليها حال توقف دوي المدافع وأزيز الرصاص ؟ لقد قالت قيادة الجيش : أنه لا يمكن تحقيق أهداف أي عمل ضد المقاومة في غزة دون مناورة برية، فما الذي منعهم منها وحال بينهم وبينها ؟ إنه عدم التماسك والانسجام ووحدة الحال بين قيادة هذه المعركة وأصحاب القرار فيها .
- الاشتباك على أكثر من ( جبهة ) قتال : فكما أن الجبهة الداخلية هي البطن الرخوة للعدو، فإن نقطة ضعفه غير القبالة للجبران أو التغطية والستر، تكمن في عدم قدرته على خوض معارك على أكثر من جبهة، ولا يعدو حديث قادته العسكريين أنهم يُعدون جنودهم للقتال على جبهتين ونصف ــــــ خارج الحدود وحفظ الأمن الجاري ــــــ لا يعدو حديثهم هذا أن يكون ضرباً من ضروب رفع المعنويات الذي تكذبه الوقائع والشواهد، والتي كان آخرها معركة "سيف القدس "، فقد فُتحت في وجه هذا العدو ( جبهات ) ثلاث، غزة والضفة الغربية ومناطق الثمانية والأربعين، في سابقة لم تخطر على بال ولم ترد لأحدفي خيال ولم يخطط لها مسبقاً، فأربكته وضغطت عليه إلى الدرجة التي دفعت الجنرال عموس يدلين للقول : إن ما يحدث في مناطق الثمانية والأربعين أخطر من صواريخ غزة ! وكانت أيديهم على قلوبهم من أن تنفجر الضفة الغربية المترعة بالسلاح في وجههم . وهذا أمر ـــــــ تشغيل الجبهات الثلاثة الداخلية وخطورتها على العدو ـــــــ يجب أن يكون من أهم الخلاصات لدى قادة المقاومة التي يجب أن يبنى عليها مستقبلاً من أجل أن تعمل هذه الجبهات مستقبلاً بشكل منسق معروف الأهداف متناغم الحركة محدد المراحل مهيئة له الأدوات والقدرات ووسائل القيادة والسيطرة .
- المعارضة الخارجية للصلف والعدوان الإسرائيلي : وهنا يمكن إضافة هذه ( الجبهة ) إلى الجبهات الثلاث السابقة، فقد شكلت المواكبة الخارجية، العربية منها والإسلامية والدولية أيضاً وما خرج في عشرات العواصم من طنجة إلى جاكرتها ومن كندا إلى استراليا من مظاهرات، وما أبداه سكان تلك الدول من تعاطف وتأييد للمقاومة وغزة والقدس، عامل ضغطٍ مهم على العدو، إن كنا والعدو متوقعين حدوثه، إلا أننا لم نكن نتوقع حجمه وانتشاره الذي كان عليه، وهنا أيضاً يجب أن تكون هذه أحد الخلاصات المهمة لدى قيادة المقاومة التي يجب العمل عليها ووضع الخطط والرؤى لكيفية الاستفادة منها في المعركة القادمة، التي وإن طال زمنها إلا أنها قادمة لا محالة .
- خسارة حرب الصورة وسردية الصراع : نختم بما يحرص عليه العدو في جميع حروبه، ألا وهو حرب الصورة ومعركة القصة والسردية المطلوب أن تصل إلى الخارج، فالعدو بقدر ما يحرص على الحاق الضرر والخسائر بأصول المقاومة وحاضنتها المجتمعية، فإنه حريص على الصورة التي ستخرج للخارج والقصة التي ستقدم للقارئ حول هذه المعركة، أسباباً وأهداف، وهنا نزعم أن العدو خسر هذه المعركة، فلم يعد الصاحب الحصري لحقوق الطبع والنشر، فقد مثل كل حامل هاتف ذكي مراسلاً ميدانياً في هذه المعركة، يدحض رواية العدو وينقض غزل قصته وسرديته، يفضحه بالصوت والصورة، ويكشف ما يحرص على اخفائه من جرائم وقتل وتدمير في جبهة المقاومة، وما يقع في صفوفه من خسائر يشكل كشفها ونشرها عامل تثبيط وقتل للمعنويات في جبهته الداخلية هو في أشد الحاجة لها .
كانت هذه عشرة أسباب نعتقد أنها من أهم ما أدى إلى فشل العدو في معركة " سيف القدس "، من الممكن أن تكون قاعدة بحث وتدقيق وإعادة نظر لاستخلاص التجارب والعبر من هذا السِفر الخالد في تاريخ المقاومة، على أن لا نركن إلى ما أنجز وما تحقق،فالقادة المنتصرون يبكون في ليال النصر ولا يفرحون،تذللاً لله من باب، ولأن ما جلب لهم النصر في هذه لمعركة لا يمكن استخدامه في المعركة القادمة،لانكشاف أمره وانفضاح سره، والعاقل لا ينم لعدوه ولو كان نملة .
عبد الله أمين
24 05 2021