بقلم: عبد الله أمين
تحدثنا في المقال السابق ـــ سيف القدس... لماذا فشلت ( إسرائيل )؟ حول فشل العدو في معركته الأخيرة ضد فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة؛ حيث جئنا على الأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة التي لم يكن يتوقعها العدو، والتي كان من أهمها؛ عدم التحديد الواضح لأهداف المعركة، وعدم تعريف النصر المرجو منها، وقد أشرنا إلى أن هذين السببين هما ما يحدد طبيعة المعركة والوسائط والإجراءات القتالية المطلوب استخدامها لتحقيق تلك الغايات، كما أنهما من يحدد المدى الزمني التقريبي لانتهاء المعارك؛ مع بقاء مقولة أن من يبدأ المعركة، ليس بالضرورة هو من يحدد كيف ومتى ستنتهي، صالحة للاستخدام في هذا المقام.
وفي هذا المقال سنتحدث عن الأسباب التي أدت إلى انتصار المقاومة في معركة "سيف القدس " آخذين بعين الاعتبار أن المعيار الرئيسي والأهم لنجاح وانتصار أي مقاومة هو: منعها عدوها من تحقيق أهدافه. فإن كان ما قيل في المقال السابق من أسباب هو ما أدى إلى فشل العدو في معركته؛ فما هي الأسباب التي ساعدت وأدت إلى انتصار المقاومة في هذه المعركة؟ نعتقد أن أهم أسباب نصر المقاومة في معركة " سيف القدس " الأخيرة والتي استمرت قرابة الأحد عشر يوماً هو الآتي:
- معية الله: نعم؛ إن معية الله أولاً وآخراً هي التي مكنت المقاومة من الانتصار على عدوها في ظل اختلال التوازن في ميزان القدرات المادية والبشرية لصالح العدو، ولما كانت هذه القدرات المادية والبشرية غير خارجة عن قدرة الله وسلطانه؛ نزع الله منها طاقتها وهيبتها من قلوب المجاهدين والمقاومين، فغدت غير مخيفة ولا مرهوبة الجانب؛ مع ما تلحقه من ضرر وقتل ودمار وخراب. إنها معية الله الذي قال في محكم تنزيله " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" وهو عز جانبه وجل جلاله القائل: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " وهو القائل: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان " وهو من بشر المؤمنين بقوله "إن ينصركم الله فلا غالب لكم ".
نعم إنها معية الله أولاً وآخراً؛ وما دونها تفصيل. - عدالة القضية: ثم بعد معية الله؛ تأتي عدالة القضية ونُبل المقصد والهدف، إنها الجواب الأهم على السؤال الرئيسي الذي قلنا في المقال السابق أنه أهم ما يأخذه معه المقاتل إلى ساحة المعركة ألا وهو: لماذا أقاتل؟ فالقضية العادلة هي التي يضحي المرء من أجلها بنفسه وماله وما يملك، وأي قضية أعدل من قضية قوم احتلت أرضهم وشُرد أهلهم، وقتلت نساؤهم وأطفالهم، وسجن خيرة شبابهم وغيبوا عن أهلهم وذويهم عشرات السنين؟ أي قضية أعدل من قضية الدفاع عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمانة الفاروق عمر رضي الله عنه؟ وهل يعدل عدالة هذا القضية عدالة؟ وهل يداني شرف الدفاع عنها شرف آخر؟
- تماسك القيادة: ومعية الله وعدالة القضية، إن تكن هناك مجموعة قيادة متماسكة ومتآلفة، يحنوا فيها بعضهم على بعض ويجبر بعضهم كسر البعض، ويسند أحدهم الآخر؛ من رحم المعاناة خرجوا، وبين ومع شعبهم ربوا وشبوا، هم ـ القادة ــ منهم ولهم، يحددون الرؤى ويضعون الأهداف ويشاركون في تحمل الأكلاف، يجيّشون الصفوف ويعبئون الطاقات ويخصصون الموارد والقدرات حسب الأولى من المهام والواجبات، إن مثل هذه القيادة التي تمثل تلك القضية هي التي تتنزل عليها معية الله وتحفها عنايته، فتجتاز الصعاب وتحقق الأهداف بأقل الخسائر والأكلاف.
- إرادة القتال وقرار المواجهة: فإرادة القتال وقرار المواجهة هي التي تنفخ في الوسائل القتالية، المادية منها والبشرية روح الحياة، فكم هي الدول والكيانات التي تملك من القدرات أضعاف ما يملكه أعداؤها، ولكنها هُزمت ودُمرت وتشتت شملها، لا لضعف في وسائطها القتالية وأدواتها الحربية؛ وإنما لضعفٍ في من يملك قرار هذه القدرات ومن يشغلها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القوة ما هي إلا قدرات مضاف لها ارداة، فتسقط الأولى وتتلاشى مهما تعاظمت وعلا شأن إتقانها وجودتها إن هي وضعت بين يدي أناسٍ لا يملكون شجاعة اتخاذ قرار تشغيلها، وتحمل أكلاف هذا التشغيل مهما علت ومهما بلغت، كما لابد من التذكير بشكل دائم إلى أن عدونا يقاتلنا بأدوات يحملها ( رجال ) ونحن نقاتله برجال يحملون أدوات، وشتان شتان ما بين الموقفين.
- وضوح الهدف وبساطته: فكما أن أحد أهم أسباب فشل العدو في معركة " سيف القدس " أنه لم يحدد أهداف معركته بشكل دقيق؛ فإن أحد أسباب انتصار المقاومة هو تحديد هدفها من تلك المعركة، وقد كانت أهدفاً بسيطةً غير معقدة؛ ففي مقابل تغول العدو على القدس ومنطقة الشيخ جراح، جاء هدف المقاومة ليقول نحن سنمنع هذا التغول، وتحقق هذا الهدف، على الأقل إلى هذه الساعة ولو بشكل نسبي، وفي مقابل هدف إيقاع أكبر كم من الخسائر في بنية القوة المقاتلة للمقاومة، رفعت الأخيرة هدف حفظ النفوس وعدم إعطاء العدو فرصة قتل المقاومين، فأفشوا مناورته ــ مترو حماس ـــ التي عمل لها وتدرب عليها على مدار سنوات، فسقطت مناورته عندما لم يندفع المجاهدون إلى نقاط تجمعهم في الأنفاق عندما اشاع العدو أنه على وشك بدء العملية البرية، وأمام ضرب الأبراج وتهديمها ثبتت المقاومة ـ ولو متأخراً ــ معادلة تل أبيب مقابل الأبراج، إنها أهداف واضحة وبسيطة، خلاصتها؛ منع العدو من تحقيق أهدافه.
- الحاضنة الشعبية والمواكبة الجماهيرية: وما كان للمقاومة أن تنتصر لولا أنها كانت وما زالت ويجب عليها أن تعمل على أن تبقى مسنودة بحاضنة شعبية تحتضنها وبمواكبة جماهرية تواكبها وتدعمها مادياً وبشرياً، وتحمي ظهرها، ولا تتحول إلى رافعة ضغط عليها نتيجة ما تتكبده من خسائر في الأرواح والأموال والمقدرات، إن هذه الحاضنة كما أن عليها واجب حماية المقاومين والدفاع عنهم؛ فإن لها حق الدفاع عنها ومراعاة مصالحها وعدم الزج بها في أتون مغامرات غير محسوبة ومعارك غير متكافئة وغير مستعد لها جيداً، إن أهم قاعدة للتعامل مع الحاضنة الشعبية لتبقى داعمة ومؤيدة وحاضنة للمقاومة هي تلك القاعدة التي تقول: " تعرف على شعبك في الرخاء يعرفك في الشدة "، إن هذه الحاضنة إن رأت أن المقاومة؛ أفراداً ومسؤولين، يشاركونهم هموهم وأفراحهم وأتراحهم، يجوعون إن جاعت، ويتألمون إن تألمت، وليس بينها وبينهم حاجب ولا حاجز؛ كانت لهم بعد الله ومعيته خير معين، وآمن مأوى، وأشد حصن.
- الجاهزية القتالية والاكتفاء الذاتي النسبي: كما أن من العوامل التي ساعدت في انتصار المقاومة ومنع عدوها من تحقيق أهدافه؛ جاهزيتها القتالية واكتفائها الذاتي النسبي، فمن المؤشرات الواضحة جداً على الجاهزية؛ ما كانت تقوم به فصائل المقاومة من تحديد لساعة اطلاق الرشقات الصاروخية مختلفة المديات والأنواع، فأن تقول المقاومة أنها ستقوم بالقصف في ساعة بعدد معين من الصواريخ، ثم تنفذ ما قالت؛ فهذا يعني أنها تملك الجاهزية العالية للفعل، كما أن ما قامت به من استهداف لمواقع حشد القوات المعادية وضرب وسائل نقلها ــ الباص والجيب ــ دليل آخر على جاهزيتها لاستثمار أي فرصة ميدانية تلوح في أفق منطقة العمليات ولو لبرهة صغيرة من الزمن، أما عن الاكتفاء الذاتي النسبي، فأن تطلق المقاومة 4400 مقذوف ناري من مختلف الأعيرة والمديات في ظرف 12 يوم قتال، فهذا دليل على أن مخزونها من الوسائط النارية فيه ما يكفي لإدامة معركة قد تمتد إلى فترة زمانية لا يحتمل العدو وجبهته الداخلية طولها ولا ما تحمله من مفاجآت.
- الحليف الصادق: هذا الحليف الصادق الذي دعم المقاومة بأسباب القوة والمنعة، وما مكنها من امتلاك أسباب القوة وصولاً إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، تصنيعاً وتدريباً ورفع كفاءة له دور في عوامل النصر وأسبابه، غير مغفلين باقي الحلفاء الذين قدم كل منهم ما يطيق من دعم وإسناد؛ المادي منه والمعنوي، فكلٌ ميسر لما خلق له.
إن أي مقاومة مسلحة تنشد التحرير لا بد لها من أن تمتلك شبكة علاقات ومجموعة أصدقاء وحلفاء، تستند لهم في مسيرها نحو التحرير دون أن ترهن قرارها السيادي لأحد، مقدرة قدرة كلٍ منهم بالشكل الصحيح، فلا تجشمهم عناء ما لا يطيقون ولا يتحملون، فإن هي ــ المقاومة ــ فعلت هذا؛ فإنها ستستفيد منهم أفضل الفائدة، وعلى كل الصعد وفي مختلف المجالات. - الصبر وطول النفس: فالنصر صبر ساعة، وضغط المعارك ورؤية المباني وهي تتهاوى والأشلاء وهي تتطاير، وسماع أنين المصابين وبكاء اليتامى وفاقدي الأحبة والأبناء؛ تنوء بحمله الشم الرواسي، وتتقطع معه نياط القلوب، بل إن العدو يعمد إلى زيادة التدمير والقتل والترويع بهدف واضح وهو تشكيل رافعة ضغط داخلية تضغط على المقاومة وقيادتها لترضخ له ولشروطه، وإلا ما هو المعنى والهدف من أن تدمر أبراج سكنية وشقق مدنية ومنشآت صناعية؛ إن كانت شريكة ولو جزئياً في المجهود الحربي، إلا أن النصر لا يتوقف بشكل رئيسي على وجودها، ما هو المعنى القتالي والتعبوي غير أن العدو يريد أن يضغط على حبل صبر المقاومة فيقطعه وعلى نفسها فيخنقه، فتتحول المعركة في جولاتها وصولاتها إلى معركة عض أصابع المنتصر فيها من يكتم ألمه ويخفي وجعه فلا يعلو صوت صرخته أولاً.
نعتقد أن هذه العوامل التسعة هي من أهم العوامل والأسباب التي ساعدت في صمود المقاومة وانتصارها على عدوها في هذه الجولة من القتال، على أن لا يُركن لها فلا تُنمى ولا يتم تعاهدها والعمل عليها حتى لا تتلاشى أو تضعف مع الأيام وبين جولات القتال، فحربنا مع عدونا ما زال فيها جولات وتنتظرنا فيها صولات، والعاقل من نمّا قدرته وزاد من أسباب قوته، معداً مستعداً للجولات القادمة، مستخلصاً العبر والدروس من الجولات الحاضرة، مستحضراً ثقل المسؤولية وشرف الأمانة، متيقظاً حذراً، لا يَنَم لعدوه ولو كان نملة، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".