عن الحرب !!
1/2
في التعريف :
ماذا يمكن أن يكتب عن الحرب ؟ هذا النشاط الإنسان الأعقد بين كل النشاطات التي يمارسها بني البشر، حيث يختلط فيها البعد الإنساني بالبعد المادي، والبعد العاطفي الوجداني بالبعد العقلاني المنطقي، إنها تحوي الشيء ونقيضه في نفس الوقت، ففي لحظة يعترى المقاتل شعور إنساني عاطفي يكاد يقعده عن القتال عندما يرى رفيق سلاحه مصاباً بجانبه أو شهيداً ممداً إلى جواره ؛في نفس هذه اللحظة يضغط على زناد سلاحه ليُزهق روح مقاتل معاد يقف أمامه، في مشهد ملؤه القسوة وعدم الرحمة !! إنها الحرب التي تقع عندما يخطأ الجواسيس ( اقرأ رجال الأمن والمعلومات )، ويبالغ الساسة، إنها ذاك النشاط الذي يعقب انسداد أفق الحديث، وانغلاق طرق الحواروالذي في خلاصته ـــــ ومع كل ما يُستخدم فيه من وسائط نار ووسائل قدرة ــــــــ أنه نشاطٌ يستهدف إخضاع الطرف الآخر وفرض إرادتنا عليه وسلب إرادة القتال والمقاومة منه ؛ وما فوق ذلك وما دونه ؛ تفصيل .
في الأهداف :
أما في أهدافها وما تروم الوصول له من خلال تشغيل قدراتها ووسائطها القتالية ـــــ البشرية منها والمادية ـــ فإن أقصى ما تصبو له هو :
- المنع : منع العدو من تجاوز الخطوط الحمر والحدود التي رسمت أمام مصالحنا الحيوية وأهدافنا المادية، منع العدو من تفعيل قدراته ووسائط ناره لفرض إرادته علينا، منع العدو من استثمار نقاط قوته لضربنا في نقاط ضعفنا، فيصبنا في مقتل، منع العدو من استغلال الجغرافيا والطبوغرافيا لصالحه، منع العدو من كسب نقاط تعبوية في الميدان، يمكن أن تتحول إلى نصوص تحريرية في الوثائق، تعترف له بحق أو تحرمنا من حق .
- الفرض : ومن أهدافها الفرض ؛ فرض إرادنا على العدو، فرض مكان القتال وجغرافيته ووقته وزمانه على العدو، فرض موقف تعبوي على العدو يحرمه من نقاط قوته ويكبل أدوات فعله، فرض نصوص تحريرية على العدو رفضها وقت السلم، فآزرها الفعل الميادين، فانعكست على الورق، كتابةً بمداد الدم الأحمر عوضاً عن مداد الحبر الأسود أو الأزرق . إنها أولاً وأخيراً فرضٌ لإرادتنا على العدو، بعد أن نسلبه قدرته وإرادته على الصمود والفعل .
في الاستراتيجيات :
الحرب فعل كتب علينا وهو كره لنا، وكره لغيرنا، وهي فعل لا يُلجئ له إلا عند اسنداد كل السبل وتعطل كل وسال الاتصال والحديث، تأتي لتزيل العقبات من الطرق، وهي شاقة متعبة مكلفة بشرياً ومادياً ؛ حتى للمنتصر فيها، ولا يخوضها ويلجأ لها إلا من تبين له أن جدوها المادية والمعنوية أكبر وأهم بكثير من أكلافها وخسائرها،وهي تخاض بما يتطلبه الموقف من بشر وأدوات، لذلك يُحرص على أن لا تكون الخسائر في مغير مكانها أو زائدة عن حدها، لذلك تخاض بناء على استراتيجية تقود الفعل التعبوي والتكتيكي، فإن كانت الاستراتيجية صحيحة ؛ جَبرت خطأ الميدان والتكتيك وعوضته، وإن كانت الإستراتيجية خاطئة ؛ فلن يسعفها النجاح المداني والتفوق التكتيكي، لذلك كانت استراتيجيتها قائمة على الحسم عن طريق ضرب قدرات الخصم المادية والبشرية ومنعه من حرية العمل ضدنا من خلال توجيه الجهد الرئيسي للعمليات في :
- السياق العيني المرتبط بالعمليات : بحيث يتم ضرب القدرات البشرية والمادية التي تواجه القوات في الميدان، فلا يستقيم أن يُغضُ الطرف عن مصادر القوة وعناصر الفعل المرتبطة بالعمليات العسكرية في ساحة الصراع ومسرح العمليات، إن السياق العيني للعمليات هو ما يعبر عنه بمراكز الثقل التي تعد أعمدة الفعل التعبوي ودعائمه، لذلك يجب تخصيص القدرات وتعبئة المقدرات لدعم الجهد الرئيسي الذي يشكل رأس حربة ضرب مراكز الثقل تلك، وعدم هدر الطاقات والقدرات في المناوشة والمناغشة لأهداف جانبية، قد يظن البعض أن في تدميرها صورة نجاح أو تعبير عن تفوق .
- جباية ثمن للحرب يكون مناسباً لأهدافها : كما أن من أهداف استراتيجية الحرب ؛ جباية أثمانٍ بشرية ومادية من العدو تكون مناسبة لأهداف الحرب وتصب في صالحها، فلا يعقل أن تُدمرَ أهدافاً وتقتل بشراً ليس لقتلهم أو تدميرها أثراً مباشراً على نجاح الحرب أو معاركها التعبوية، وفي الوقت نفسه ؛ القدرة على استثمار هذه النجاحات التعبوية في ما سيعقب الحرب من مفاوضات سياسية لتثبيت الانجاز وتظهير النصر .
في تطبيق الاستراتيجيات:
إن هذه الاستراتيجيات المشار لها سابقاً يتم تطبقها عبر الإجراءات التعبوية المتمثلة في :
- معركة :
بين مختلف الصنوف والقدرات، تشتبك فيه الارادات، وتتصارع فيها العزائم، ويمتحن فيها الصبر، معركة يحتك فيها الرجال بالرجال، معركة هي المختبر الرئيسي والمحك الحقيقي لامتحان قدرة المقاتلين وجاهزيتهم، وكفاءة الأدوات وصلاحيتها وملاءمتها للموقف والميدان . معركة تُحسم فيها المواقف ولا تتوسع زماناً ولا مكاناً، فتُختصر الخاسر البشرية والمادية في أدنى مستوياتها وأقل مقاديرها.
- سلسلة معارك :
فقد لاتفي المعركة الواحدة والاشتباك المنفرد لبلوغ الهدف وانجاز المهمة، فالحرب نشاطٌ تفاعلي بين طرفين، هي فعل ورد فعل، ولا تخاض في فضاء ساكن يشغله لاعب واحد، لذلك قد تعجز الخطط ولا تكفي الموارد، وتخرج الأمور عن السيطرة، وقد لا يكون التقدير الذي بني عليه القرار صحيحاً مستوفياً الشروط، فيفاجأ المرئ بما لم يحسب له حساب، فتتولاى الاشتباكات وتتعدد مواضع الاحتكاك، وتلي المعركة معارك، أو قد لا يكون الهدف النهائي للحرب ممكن الوصول له من الضربة الأولى والمعركة الواحدة، فيضطر القائد ومقاتليه إلى مَرحَلةِ حربهم وتجزئة معاركهم،وصولاً إلى المعركة الحاسمة والاشتباك النهائي الذي يفضي إلى الهدف وينهي معمودية الدم . والمعركة هذه أو المعارك تلك ؛ هي عبارة عن سلسلة من عمليات تفعيلٍ وتشغيلٍ للقدرات، مرتبطة ببعضها البعض بعلاقة قد تكون واحدة أو خليط مما يلي من العلاقات :
- علاقة مَنطِقية : فلتأمين المدينة الفلانية، لا بد من احتلال الرواقم والمرتعفات المتقدمة عليها والمحيطة بها، والتي يشكل احتلاها أو السيطرة عليها من العدو، إلى بقاء هذه المدينة تحت خطر ناره وإمكانية هجومه، فالمنطق يقول بأن تأمينها يستدعي احتلال ما تقدم عليها من مواقع أو ما يحيط بها من مرتفاعات .
- علاقة جغرافية : أو قد ترتبط سلسلة المعرك تلك مع بعضها البعض برابط جغرافي، فالمعارك التي تخاض على محور الجهد الرئيسي أو الاتجاه العام للعمليات ؛ ما يربطها ببعضها البعض هو رابط جغرافي، مكون من تلال ووهاد ومرتفعات وهضاب، لا يستقيم العمل ولا تؤمن القوات ما لم يتم العمل على كل هذه الجغرافيات، فتهاجم وتؤمن وتحتل ويسيطر عليها لأن جغرافيا منطقة العمليات أو المسؤولية تفرض ذلك .
- علاقة تظافرية : وقد تكون هذه العمليات عمليات تظافرية تعاونية، بمعنى أن محور الجهد الثانوي يعمل في نفس الوقت الذي تتحرك فيه قوات الجهد الرئيسي في حركة مساندة له، تشتت جهود العدو وتفرض عليه موقفاً قتالياً يضطر معه إلى سحب جزء من قواته للتعامل مع هذا الجهد الثانوي، والذي يجب أن يقتنع العدو من أنه ـــ الجهد الثانوي ـــ رئيسي وتهديد على أصل وجوده، وكذا الجهد الخداعي يتحرك حيث يخطط له مخففاً الضغط وجالباً للانتباه ومشتتاً للجهود، ليريح الجهدين الآخرين، الرئيسي والثانوي، إنها حركة تظافرية تعاضدية يسند بعضها بعضاً، ويخفف بعضها الضغط عن الآخر .
- علاقة وظيفية : وقد يربط يبن المعارك رابط الوظيفية، فسلاح الطيران يعمل عملاً وظيفياً مسانداً للسلاح المدرعات، فيغطي سماءه عند الحركة ويكوّن له مظلة تحميه من النار الجوية المعادية، وسلاح المدفعية والاسناد الناري بمختلف صنوفه وفوهات ناره، دوره في المعركة دورٌ وظيفي، يمهد للمشاة ويغطي على حركتهم ويحميهم من نار عدوهم، ويليّن لهم ما قسى من الأهداف واستعصى، ثم ترفع ناره وتنتهي وظيفته عندما يقترب الجنود من أهدافهم ويصبح مدى الاشتباك مع العدو هو مدى الأسلحة الفردية، الخفيفة منها والمتوسطة، فترفع النار حتى لا يقع في قواتنا خسائر أو دمار .
والتفعيل أو التشغيل ليس مقصوراً على الوسائط الخشنة وصنوف النار المختلفة، وإنما يتضمن استخدام وسائل عسكرية بما فيها القوة غير الحركية عبر عمليات :
- جمع المعلومات : فجمع المعلومات بمختلف وسائل الجمع والمصادر ؛ هو نوع من أنواع تشغيل القوة، فدوريات الاستطلاع الميداني، وعمليات الانزال خلف خطوط العدو للرصد وتوجيه النار، وتشغيل الوسائط الجوية المأهولة وغير المأهولة، وعمليات التنصت واستراق السمع على وسائل اتصالات العدو، وبمختلف السبل والأدوات ؛ كلها عمليات تشغيل وتفعيل للقوة .
- عمليات القتال الالكتروني : وعمليات القتال الالكتروني هي نوع من أنواع تشغيل القوة التي لا تترك بصمات خلف المشغل، مع ما تتركه من أثر مدمر على المهاجم، فتسقط منظومات اتصالاته، وتوقع خللاً في بناه التحتية، وقد يرتقي فعلها إلى المستوى الذي تسيطر فيه أو تدمر فيه منظومة القيادة والسيطرة C4I المعادية بالكامل، فتصبح حركة العدو خبط عشواء، فيتحرك على غير هدىً، وتظلم الدنيا في وجهه وشمسها مشرقة .
- عمليات الدعم الإداري : فالجيوش تزحف على بطونها، والأليات تريد من يزودها بوقودها وسبب حركتها، والبنادق ووسائط النار المختلفة بحاجة إلى من يوصل لها غذائها من رصاص وقذائف ومهمات، والجريح بحاجة إلى من يخليه ويعيده إلى الخلف قبل أن يصبح عبء نفسياً وبدنياً على رفاقه، وقبل أن يستفحل خطر جرحه فيقتله، كلها عمليات إدارية، إن لم تجد من يقوم بها ويتخصص في فنونها ؛ استحال القتال إلى مغامرة،والنجاح فيها ـــــــ الحرب ـــــ ما هو إلى ضربة حظ ليست مضمونة النتائج دائماً .
هذا ما اتسع له المقال في هذا المقام، على أن نستكمل في الجزء الثاني المعايير التي بناء عليه يتم ترتيب التهديدات وفق سلم الأوليات، لنختم بالإجراءات المطلوبة للتعامل مع التهديدات وطبيعتها ـــ الإجراءات ـــــ وما هو مطلوب من عمل بناء على هذا الإجراء ومداها الزمني من حيث القرب أو البعد .
عبد الله أمين
05 08 2021