بقلم الخبير الأمني والعسكري:
عبد الله أمين
09 09 2021
تحدثنا في الأجزاء الثلاثة السابقة عن القائد ومهامه وبعض التعاريف المرتبطة بهذا الموضوع، ثم بسطنا الحديث حول مهام القائد التعبوية، فذكرنا الأهم منها، وفي هذا الجزء والذي يليه سنتحدث عن بعض المهام المعرفية المرتبطة بعمل القائد.
مهام معرفية: هذا النوع من المهام هي ما ينام القائد ويصحو وهو يفكر فيه، إنه شغل ذهنه الشاغل، ومحط تفكيره وتقليب رأيه؛ هو وفريق عمله وضباط أركانه، إنها مهام ينتج عنها تصور وفهم نظري يبنى عليه إجراءات تعبوية وعملية، إن الخلل والقصور في هذه المهام المعرفية، يعني خسائر في الأرواح، وتلف في المعدات، وتضييع للفرص، وفتح لثغرات ينفذ منها العدو ليسدد الضربات. فما هي هذه المهام؟ وكيف يمكن مقاربتها؟ إن أهم هذه المهام المعرفية ما يلي:
- معرفة المهمة: إن أول ما يطلب من القائد معرفته هو المهمة التي سيقوم بها هو ومن تحت إمرته من قوات، وستسفك دماؤهم وتزهق أرواحهم في سبيلها، إنها ذاك الأمر المتصور ذهنياً المتجسد مادياً الذي تُحشد كامل القدرات في سبيل الوصول له. إنها أمرٌ لا يحتمل المجاملة ولا التظاهر بالقدرة مع عدمها على القيام به، إنها جزء من كل، وقطعة ( بازل ) من مجموعة قطع، قد لا يفهم أو يعي حاملها الشكل الكلي النهائي لها، ولكن من يقود هذه القوات لابد له أن يكون واعياً وفاهم ورائياً لمجمل اللوحة الكلية المشارك في رسمها، وهنا على القائد أن يكون لديه فهم واضح ومعرفة كلية بــــــــ:
- المهمة الصريحة: ما هي المهمة الصريحة المطلوبة منه من قبل التشكيل الأعلى أو المستوى القيادي الأعلى الذي يتبع له؟ هل هي من ضمن قدراته وإمكاناته؟ على القائد أن يفهم بشكل دقيق غير حمّال لأوجه للمهمة الصريحة التي حولت له من المستوى الأعلى منه، دون مواربة أو حياء يدفع على تحمل ما هو خارج القدرة والاستطاعة.
- المهمة الاستنتاجية: كما على القائد أن يكون لديه القدرة على اشتقاق واستنتاج مهام تشكيلاته وهيكلياته الإدارية من تلك المهمة الكبرى التي فوضت له، وعلى عمليات الاشتقاق تلك أن تكون في السياق العام لتنفيذ المهمة الكبرى الرئيسية، بحيث يكمل بعض تلك المهام بعضها الآخر في صورة متناسقة، يرى الجميع أنهم مشاركون في الإنجاز، شركاء في تحقيق الأهداف.
وفي سياق تنفيذ هذه المهمة؛ على القائد أن يراعي الأصول التالية التي تساعد في انجاز المهمة بشكل سريع وآمن وبأقل الخسائر والأكلاف:
- أصل الهدف: على القائد أن لا تغيب عيناه عن أصل الهدف الذي شغل قدراته من أجل تحقيقه، وأن لا يلتفت إلى الأهداف الجانبية التي قد ينشرها أمامه عدوه من أجل استنزاف قدراته وحرفه عن مسار عمله، وهنا عليه أيضاً أن يُقَدّر الكيفية التي سيصل بها إلى هذا الهدف، هل سيصل له من الحركة الأولى؟ أم أنه بحاجة إلى تقسيم المسير إلى مراحل؟ فإن كان لا بد من مرحلة عمله؛ فمن أين وكيف تبدأ كل مرحلة؟ وكيف ومتى ستنتهي؟
- أصل الحشد: كما يجب عليه أن يحشد كامل قدراته وكل ما بين يديه من مقدرات من أجل تحقيق الهدف المطلوب الوصول له، وهنا قد يتبادر للذهن أن الحشد مقصود به الحشد الناري والقتالي؛ وهذا صحيح؛ ولكن مفهومنا للحشد مضافاً للحشد الناري والقتالي؛ حشد أفضل القيادات، وأفضل الكوادر، وأفضل المعدات وأفضل الأفكار لتحقيق الهدف وإنجازه.
- أصل وحدة القيادة: فمن متطلبات حسن القيادة والسيطرة؛ وحدة القيادة وتركيزها لدى جهة واحدة مخولة إعمال السلطة والصلاحيات لتنفيذ الأهداف، وقد يفوض القائد بعض صلاحياته لبعض مرؤوسيه لتسهيل العمليات التعبوية ، وهنا عليه أن يحدد أين تنتهي صلاحياتهم لتبدأ صلاحياته، وعليه أن يولي فريق عمله كامل الثقة عند تفويضهم الصلاحيات، ويبقي عين المراقبة والاشراف على حسن التنفيذ حاضرة غير غائبة، متذكراً أنه هو وحده من يتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل.
- أصل المرونة: فطرق تحقيق الأهداف ليست خطاً مستقيماً يرسم بين نقطتين ـــــ وإن بدا على الخرائط أنه كذلك ــــ إنما هو مسير قد يعتريه التعرج والتلوي أثناء التنفيذ، ولكنه تعرجٌ وتلوٍ لا ينحرف عن أصل الهدف والاتجاه العام للعملية التعبوية، وليس من معنى المرونة أن ينتقل القائد أو التشكيل من هدف إلى هدف ومن جغرافيا إلى جغرافيا، انتقالاً غير مبرر ولا معللٍ تعبوياً في السياق العام للعمليات.
- أصل التركيز: كما على القائد أن يعرف نقاط ضعف عدوه ومراكز ثقله ونقاط ارتكازه؛ فيحشد كامل طاقته وكل قوته لضرب مراكز الثقل ونقاط الارتكاز تلك، مستغلاً نقاط الضعف التي لا بد أنها موجودة في مكان ما، وإن خفيت عن الأعين، ولكن ببذل الجهد وحشد القوة والاستثمار الجيد لمصادر المعلومات؛ ستظهر نقاط الضعف تلك جلية واضحة للعيان.
- أصل الاقتصاد في القوى: فالمعركة قد تطول، ومصادر الإمداد البشري والمادي قد تبعد مسافاتها، وقد تعيقها ظروف الميدان، فلا تصل في مواعيدها، وقد تصل ناقصة الكم قليلة النوع، لذلك لا بد للقائد من أن يراعي أصل الاقتصاد في قواته وموارده، ولا يحثوها حثواً، وإنما يخرج منها ما لزم بالقدر المطلوب دون إفراط ولا تفريط، وليس المقصود من الاقتصاد بالقوة ـــ البشرية والمادية ــ الضن بها عند الحاجة لها تحت ذريعة المحافظة عليها والخوف على مصيرها، فهذه القوة ما أعدت إلا لمثل هذا اليوم وهذه الساعات، فإن لم يُتَصرف فيها عند الحاجة لها؛ قد لا يتسنى لمالكها تشغيلها لاحقاً.
- تخصيص القدرة: ومن المهام المطلوب من القائد معرفة كيفية إدارتها، ما يعرف بتخصيص القدرات، فكما قلنا سابقاً ليس هناك قائد مهما علا شأنه، مطلق القدرة وتتوفر لديه كامل القدرات المطلوبة لتنفيذ مهامه، لذلك عليه أن يعرف ماهي المعايير التي يتم بناءً عليها ترتيب الأولويات عند تنفيذ المهمات، والتي ينبثق عنها تخصيص القدرات البشرية والمادية، فتلحق هذه القدرات بالمهمة ذات الأولوية، واستطراداً فيما يعني القدرات؛ لابد من الإشارة إلى أن القائد وفي مجال القدرات عليه أن يكون عارفاً ملماً بالتالي من الملاحظات:
- جوهر القدرة: عليه أن يلم بطبيعة القدرة المحولة له ومعرفة جوهرها؛ فهل ما بين يده من القدرات فقط من النوع الخشن الصلب الذي يدمر ويسحق ويحيل الأهداف أثراً بعد عين؟ أم أن لديه من القدرات الناعمة ما يمكنه من أن يحقق أهدافه بشكل آمن دون إراقة دماء أو تدمير؟ وهنا تجب الإشارة إلى أن كل قطعة عسكرية مهما كان شكل تركيبها أو استعدادها؛ تملك من القوة الناعمة ما يمكنها من تحقيق أهدافها أو بعضاً منها دون اللجوء إلى تشغيل كل ما تحت إمرتها من قدرات مادية و أدوات قتال، فأخلاق منتسبيها وحسن سلوكهم مع المحيط وما يقال عن الخدمات التي قدموها عند دخولهم إلى مناطق محرررة وغيرها من الأمور؛ كلها تعد من أدوات القوة الناعمة التي يمكن أن تستثمر في تحقيق الأهداف دون إراقة الدماء. كما أن على القائد أن يعرف متى يمزج بين القوة الخشنة والقوة الناعمة للحصول على مركب القوة الذكية التي أيضاً تساعد في تحقيق الأهداف بأقل الخسائر وأقصر الأزمنة، وهذا ــ جوهر القوة ـــ بحث تفصيليٌ يطول الحديث حوله.
- كمّ القدرة المتوفر: ويلحق في معرفة جوهر القدرة؛ معرفة كمّ القدرة المتوفر في الوقت الحالي، وما يمكن أن يتم توفيره عند الحاجة، والمكان الذي يمكن أن يتم توفير هذه القدرات منه، والزمان المطلوب لوصول هذه القدرات ودمجها واستيعابها ضمن التشكيل لتصبح جزءاً من منظومة القتال التي تقع تحت إمرة هذا القائد لتنفيذ المهمة المناطة به.
- أين ستستخدم هذه القدرة: ومن الأمور المعرفية المرتبطة بالقدرة؛ معرفة مكان استخدامها، فما كل عنصر من عناصر القدرة قابل للاستخدام في كل مكان أو زمان، فللقدرة محددات تحد من إمكانية استخدامها؛ زماناً ومكاناً، أو كنتيجة لإعمال السياسات والضوابط وقواعد الاشتباك. وإلمام القائد بهذه المعطيات يساعد على كسب البعد القانوني في المعركة وإظهار عدالتها ويضمن حسن سيرها.
- متى ستستخدم هذه القدرة: كما يجب على القائد أن يعرف في نطاق القدرة؛ متى ستستخدم هذه القدرة، فالتعجل في دفع بعض القدرات والكشف عنها قد يفقدها قيمتها القتالية أو أثرها النفسي، فالزج بكامل القدرات الموضوعة تحت المسؤولية في المعركة من بدايتها، يفقد القائد ومرؤوسيه ميزة المناورة وروافع الضغط الممكن استخدامها ميدانياً في الضغط على جبهة العدو لتحصيل أكبر مكتسبات ميدانية وتعبوية منه.
- كيف ستستخدم: كما يجب على القائد معرفة كيف ستستخدم هذه القدرات؟ ما هو نوع المناورة والفعل الميداني الذي ستستخدم فيه هذه القدرات لتحصيل أفضل النتائج عند تنفيذ المهمات. هل سيدفع بهذه القدرات بشكل جبهي ضد قوات العدو؟ أم أن مناورة الخرق هي أفضل مناورة يمكن من خلالها تحقيق أصل الهدف من المهمة؟ أم أن الالتفاف على العدو وإحاطة قواته من جهة أو جهتين كفيلٌ بأن يقضي على مقاومته ومن ثم التسليم بما نريد وإخلاء الميدان أمام قواتنا فتصل إلى مبتغاها وتنجز مهمتها؟
نكتفي بهذا القدر، على أن نستكمل البحث في الجزء الخامس والأخير من هذه السلسلة.