التهديد...!! (2)

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

التهديد...!!

2/3

تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن التهديد، فعرفنا بشكل موجز، وتحدثنا عما ينبني على هذا التعريف من مقتضيات وقلنا أن أهم هذه المقتضيات هو:  

1. عقد التحالفات ونسج العلاقات والصداقات.

2. ترتيب الأولويات وتخصيص القدرات.

3. محدد بناء وتطوير القدرات.

4. خوض الحروب والصراعات وتحمل الأكلاف والتضحيات.

وسنتحدث في هذا الجزء من هذه السلسلة عن الوحدات السياسية المستقلة والمستقرة (الدول )، وكيف ترى هذه التهديدات وتقيم مخاطرها من خلال ما تُقدّر أنه قد يكون هدفاً لهذه التهديدات، فالدول المستقرة المستقلة أصل الهدف من تكونها وتجمعها، والقاعدة التي تبنى على أساسها عقدها الاجتماعي تهدف إلى تحقيق أهداف ومكاسب معينة ، وترى أن أي سلوك أو تحرك ـــ داخلي أو خارجي ــــ يُعرّض هذه الأهداف للضرر أو ينال منها أنه تهديد يجب التصدي له والوقوف في وجهه، ومن أهم هذه الأهداف التي تحرص الدول على حمايتها من أي تهديد ما يمكن إجماله بالآتي:  

1.  وحدة أراضيها وتماسك جغرافيتها: إن الدولة عبارة عن جغرافيا حاضنة، وديموغرافية مكونة، وسلطة سياسية ناظمة ومنظمة لهذين المكونين الرئيسيين، وأي كيان سياسي لا يتمتع بهذه المكونات الثلاثة ؛ يمكن أن يطلق عليه أي اسم ما عدا اسم دولة، والمكون الجغرافي هو أهم مكون من هذه المكونات، فهو القاعدة التي ترتكز عليها باقي مكونات الوحدات السياسية، فالجغرافيا هي التي تطبع المكون الديموغرافي بطابعها، وتفرض عليه صفات تجمع بين مكوناته، فأبناء البوادي يختلفون عن أبناء الهضاب والجبال، ومن يقطنون السواحل ويجاورون الشواطئ والبحار تجمع بين كثير منهم صفات لا تجدها عند غيرهم من بني البشر، بل إنك قد ترى قوميتين تختلفان ولا تجتمعان، لا في الشكل ولا في السلوك والعادات لمجرد أن حالت بينهم سلسلة جبلية أو مفازة صحراوية، لذلك فإن الدول تولي جانب المحافظة على تماسك جغرافيتها وعدم العبث بها فائق الأهمية، وتبذل من أجل المحافظة على هذا التماسك وهذه الوحدة، الغالي والنفيس، وترى أن أي سلوك أو إجراء يمكن أن يعرض هذه الوحدة وذاك التماسك للخطر تهديداً وخطراً يجب الوقوف في وجهه والحؤول دون تحقيق أهدافه، مهما علت الأكلاف وبلغت التضحيات.    

2. وحدة النسيج الاجتماعي ــ قومي طائفي عرقي ــ الذي يتكون منه مجتمعها وعدم المساس به: إن أول ما يفكر فيه الأعداء للعبث بوحدة وتماسك جغرافيا البلاد أو الدولة، هو اللعب والعبث في نسيج هذه الدول البشري ومكوناته العرقية والطائفة والقومية. إننا نعيش في زمن ليست فيه دولة أو كيان سياسي ( نقي ) العرق، بحيث يكون مكونه عرق واحد أو طائفة واحدة أو قومية واحدة، إننا في زمن تتعدد فيه أعراق وطوائف وقوميات الدولة، لذلك تعمد هذه الوحدات السياسية إلى التوافق على عقد اجتماعي يجمع بين مشتركاتها، ويقلل من اختلافاتها، فيحقق ــ العقد الاجتماعي ــ للمجموع أعلى المصالح ويدفع عنه أعلى المخاطر، وفي سبيل بناء هذا العقد يتنازل هذا عن جزء من خصوصيته، وذاك عن جزء آخر مما يريد ويرغب، في سبيل تكون أعرض أرضية وأمتن أساس يمكن للجميع الوقوف والبناء عليه، فتستقر الحياة وتزدهر الدول وتتقدم، وتؤمن لأهلها وسكانها الأمن والرفاه، لذلك فإنها ترى أن أي تهديد يمكن أن يخلخل وحدة هذا النسيج المختلف، ويلعب على تناقضاته ومختلفاته، ويثير النزاع والشقاق بين مكوناته أمراً لا يقل خطورة عن تهديد وحدة أراضيها وتماسك جغرافيتها، فإن شَخَصَ ــ هذا النوع من التهديدات ــ أمامها ؛ جندت له كل مقدراتها المادية والبشرية في سبيل وأده والقضاء عليه في مهده، حتى لا يفجر هذا النسيج المتجانس ويشظي العباد ويقضي على البلاد.  

3. استقلال قرارها السياسي: قلنا أن الدولة لتكون دولةً لا بد لها من جغرافيا وديموغرافيا ونظام سياسي ينظم وينظّم هذه المكونات، وحتى يفي هذا النظام بأصل الهدف الذي أنشيء له، وانطلاقاً ـــ الهدف ــــ منه بنى عقده الاجتماعي بين مختلف مكوناته العرقية والطائفية والقومية، حتى ينهض هذا النظام بمهامه، لا بد أن يكون حراً مستقلاً سيداً فيما يرى وما يريد، فلا معنىً لكيان سياسي مرهون قراره السياسي لغيره، ولا قيمة لدولة تنتظر من غيرها ليقرر عنها ما تفعل وما لا تفعل، فالحروب اليوم بمختلف أشكالها ؛ الخشنة منها والناعمة، هدفها الأول والأخير السيطرة على سيادة الدول ومصادرة قرارها المستقل، فالمنتصر فيها من يرهن قرار خصمه لإرادته، فإن حقق هذا الهدف، فما دونه تفصيل، فإن ارتهن القرار السياسي للدولة لغيرها،  فلا فائدة من اتساع الجغرافيا ولا تنوع الديموغرافيا ولا امتلاك الموارد المادية الطبيعية أو الصناعية، إن دولة مرتهنة القرار السياسي تشبه الغني الثري المحجور عليه لسفه أو قصور عقلي، لا يملك من أمره شيء، لذلك تنشأ حركات المعارضة والأحزاب السياسية التي تعارض الحكومات عندما ترى أنها رهنت قرارها السياسي لأعدائها أو خصومها، ولهذا الأمر تنشأ الخصومات السياسية بين الدول عندما يرى بعضها أن غيرها يريد رهن ومصادرة قرارها السياسي والسيطرة عليه .  

4. تأمين المصالح الحيوية ــ المادية والمعنوية ــ التي توفر كريم العيش لسكانها ومواطنيها: كما ترى الدول أن أي إجراء يعرض مصالحها الحيوية من مصادر طاقة أو مواد أولية توفر لشعبها موفور العيش وكريمه، ترى في مثل هذا السلوك تهديداً يتطلب الوقوف في وجهه والتصدي له. إن المراقب المتتبع للحروب منذ أن بسط الله الأرض وخلق الخلق، يرى أن منشأها النزاع على الموارد والبحث عما يوفر كريم العيش لشعب دولة ما رأت أن تأمين مصالحها المادية يتطلب احتلال جغرافيا معينة، أو السيطرة على ممر مائي يقع خارج أراضيها وجغرافيتها المحددة. لقد نشبت الحرب العالمية الثانية التي أكلت أخضر أوروبا قبل يابسه في مسعىً ألماني للبحث عن موارد الطاقة والمواد الأولية التي رأت في حينه ألمانيا أن توفيرها يؤمن لها ولشعبها كريم العيش، وقد تمددت جغرافيا الجزيرة البريطانية حتى أصبحت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، أيضاً في مسعاً للبحث مع الموارد المادية والاقتصادية.  

وها هي أمريكا تجوب البحار، وتثير النقع والغبار في أطراف المعمورة استناداً إلى أن لها مصالح تريد تأمينها وموارد تريد جلبها؛ لذلك فأي تعرض لهذه المصالح وتلك الموارد  يحسب تهديداً يجب التصدي له والوقوف في وجهه.  

5. التهديدات القريبة التي تقع على دول حدودية أو مشاطئة للدولة، وترى أن آثارها المباشرة وغير المباشرة يمكن أن تصل لها وتلحق بها ضرراً: إن الدول التي تريد أن تؤمن جغرافيتها من العبث فيها لا تنتظر أن يقتحم التهديد عليها حدودها فتتعامل معه وتتصدى له؛ بل إنها ترى أن أي تهديد يقع على دولة مجاورة لها جغرافياً أو مشاطئة لها مائياً تهديداً يمكن أن يتطور فيصل إلى داخل أراضيها، فالنار عندما تنشب في مكان تسوقها الرياح إلى أماكن أخرى، وبقعة الزيت إذا لم تتم محاصرتها والقضاء عليها قبل أن تتفشى وتنتشر ؛ ستعم وتلوث كل مكان تصل  له، لذلك قامت معظم الهيئات الدولية على أساس حفظ السلم والأمن الدوليين، وعُد أي أمر يهدد السلم والأمن الدوليين أمرٌ يجب التصدي له من قبل الأسرة الدولة، على قاعدة أنه يمكن أن يعم وينتشر ويخرج عن السيطرة، فترى دولاً تتدخل في نزاع دول لا تشاركها الحدود ولا تتقاسم معها الموارد خوفاً من تمدد الصراع أو أن يخرج عن السيطرة، فكيف إن كان الخطر على الأبواب وعلى الجانب الآخر من الحدود؟  

إنه أولى بالتصدي له والوقوف في وجهه، لذلك تعد الدول المستقلة المستقرة أن أي خطر أو تهديد لوحدة وسلامة أراضي أي دولة مجاورة لها ؛ تهديد وخطر يمكن أن يتطور فيصل إلى أراضيها وسكانها، فتراقبه ولا تشيح النظر عنه، وتتعامل مع أي إفراز من إفرازاته يمكن أن يؤثر على أمنها وسلمها، بالطرق والوسائل المناسبة.  

نختم هذا الجزء من المقالة عند هذا الحد، آخذين بعين الاعتبار أن ما جئنا عليه من مواضيع في هذا الجزء من المقالة، يمكن أن يزاد عليه الكثير، ويفصل فيه بشكل أكبر، ولكن المقام لا يسمح، لذلك فما قيل إنما هو من باب التمثيل لا الحصر، على أن نستكمل الحديث في الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة عن كيفية رؤية الحركات السياسية والتحررية للتهديد وكيف تقاربه، لنختم السلسلة بالطرق والإجراءات الكلية للتصدي للتهديدات والمخاطر الناتجة عنها.  

عبد الله أمين  

06 12 2021



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023