التهديد
3/3
تحدثنا في الجزئين الأول والثاني حول التهديد ومقتضياته، وكيف تراه الدول ومن أي زاوية تنظر له، ونختم هذه السلسلة بكيفية رؤية الحركات السياسية وحركات التحرر لهذا التهديد، فالكيانات السياسية غير الــ ( دولتية ) مثل الأحزاب وحركات التحرر، بغض النظر عن طبيعة عملها ونشاطها الذي تزاوله، فإن التهديدات التي تعرض لها ـــــ وإن تقاطعت مع ما يمكن أن يشكل للدول من التهديدات ــــــ وترى أنه يجب التصدي له والوقوف في وجهه يمكن إجماليه بالآتي من التهديدات:
1. التهديد الذي يتوجه للفكرة السياسية والسردية التاريخية التي يقوم على أساسها هذا الكيان السياسي أو الحركي: إن الفكرة التي يقوم على أساسها الكيان السياسي والسردية التاريخية التي نشأت وانطلقت بناءً عليها، تشكل مصدر الحياة والنبع الذي ترتوي منه هذه الحركة وذاك الكيان، فيمدها بأسباب الحياة ومتطلبات البقاء، وتبقى الحركة حية ما بقيت الفكرة التي قامت عليها حية، وتذوي وتشيخ بذبول وشيخوخة تلك الفكرة، لذلك ترى الحركات والكيانات السياسية لا تفوت فرصة ولا تضيع مناسبة لتذكر بهذه الفكرة وبتلك السردية، فتقيم الاحتفالات وتعقد الندوات والمؤتمرات لتذكر بها وللبحث عما يبقيها حية في نفوس أتباعها ومحبيها، ومن هنا يحاول أعداؤها وخصومها التسلل إلى هذه السردية وتلك الفكرة، بفكرة أخرى وسردية مقابلة، تضحد سردية المقاومة وأصل فكرة نشوئها، لذلك تتعامل الحركات السياسية والتحررية مع مثل هذا الجهد المعادي على أنه جهد يهدد أصل الوجود وينذر بمخاطر، إن لم يتم التصدي لها في المهد فستأتي على أصل الوجود ومبرر البقاء، إن الفكرة والسردية التي تقوم على أساسها الحركة أو الحزب السياسي تشكل أحد الأثافي الثلاثة التي لا يمكن للحركة أو الحزب أن يستقر لها حال بدونها.
2. التهديد الذي يتوجه لضرب أساس الأيديولوجية التي تقوم عليها هذه الحركة السياسية التحررية: فلكل حركة أو حزب سياسي ركائز أيديولوجية نشأت عليها وتربي كادرها الرئيسي على مقتضيات هذه الأيديولوجية، ويربى النشىء والمنتمون الجدد انطلاقاً من هذه الأيديولوجية وبناء عليها، وهي ــ الأيديولوجية ــ هوية الحركة والكيان السياسي، بها تُعرف، وبها تُعرّف نفسها، وبها تتميز عما سواها من الحركات والكيانات، وهي التي تشكل المعيار والمنظار الذي ترى منه الأشياء وتقوّم على أساسه المواقف، وهي من تحدد من يمكن أن يكون حليفاً ممن لا تعدو العلاقة معه علاقة صداقة عابرة، وهي التي تشكل جدار الحماية و جهاز المناعة التي تواجه به حملات خصومها وأعدائها التي تُشن عليها عبر وسائل الحرب الناعمة، وهي ثاني الأثافي الذي ترتكز عليه الحركة بعد الأول الذي جئنا على ذكره سابقاً.
3. التهديد الذي يتوجه لضرب المنظومة القيمية التي تحكم السلوك والقرار: فالمنظومة القيمية التي تحكم سلوك الحزب السياسي أو حركة المقاومة أو التحرر، ثالث الأثافي الثلاثة التي إن توفرت، وقوي عودها وصَلُبَ أساسها، ركنت الحركة أو الحزب إلى ركن شديد، فلا تميد ولا تحيد أمام ما ستواجهه من عواصف وأنواء.
إن المنظومة القيمية التي تحكم سلوك الحزب أو الحركة هي التي تحدد الظالم من المظلوم، والصادق من الكذوب، والصديق من العدو، والحليف من الغريم، إنها ـ المنظومة القيمية ــ أساس وضع الضوابط والسياسات، وركن رئيسي في وضع النظريات والعقائد العسكرية والسياسية والاقتصادية، بدونها تصبح الحركة أو الحزب بلا لون ولا رائحة ولا طعم، فلا تكاد تميزها عن غيرها، رخو القوام طري العود، تنطلي عليه خدع وألاعيب أعدائها بسهولة وسلاسة، لذلك فجزء من أهداف العدو التي تركز عليها أدواته الناعمة لضربه يتمثل في هذه المنظومة ومرتكزاتها وما انبثقت عنه، لذلك تعمل الحركات على تحصين نفسها ومنتسبيها عبر سلسلة من النشاطات والفعاليات والإجراءات لتواجه هجمات العدو على ما تعتقد وما تدين من قيم ومبادئ .
4. التهديد الذي يتوجه لضرب الثقة بالمنظومة القيادية لنزع الشرعية عنها والمصداقية منها: الكيان السياسي عبارة عن أفكار وأهداف وغايات، وَجَدت من ينفض عنها الغبار ويرفعها إلى مقام الأولوية الأولى، ويدعو لها وينشر ما تبشر به وما يمكن أن تجلبه من منافع وتدفعه من مضار، إنه الرعيل الأول الذي تجشم عناء التعب والنصب، وسهر الليالي وجاد بالأوقات وبما عز وغلا، وجمع متفرقات الآراء، ومتناقضات المواقف، وجير التناقضات الفرعية لمواجهة التناقض الرئيسي الذي يمثله العدو، إنها الطبقة التي تُعَد الضمانة الرئيسية لحفظ المسار سيراً باتجاه المصير، فإن استُهدِفت، استهدف ركن من أركان الحركة والحزب، وأول عناوين العمل التي ينشط العدو من أجل تحقيقها هو ضرب الثقة في هذه المنظومة القيادية ونزع الشرعية عنها، فيستخدم مختلف الطرق وشتى الوسائل لتحقيق هذا الهدف، فإن تحقق له ما يريد، فقد زرع عبوة ناسفة شديدة الانفجار في جسم هذه الحركة أو ذاك الحزب، لا تلبث أن تنفجر مشظية بنيته ( ناعفة ) أجزاءه في كل مكان، فلا تقوم بعده لهذه المجموعة قيامة، ولا ينفع لدائها دواء، وتصبح الحركة أو الحزب كالنار يأكل بعضها بعضاً، لذلك وجب على هذه الطبقة السياسية أن تجهد جهدها وتبذل قصارى سعيها لإيجاد هذه الثقة والمحافظة عليها والحرص على بقائها، عبر سلوكها القويم وأدائها السليم، فأهم أداة من أدوات العدو في العمل على هذه النقطة لضربها هي: ما يمكن أن يكون سلوكاً خلافاً للقول عند القائد أو المسؤول.
5. التهديد الذي يتوجه لضرب وحدة الصف الداخلي والتماسك التنظيمي: العمل التنظيمي والحزبي أو الحركي مكونٌ من أشخاص جاؤوا من شتى المشارب والأفكار والبيئات، رأوا في هذه الحركة أو ذاك الحزب ما يحقق أهدافهم الذاتية والجمعية، وهم في هذا التوصيف ليسوا نُسخاً عن بعضهم البعض، فإذا لم ينصب جهد القيادة عبر ما تقدمه لهم من سردية وفكرة و أيديولوجيا ومنظومة قيم وقدوة قيادية على توحيد هذا النسيج المختلف وإحكام عراه، فإن شقوق الخلاف بين هؤلاء الأشخاص ستزداد وتتسع، وسيتحول هذا البنيان الذي يفترض فيه أن يكون مرصوصاً، سيتحول إلى بناء كثير الشقوق متعدد الثقوب، التي يسهر العدو وينفق من ماله ووقته وجهده للبحث عنها ليتسلل منها إلى داخل هذا البدن، فيعمل فيه تخريباً وفتكاً، فيصبح الحزب أو الحركة خاوي الداخل منخور العظام، وإن تراءى للناظر من الخارج أنه سليم البناء عالي المقام، إن مثل هذا البناء لا يلبث أن يهتز ويتلاشى أمام أي عارض خارجي يعرض له بالتهديد ويستهدفه بالوعيد، لذلك يجب أن يُنتبه لهذه التهديدات وأن يتم التعامل معها أولاً بأول، ولا يغض الطرف عن بداية تكونها وتشكلها، فيفطن لها وقد عصت على العلاج وشبت عن الطوق، عندها لن يصلح عطار التنظيم الحركي ما أفسده دهر العدو وقهره.
6. تهديد يتوجه إلى ضرب الأصول المادية البشرية لهذه الكيانات السياسية: ومن الأمور التي يستهدفها العدو بتهديده، ما تملكه الحركة من أصول مادية وبشرية، إنها منشآته وعقول كوادره التي سهر على جمعها وتطويرها وبنائها ليلاً طويلاً، وأنفق عليها التنظيم من ماله ووقته ما وصلت معه إلى ما وصلت له من تنظيم وحُسنٍ وخبرات ومعارف، وليست هذه القدرات من النوع الذي يمكن أن يُستبدل بسهولة ولا أن يعوض بسرعة، فمسار بنائها المادي والمعنوي، مسار طويل يستهلك الأوقات والأموال، وضربها قد يعيد الحركة أو التنظيم للخلف سنوات كثيرة، أو يحرمه من سرعة مطلوبة في التطور والتقدم والرقي، لذلك يُحرص عليها وينتبه لها، وتحمى ويدافع عنها، وتشن الحرب وتعقد راياتها إن استهدفت هذه الأصول أو تم التعرض لها، إنها ــ الأصول ـــ مصاديق تقدم الحركة أو التنظيم، وعناصر جذب تُجذب بها الطاقات الجديدة.
إذا كان هذا ـــ بشكل مجمل وسريع ـــ هو التهديد، وكيف تراه وتتعامل معه الوحدات السياسية المستقلة والمستقرة (الدول ) وكذا الحركات السياسية والتحررية وغير التحريرية، فما هي سبل مواجهة هذا التهديد، وكيف يمكن التعاطي معه وإدارة ما ينجم عنه من مخاطر ؟ أيضاً الأجابة على هذا السؤال تعتمد على الزاوية التي ترى منها الجهة التي يقع عليها التهديد، هذا التهديد وما ينجم عنه من مخاطر، وما تملكه هذه الجهات من قدرات وإمكانيات مادية وبشرية،ولكن قبل ذلك وبعده درجة الصلابة والشرعية السياسية التي تتمتع بها الطبقة الحاكمة أو القائدة في هذه الأجسام السياسية وقدرتها على تحمل الأكلاف التي يمكن أن تنجم عن التصدي لأي تهديد، لذلك فإن أوجه التعاطي والتصدي للتهديدات وما يمكن أن يعمل من إجراءات المواجهة لهذه التهديدات يمكن أن تُجمل بالآتي من طرق العمل، نسردها سرداً دون الدخول في التفاصيل التي قد تطيل البحث أكثر مما طال:
1. الاستسلام لهذا التهديد.
2. التضحية بالأقل أهمية في مقابل التمسك بالأعلى قيمة.
3. تأخير هذا التهديد وما قد ينجم عنه من مخاطر عبر إدارة حوارات ومفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع الجهة التي تلوح بالتهديد.
4. مقاومة هذا التهديد والتصدي له بمجرد خروجه إلى حيز الفعل والإجراء.
5. المبادرة بالخروج لضرب مصادر التهديد قبل تبلورها واستجماع قواها فــــ ( إذا هبت شيئاً فاقحه ).
عبد الله أمين
13 12 2021