المقاومة في فلسطين هي تعبير واضح عن رفض الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني الاستعماري الإحلالي، الذي وعد فيه بلفور، ونفذته الحركة الصهيونية عبر جريمة من التطهير العرقي لا زالت باقية ومستمرة؛ بل لا زال القادة الصهاينة بدعم أوروبي وأمريكي غير محدود يهددون صباح مساء بطرد الشعب الفلسطيني، واستكمال ما بدأته الدولة العبرية منذ أكثر من سبعة عقود، ولذلك فإن مقاومة الشعب الفلسطيني بكل أشكالها وعلى رأسها المقاومة المسلحة، هي التي تحدد البوصلة لهذا الشعب، وتبرز رفضه وتحديه الصهيونية على مقدراتها.
ولعل من أبرز السياسات التي انتهجها الاحتلال الصهيوني تقسيم الشعب الفلسطيني جغرافيًا وديمغرافيًا وحزبيًا وحتى طائفيًا، وذلك في إطار سعيه للسيطرة على هذا الشعب وعدم السماح له بالتوحد تحت قيادة فلسطينية مقاومة جامعة؛ تسعى لتحقيق حقوقه والتطوير المصيري، إلا أن الشعب الفلسطيني لا زال يسعى منذ أن سلبت أرضه إلى توحيد جهوده ومقاومة عدوه.
كانت أقوى تجليات هذا السعي في تشكيل مقاومة صلبة وقوية قطاع غزة، قوامها شعب حاضن يضحي بأغلى ما يملك وهم خيرة أبنائه، والفصائل تسعى بكل جد وجهد؛ لإبقاء قضية فلسطين حية قوية في قلوب الشعب الفلسطيني خاصة، والأمة وأحرار العالم عامة.
وقد أبدعت الفصائل بتشكيل غرفة تكون في المستقبل نواة لتشكيل جيش يعمل على تحرير فلسطين مع كل مكونات الشعب الفلسطيني، وقد كانت معركة سيف القدس صورة مصغرة لما قد يحدث في معارك قادمة.
وهنا يأتي السؤال الأهم ما الذي حدث في الجولة الآن مثيرة الصراع المستمر بين الشعب الفلسطيني والاحتلال عامة وعلى جبهة غزة خاصة؟.
لماذا خرج العدو بشعور الانتصار الذي كان قد شاركه في كل اعتداءاته على قطاع غزة منذ عدوان 2008؟
ما الذي لم تقرأه حركة الجهاد، ولماذا تركت لوحدها هذه المرة؟
هذه الأسئلة وغيرها، سنحاول الإجابة عليها في هذه الورقة، ولكن يجب أن نسطر في البداية الفخر في مقاومة جاهزة للتضحية بكل ما تملك لأجل الاسرى وكرامتهم، فقد بدأت هذه الجولة عمليًا؛ بعد اعتداء قوات الاحتلال على القائد في حركة الجهاد للجهاد الاسلامي، والأسير المحرر بسام السعدي، الذي أعيد اعتقاله في مرات ومرات، ولا زال أسيرًا حتى كتابة هذه السطور.
ولكن المعركة لم تبدأ نظريًا على الأقل مع اعتقال السعدي، واذا ما تجاوزنا فكرة أن الاحتلال ليس بحاجة إلى ذريعة لأجل أن يعتدي على شعبنا وفصائل مقاومته، فإنه يمكن القول إن المعركة بدأت بعد عدوان 2014 على قطاع غزة، فما أن وضعت الحرب أوزارها؛ حتى بدأ العزم يدرس أسباب الاخفاق، والتي كان من أهمها ضعف المعلومات الموجودة لدى العدو عن فصائل المقاومة، وقدرة المقاومة على مفاجأته عبر عمليات نوعية سواء باستخدام الأنفاق الهجومية أو الطائرات المسيرة أو القوة البحرية.
كان واضحًا حينها ضرورة أخذ المبادرة والضربات الاستباقية وتطوير بنك الأهداف، وتحسين التقدير الاستخباري حول نوايا المقاومة، التي استطاعت أن تفاجئ العدو مرة أخرى؛ حين أطلقت رشقاتها الصاروخية تجاه القدس المحتلة، معلنة بذلك انطلاق معركة سيف القدس وهي المرة الأولى التي تبدأ فيها المقاومة تحت قيادة الغرفة المشتركة، معركة عنوانها القدس.
وبالرغم من أن العدو قد تفاجأ وأخطأ في تفكيرها الاستخباري، حيث كان يقدر أن غزة لن تبدأ الحرب، إلا أنه كان قد استعد لها بشكل جيد، فلم تنجح أي عملية هجومية لا عبر نفق، ولا عبر البحر، ولا حتى مُسيّرة عبر الجو، وكان قد أخذ العبرة من حربه السابقة، فلم يدخل قوته البرية؛ لقناعته أن هزيمته ستكون هناك، وصورة النصر للمقاومة ستكون هناك أيضًا.
ثم كان اعتقال السعدي وأخذت حركة الجهاد بتهديد الاحتلال الذي أخذ التهديد على محمل الجد؛ فأخرج صورة للسعدي من التحقيق، تبرز أنه يتمتع بصحة جيد، وكذلك أغلق العدو محيط غزة بالكامل لأربعة أيام متتاليات؛ تحسبًا من أي ضربة قد تأتيه من غزة، وبقي الأمر حتى فاجأ العدو غزة وحرجت الجهاد بعدوان مجرم استشهد على إثره القائد تيسير الجعبري ولفيف من إخوانه وبدأت المعركة، ولكن يبقى السؤال الأهم ما الذي لم تقرأه حركة الجهاد قبل أن تبدأ المعركة؟
1- عقيدة العدو في الضربات الاستباقية: حيث تعتبر هذه العقيدة من أهم مرتكزات العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وهي كذلك من أهم العبر التي استخلصتها المكونات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بعد معركة سيف القدس الأخيرة، وأكدوا حينها على ضرورة مفاجأة المقاومة وأن تفتح المعركة بصورة نصر من الضربة الأولى، تمامًا كما حدث في اغتيال القائد في كتائب القسام أحمد الجعبري عام 2012، ولكن حركة الجهاد لم تكن مستعدة لمثل هذه الضربة، حيث إن القيادة العسكرية لها لم تكن في أنفاق القيادة والسيطرة، وحتى الجنود على المراصد كانوا لا يزالون في مواقعهم مكشوفين للعدو، فهل يمكن لتنظيم يهدد العدو ألا يكون مستعدًا لغدره؟ حتى لو هناك مفاوضات عبر الوسطاء، فمن لا يتوقع غدر العدو؛ فهو لم لا يعرفه ولم يقرأه جيدا.
2- التحريض الإعلامي: فقط في جريدة واحدة، في يوم واحد، ثلاثة عناوين كلها تحريضية، حيث كتب الصحفي المختص في الشأن العسكري في جريدة يديعوت أحرونوت يوسي يهوشع يوم الخميس (4/8) تحت عنوان: أين اختفى الردع الإسرائيلي؟، يقول: (إن تهديد الجهاد الإسلامي في غزة بإخراج عملية انتقامية؛ ردًا على اعتقال أحد قادته في الضفة الغربية قد مًسّ حياة المواطنين بشكل صعب جدًا في محيط القطاع، فقد أُغلقت الشوارع وعُطِّلت السكك الحديد وأغلقت العديد من المستوطنات، وكل ذلك دون أن تطلق رصاصة واحدة، ذلك يعد نصرًا كبيرًا لحركة الجهاد وأن سياسة الاحتماء التي تتبعها الحكومة سيكون لها تأثيرًا كبيرًا في المستقبل على تنظيمات أكبر من حركة الجهاد، مثل: (حماس وحزب الله)، ثم يلي ذلك عنوان آخر في نفس الجريدة يقول: (لقد بدأ صبر المواطنين بالنفاذ)، ثم عنوان آخر: (القيود على المواطنين في محيط غزة ستستمر).
هذا كله في جريدة واحدة ومثله الكثير في كل الصحافة العبرية مسموعة أو مكتوبة أو مقروءة، وعبر كل الفضاءات الالكترونية، وهذا أمر كان يجب على حركة الجهاد أن تقرأه جيدًا.
3- الانتخابات: صحيح أن الحكومة في الكيان هي حكومة تصريف أعمال، ولكنها ذات صلاحيات كاملة بكل ما يخص الأمن، وتستطيع أن تعلن حربًا لا صغيرة فقط.
وتكمن نقطة قوة هذه الحكومة في ضعفها، فهي ليست بحاجة إلى كثير من البيروقراطية كي تتخذ قرارًا، حتى إن رئيس الحكومة لم يجمع المجلس الأمني المصغر؛ إلا بعد بدء حملته العسكرية، ولم يجمع حكومته حتى بعد انتهائها، ولكن شخص رئيس الحكومة متهم من قبل خصومه السياسيين أنه يفتقد الخبرة الكافية لإدارة الشئون الأمنية والعسكرية، وبالتالي فهو متهم بأنه لم يجرؤ على اتخاذ أي قرار عسكري، وهذا الأمر قد يكون صحيحًا ولكن الانتخابات لم تترك له أي خيار، فهو يقدم نفسه كمرشح لرئاسة الحكومة، وبالتالي فإن خضوعه لتهديدات حركة الجهاد دون حتى أن تطلق رصاصة واحدة؛ يعني سقوطًا مدويًا له في الانتخابات وهو أمر ما كان له أن يسمح به وهو أمر لم تقرأه حركة الجهاد، ولكن ما الذي لم تقرأه حركة الجهاد أيضًا؟.
إن انتفاض حركة الجهاد لأجل الأسرى لهو أمر مشرف، وأتشرف به شخصيًا، كوني أسيرًا، ولكن غزة خرجت من حرب طاحنة سقط فيها مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وآلاف البيوت المهدمة، ولا زال الركام يملأ شوارعه، فكيف لها أن تعيد نفس المشهد بعد عام واحد فقط؟
كان على قيادة حركة الجهاد أن تفكر عملياً قبل أن تستمر في تهديدها وإغلاق محيط غزة لأيام، وكان يمكن للحركة أن تنهي حالة التهديد بعد نشر صور الأسير السعدي؛ معلنة بذلك نصرًا معنويًا مُهمًا على العدو، وبذلك تكفي غزة وأهلها عدوانًا رهيبًا، كان العدو قد أعد له عدته.
ولقد أطلقت حركة الجهاد على المعركة اسم وحدة الساحات، ولكن الساحات كانت قد توحدت في سيف القدس، أما المعركة الأخيرة، فقد خلقت صدعًا في أهم ساحة، وهي ساحة غزة ولم تكن حماس يمكن لها أن تشارك ولا بأي شكل من الأشكال، وذلك للأسباب التالية:
1- مشاركة حماس تعني أن يتضاعف أعداد الشهداء والجرحى والبيوت المهدمة.
2- مشاركة حماس تعني أن تتضرر قدرات المقاومة التي ما زالت تتعافى من الحرب الأخيرة.
3- مشاركة حماس تعني أن تفقد عنصر المفاجأة، وأن تقع في شرك العدو الذي كان قد أعد عدته.
4- مشاركة حماس تعني أن تعطي الشرعية لكل فصيل في غزة أن يبدأحربًا متى أراد، وينهيها متى أراد، وهو أمرٌ لا يمكن احتماله؛ بل يجب أن يكون قراره الشعبي والسلم بيد الغرفة المشتركة، ومؤسسات الفصائل المجتمعة.
وفي الختام إن هذا وغيره، لم تقرأه حركة الجهاد، ولم تكن جاهزة له، ولكن الأهم الآن ما هو موقف الجهاد من فصائل المقاومة في غزة، وتحديدًا مع حركة حماس؟.
وهنا ليس لي إلا دعوة واحدة لكل المقاومة وأولها حركة حماس، يجب أن نبدأ حالة من الحوار الوطني القائم على أساس الشراكة في المغنم والمغرم، وألّا يتفرد أحد لا بمقدرات غزة ولا بإقرار الحرب والسلم فيها، وأن تكون اللجان الفصائلية منعقدة على مدار الساعة، فغزة اليوم لا تمثل نفسها؛ بل هي أهل الشعب الفلسطيني، وهي رأس حربة المقاومة، وأمل الأسرى وتحرير المسرى بإذن الله.
الأسير والباحث في مركز حضارات
مهند طلال شريم.