الخال شهيداً في ما يسمّى مشفى الرملة..
سلّمونا بضاعتنا، هكذا يتعاملون مع الانسان الفلسطيني، خردة بشرية غير مرغوب فيها، إذا عاد أبو رزق يوسف العرعير (المشهور في السجون بالخال) من عملية القلب المفتوح، فتحوا الباب القفصي الداخلي لقسم مشفى الرملة الذي يشبه زريبة غنم، دفعوا بعربة يعتلي مقعدها شيخا كبيرا" يوسف العرعير"، مثخن الجراح وكأنه عائد من معركة ضروس قد تناوشته سيوفها وسهامها من كلّ جانب، دماء نافرة على وجهه، استبدل وجهه نضارته المعروف بها بكآبة حزينة اثقلت رأسه وكأن رقبته أصبحت غير قادرة على حمله، فتهدّل إلى أسفل وانخفض مرغما على ما فيه من ألم وأسى، تلقّف الأسرى المرضى العربة من شرطة السجن، شقّ لهم الخال ابتسامة بشقّ الانفس، وراحوا ينشطّون هذه الروح الجميلة بنكاتهم التي اعتادوها منه منذ زمن طويل.
- يا خال، حضرنا لك فطور الفول مع فلفل ذكر، هناك تحدّي بانتظارك.
"يزيد من درجة ابتسامته مانعاً نفسه من الضحك كي لا يحرّك آلام صدره"
- حبل النط بانتظارك صباح الغدّ، ألف نطّة على نفس واحد، حراج عليك.
" بالكاد يرفع يمناه على صدره مشيراً للعملية التي شقّت صدره وعملوا فيه ما يحلوا لهم، وكأنه يشكو قسوة التجربة التي مرّ فيها في مسلخهم"
- يا خال، هانت إن شاء الله، بينك وبين السباحة على شاطئ غزة ستة شهور، راح من الحبسة ست وعشرين سنة ونص، باقي هالنص.
- الله أكبر عليهم روحهم الانتقامية العفنة لا حدود لها.
- هذا هو الخال: يحب قراءة الكتاب من الجلدة إلى الجلدة.
" لم يزد على توزيع ابتسامته المكسورة، حاول أن يحرّك لسانه وفكيه ببضع كلمات لكن وخزات في صدره كانت تضع لها حداً وتخنقها في صدره"
"ممثّل القسم حاول بدوره الاستفسار عن حالة الشيخ ووضعه الصحّي والاحتجاج على هذه العجلة بنقله من غرقة العمليات إلى هذا السجن الذي يقال له مشفى ظلماً وزورا، كانت الاجابة أنهم قاموا بإجراء عملية قلب مفتوح وهي ناجحة وسيُتابع هنا من قبل طبيب السجن"
حاول الأسرى تنظيف الدماء التي على وجهه وحول الجرح الذي شقّ صدره، كانت أجواء القسم شديدة الحرارة في ذاك اليوم الصيفي القائظ، ومعروف كم هو صيف هذا السجن قاسياً بحرارته العالية حيث يقع في إحدى زوايا مدينة الرملة المنخفضة، هذه المدينة الساحلية شديدة الرطوبة شديدة الحرارة صيفاً، وقد أرادت إدارتهم الحاقدة العفنة إقامة هذا السجن في منطقة تجمّع المياه العادمة للمنطقة، فهو مرتفع الحرارة وزاكم للأنوف والصدور بالروائح القاتلة المغلّفة بالرطوبة الخانقة، ثم يأتون بالحالات الصعبة من المرضى في السجون لا ليتشافوا في هذا المشفى بل ليجهزوا عليهم بكلّ ما أوتوا من حقد وبغض وتوحّش، سمّوه الأسرى مشفى الموت البطيء ومنهم من سمّاه مدفن الأحياء.
خيّم الموت على رؤوس الأسرى المرضى برؤيتهم لأخيهم "أبو رزق" وهو في هذه الحالة خاصة من يعرفه من قبل: كان شعلة من النشاط والرياضة والنكتة وخفّة الظلّ:
احتفل الأسرى في سجن عسقلان بكلّ فصائلهم بمناسبة يوم الأسير في ساعة الرياضة الصباحية، كانت الساحة مكتظّة كخلية نحل نشطة، وكانت إدارة السجن الحاقدة باستخباراتها وضباطها ترقب المشهد، بعفويّة جميلة اختار الأسرى الأكبر سنّاً ليقود الاحتفال والرياضة الجماعية الصباحية، وكان ذلك للخال، مشى مشية عسكرية وسط الساعة ورفع عقيرته بحزم: " على الداير يا شباب " يريد بذلك ترتيب الاسرى كحلقة واسعة على محيط الساحة، امتثل الأسرى للأمر بحب وشغف لما ينتظرهم من مفاجآت الخال، ثم هتف: أمام تحرّك، مشية عسكرية، تحرك الجميع بانضباط تام، زأر: قف، ثم : تحرّك، ثمّ: قف.. " ماذا بعد خال؟
- وجهك إلى الأمام.
- اجلس.
جلس الجميع كحركة صلاة، انضباط تام لما يريده الخال.
- نزع بشقيرا عن حبله ثم قال: سنلعب: رنّ رنّ يا جرس، أنا ساقوم بدور الجرس بكلمة قف، وضع البشقير خلف أحد الأسرى وانطلقت اللعبة التي أعادت الأسرى إلى طفولتهم الجميلة وذكريات بدايات الحياة البريئة.
وانقضت الساعة بمرح وسرور، رأيت فيها أصحاب المؤبدات والقامات العالية بأعمار متقدّمة تستجيب لأوامر الخال بسرور وسعادة أنستهم السجن وهمومه ساعة من الزمن الجميل.
في أيامه الأخيرة بعد أوجع القلب صدره وقضّ راحته لم يكن الرابح في مراهنات نطّ الحبل، كان سابقاً إذا مسك الحبل لم يفلته ساعة الرياضة كاملة، فأصبح لا يتجاوز الثلاث دقائق.
عصراً تورّد وجهه قليلا، التفّ الأسرى حوله، طلب منّي أن أحضر شنطته، سحبتها طلب فتحها ثم شرع بتوزيع تركته الغالية على نفسه:
- هذا الترانزستر خدمني طيلة الحبسة ست وعشرين سنة، لصديقي العزيز إبراهيم في عسقلان.
- ست وعشرين سنة ونص، " صحّحت الرقم"
- ونص نعم، هذه السترة لرافت.
ولم يبق شيئاً في حقيبته سوى متاع قليل، ما هذا يا أبو رزق، لم تبق شيئاً لك.
- شعوري إنه الحبسة في نهايتها إما على غزة أو فوق.
- إن شاء الله على غزة مع أهلك وأبنائك وأحفادك.
" أردت أن أمازحه:
- حدثنا يا خال يوم قلت لأم رزق إنك بدّك تتجوّز.
- ابتسم ابتسامة عريضة لأوّل مرة، قبض عليها في منتصفها لألم وخزه في صدره.
- لا بأس أحدّثها عنك، مرّة يا شباب خطرت في بال الخال فكرة أن يتزوج على إم رزق، طرح الفكرة عليها بكلّ جرأة وشجاعة، قالت له: بسيطة يا أبو رزق أنا ساكون أول المباركات لك، انتظرني قليلا، وكانت تعرف مخبأ السلاح ذهبت إليه وأخرجت قنبلة فتحت صاعقها وجاءت كالقدر المستعجل:
- "أعد ما قلت يا يوسف"
على السريع الخال تلعثم وانقد لسانه، بالزور قدر على أن يقول:
- والله إني أمزح يا أم رزق، دخيلك عمري ما بعيد هالمزحة ثقيلة الدم.
أعاد الصاعق محلّه بعد أن بلغت القلوب الحناجر وتشاهد على روحه وأقسم لها أيماناً مغلّظة بأنه لن يرضى عنها بديلاً وهي الممثّل الشرعي والوحيد لعائلته الكريمة.
شعّ وجه الخال وانبلجت ابتسامة جميله من ثنايا وجهه البشوش.
مساء تكدّر وجه الخال، اجتاحت صدره آلام مبرحة ضربته من كلّ جانب، صرخ من قحف صدره، استغاث بلا صوت، توجّه ممثل المشفى وخلفه بعض الأسرى المرضى المكسّرة أجنحتهم بينما بقي البعض الآخر مع الخال، وضع أحدهم الخال في حضنه واسند رأسه إلى صدره، بعد نصف ساعة وهو على هذا الحال الخطير وصل ممرّض المشفى مع عربة يدفعها أمامه، حمل الأسرى الخال على العربة وساروا به إلى بوابة القسم ومن هناك دفعه الممرّض أمامه ليغيب به خلف الأبواب اللعينة، نصف ساعة مضت كلّ ثانية فيها كسنة، عاد الممرض وعيناه تدوران بشكل مريب، طلب من ممثّل المعتقل شرشفاً أبيضاً، وهذه لها معنى واحد عند الأسرى يفهمونه جيداً، رحمك الله يا خال، أبت ساديتهم لك إلا أن تموت في سجونهم، وأراد الله لك أن ترتقي شهيداً وأنت مجاهد في هذا الخندق المتقدم والملتحم مع ألدّ أعدائه لتكون هناك في أعالي الجنان بإذن الله.