من أبرز المفاهيم التي زاحمت مناطق الألسنيات، وقواميس اللغات، حتى احتلت حيزها، وأفسحت لمركبها اللغوي مجالها الذي لا ينازع، كان مفهوم "زنزانة" ثقيل الوقع بركبيه البناء اللفظي و"العمق المعنوي"، وقد حضر بقوة في عصر المدنية والذروة الحضارية التقدمية، وكشف أحد أهم المفارقات العجيبة التي التصقت بالإنسان الحضاري، إذ وضح بشكل لا غروّ فيه أن الإنسان كلما ارتقى على مستوى العقل والعلم المجردين من البعد الديني انقلب على فطرته الأولى التي اشتملت على السعادة المثلى، التي انبثقت من كونه إنساناً صالحاً، كما قال روسو -حامل لقب أول داعية إلى التطور الاجتماعي- وهذا الانقلاب على الفطرة الطبيعية انحط بالإنسان على مستوى إنسانيته الصالحة المسالمة، وأحدث كثيراً من التعقيد في علاقاته الاجتماعية، وقاده إلى الإيغال في طغيانه وجبروته، ونكّسه في قيمه وأخلاقياته الى الحد البهيمي الذي أحاله إلى شرعة الغاب والصبغة بقوانينها (الظلم، والبغي، والتغول، وقهر الضعيف، وافتراسه أو اقصائه، واحتلال جغرافياته، ونزع صفة الحرية عنه، وجعله "عبداً" من غير كيانات مادية أو معنوية).
هذا التحول الذي طرأ على الفطرة الطبيعية "الأولى" للإنسان أنتج الكثير من المفاهيم الدخيلة والتي ليس لها علاقة بالمفاهيم الإنسانية السليمة، وهي مفاهيم تعبر في مضمونها وفي أبعادها وتأثيراتها عن الحد الذي وصل إليه هذا الإنسان الحضاري المنسلخ عن روح السماء من الحضيضية والإجرام، ولقد كان مفهوم "زنزانة" المنتج الحضاري والعصري الذي ينهش بقوة في معترك الصراع الفلسطيني ضد المستعمر الصهيوني التلمودي، ولا ريب أنه أكثر الأدوات بشاعةً وقسوة المتنفذة في عمليات هدم وكسر الذات الثورية الفلسطينية، وهي أحد أهم الأدوات العاملة بفاعلية ابتكارية نشطة على تحوير وتبديل التصورات الاعتيادية والطبيعية التي تعتمر الذهن البشري لكل ما هو ممكن ونقلها إلى مطارح اللاممكن والمحال غير المتخيلة في الذهنية البشرية، وجعلها تحيا حالة من الانفصام الشعوري بين الذات ومحيطها، وتعيش حالة من التضاد والتصادم تتطلب جهد كبير يبذل لخلق نوع من آليات التحدي والصمود وتفوق الممكن وتعلوه وتمكن الذات الثورية من حسم المرحلة البرزخية لصالحها.
وقد نجوّز نعت تلك المرحلة بالبرزخية قياساً، لأن الذات الثورية بالفعل تحيا حياة برزخية بطرفيها (الثبات والانكسار) وذلك عندما تُزج في الإطار المادي لمفهوم زنزانة –فهي "الذات" تصير إلى صراع قاهر ودموي ما بين الثبات على المبدأ الثوري وما بين الانكسار والتراجع عن ذلك المبدأ، أما هول وجحيم حالة القمع اللا إنساني الذي يفرزه ويصيغه مفهوم زنزانة كأداة متنفذة ومتحكمة بقوة اللغة ولغة القوة...!
ولتقريب المقصود للقارئ فإن: الزنزانة بإمكانها أن تتنفسك حتى آخر أنفاسك، فتجعلك في حالة دائمة من الاختناق وموت الرئة البطيء، إذ لا هواء لها تبتلعه إلا حفنة الهواء التي في رئتيك وأنت أضعف من أن تغلق فمك إلى ما لا نهاية إلا بالموت..!
الزنزانة: تفرض حول عينيك سياجاً من الغشاوة يصيبك باضطرابات شديدة في العصب البصري، من شأنها أن تعييه إلى درجة أنه يصاب بالعشى الليلي والعمى التدريجي .. فهي تحرمك من رؤية الأشياء خارج إطارها وقواها المحصور على شكل دائري أو مستطيلي لا يتجاوز مد الذراعيين وانبساطهما، ولا أشياء في هذا الاطار تريكها إلا سواد جدرانها أو رماديتها، ثم إنها وبشكل تدريجي تأخذ تتغول على مخزون ذاكرتك البصري وتبدأ بمصادرة الآفاق البعيدة والقريبة وكل ما جمعته عليك الطبيعة والحياة من رؤية ومشاهدة قبل أن تبتلعك الزنزانة..!
الزنزانة: تجعل منك قعيداً، إنها تضربك بشلل خالص إذ لا مساحات في بطنها تمشيها، إنما هي ثلاث أمتار أو أقل، مبسوطة لا اعوجاج فيها، تزحفها زحفاً مزدحماً في غالب الأوقات، ثم إنها وبشكل تدريجي أيضاً تأخذ تتغول مرة أخرى على مخزون ذاكرتك المملوء بالجري فوق تراب الأزقة وشوارع الحارات الملتف، والركض فوق غرابيب الجبال وسفوحها والقفز عن قمم التلال وجسوم الصخور وسناسل السهول والحقول..!
الزنزانة: مصاباً بالصمم المعدي، وتكره الأصوات ،أصوات السكون المميت.. هي سادية بطبعها في هذا حتى أنها تأخذ بامتصاص سمعك شيئاً فشيئاً حتى توصلك إلى منطقة الطرش ولا تبقي في أذنيك إلا طنيناً مؤلماً وهسيس صمت يسيل من جدرانها إلى أذنيك بطريقة دبقة لزجة، ثم إنها أيضا تمتص من مخزون ذاكرتك السمعية كل ما ورثتك الطبيعة إياه من أغاني الكون وأنشوداته وعزفه الندي الرقراق على وتر الحب الإنساني في رقصة الحياة ونزعتها السرمدية..!
هذه هي زنزانة الحضارة والمدنية ومنتجها الإبداعي في زمن الانبعاج التكنولوجي والثورة الفلكية، إنها الابداع الأكثر بشاعة وإيلاماً الذي يعكس قدرة الإنسان الطاغية على التفنن في ممارسة عمليات الايذاء والاضطهاد ضد كل إنسان سليم الفطرة سويها..
إنها المنتج الأكثر شراهة وشراسة في محاولته قتل وإبادة كل ذرة وتمرد تجابه الظلم وتناهض وتقارع الطواغي المستعمرين..!
إنها الزنزانة التي لابد من العمل على محو مفهومها من قواميس اللغات وشطبها من مناطق الألسنيات ولا يمكن لهذا أن يكون إلا بإبادتها من واقع الحياة، ولا يمكن لهذا أن يكون إلا بقلع المستعمر من جذور الجغرافيات المحتلة المستعمرة.