لم يترك سامي احتمالا إلّا وقلّبه مرارا وتكرارا قبل أن تضع البوسطة أوزارها في محطتها الأخيرة: "محكمة عوفر".. كانت الانطلاقة للمرحلة الأخيرة صباحا من "معبر الرملة" إلى هذه المحكمة اللصيقة بسجن عوفر قرابة ساعة من السفر الشاقّ، تابوت حديديّ مثبّت في شاحنة يحشرون به ما يقارب خمسين معتقلا، تلفح وجوههم حرارة السقف صيفا وبرودته شتاء. يقود ناقلة الموتى هذه من أمهر السائقين "دفاشة" وقسوة، يخضّ المعتقلين خضّا عنيفا ويروّب حليبهم..

عشرون شهرا وعشرون يوما، على ستة تمديدات، ثلاث مرّات؛ لكلّ مرّة ستة شهور، ثمّ مرّتين بثلاثة شهور لكلّ مرّة، وفي استئناف المرّة الأخيرة تم إعلامه بأنّ هذه المرّة "جوهري" بمعنى غير قابلة للتمديد.

وقد يسأل سائل: لماذا هذه الحرب النفسيّة عليه وعلى أهله، ليخبروه إياها دفعة واحدة؟ إنها ببساطة فنون ساديّة يتقنونها جيّدا.

لم يعد يفكّر بأبنائه ولا بأيّ أحد من أركان عائلته، لا صغير ولا كبير، سوى أبيه، لم يغادر قلبه في هذا التمديد الأخير وكان يلازمه هاجس يرتعب منه، هل سيفرج عني ولا يكون نصيبي من أبي إلا زيارة قبره؟ يتعوّذ بالله من هذا الهاجس ويبتهل إلى الله السلامة لأبيه وأن يجتمع به معانقا بعد أن يتلألأ وجهه نورا كبقيّة إفراجاته العديدة.

وضربت أعماقه فكرة، هل يطلب من المحامي أن يطرح هذا البعد الإنساني لعلّ وعسى أن تلامس إنسانا داخل هذا الوحش المفترس الذي يُسمّونه قاضيا؟ أغلبهم كان في الجيش وشارك في القتل والمجازر، منذ سنة 48 وشلال الدماء الفلسطينية عامر، هناك قاض يُدعى "شلومو" يعرفه المعتقلون الإداريون جيّدا، كان يجيد الاستماع للأبعاد الإنسانية ويتلوّن وجهه متصنّعا التأثّر، ولكن القرار يبقى هو قرار مخابراتهم الذي لا يُلقي بالا لمشاعرنا البتّة.

لا يا سامي، ما أنت فيه من ضغط خاصة اشتياقك لرؤية أبيك وأن تكون بجانبه في أيامه الأخيرة؛ إياك أن يدفعك لطلب كهذا فأنت أعلم الناس بمعادلاتهم التي لا تعرف للمشاعر الإنسانية أيّ سبيل.

زنزانة الانتظار التي لا يجد فيها المعتقل أوكسجينا لصدره إلا بشقّ الأنفس، مكتظّة بكلّ شيء، مكتظة بالأنفاس الملتهبة والعرق ورائحته القاسية، مكتظّة بالمشاعر الكئيبة وظلمات القهر والظلم، مكتظّة بالثرثرة والتعارف والابتسامات النقيّة والنكات البريئة التي تشقّ طريقها وسط هذه الأدغال الشائكة، مكتظّة أيضا بالأمل والصور الجميلة بعد الانعتاق من هذا السجن لحظة الإفراج والعودة للعائلة الجميلة.

أطلّ شرطيّ نكد ونعق:

- سامي حسين، محامي.

قفز سامي بعد أن قفز قلبه من صدره، تمالك أمام حديثي العهد من حوله من المعتقلين، هذه المرّة أحسّ بشعور غريب يجتاح صدره ويزلزل الأرض من تحت أقدامه، رغم أنه كعادته مع هذه المهازل التي تُسمّى محاكم ظلما وزورا قد تجهّز نفسيا لكلّ الاحتمالات: رفض استئنافه، تحويله لقضية من جديد بعد أن أوشك الاعتقال الإداري أن يلفظ أنفاسه، تبليغه بتجديد جديد بعد التراجع عن الحكم الجوهري الذي أخبروه به بالمحكمة السابقة، أيّ احتمالات من مهاتراتهم العجيبة هو جاهز لها، لكن هذه الطلّة للمحامي من طاقة زنزانة انتظار المحكمة فتحت في رأسه شرخا مريعا أحسّت به كلّ خلية من خلايا روحه وجسده..

- سامي صباح الخير، اسمع صديقي أنت جمل المحامل، إنت إنسان واجهت ابتلاءات كثيرة في حياتك، وياما تحمّلت وصبرت في هذه السجون.

- ليس على عادتك، احكي مبروك التمديد الجديد أو رفضوا الاستئناف، هذا عدوّ نتوقّع منه كلّ شيء.

- الموضوع خارج السجن أخي سامي.

- أبي؟؟ احكي..

- البقيّة في حياتك.

كانت صدمة فظيعة وزلزالا شعر بأنّه يدمّر كلّ شيء في حياته، لفّه الصمت إذ توقّفت الثرثرة خلفه فجأة ووقف الجميع وكأنّ على رؤوسهم الطير.. تابع المحامي:

- سأطلب من القاضي الإفراج عنك فورا لحضور الجنازة، في الخارج يتوقّعون ذلك، أخّروها لصلاة العصر، أعتقد أنه يكفيهم 22 شهرا وعشرين يوما، القاضي اليوم أقلّهم سوءا، أعتقد أنه سيقبل استئنافنا، لكن أنت أعلم بهم مني.

تحوّلت الزنزانة إلى بيت عزاء إذ عانق الجميع سامي وأسمعوه من الأدعية وكلمات العزاء كثيرا، الكلّ يتخيّل نفسه في ذات الموقف وقد تلقى خبر وفاة عزيز، اختلفوا بين احتمال الإفراج أو رفض الاستئناف.

بعد ساعتين طلبوا سامي للمحكمة، عزف النائب العسكري معزوفته المرعبة، الدنيئة، البشعة، النافرة المتناقضة، الخلاصة وجوده داخل السجن يحفظ أمن الجمهور، لا يمكن لأحد أن يتصوّر المخاطر الأمنية التي قد يتسبّب فيها الإفراج عنه، وطلب من القاضي أن يكمل حبسته حتى يومها الأخير أيّ بعد أربعين يوما.

لفّ القاضي السمين كرسيّه تجاه المحامي، زمّ شفتيه ورفعها قليلا معطيا الحديث للمحامي..

- سيادة القاضي، اليوم صباحا توفي والد المعتقل سامي، الأهل ينتظرونه للمشاركة في جنازة أبيه، وآمل أن لا يُحرم من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة خاصّة وأنه قد تمّ تمديده ست مرات على خلفية تقرير سرّي دون أن نعرف تهمة أو لائحة اتهام.

لفّ القاضي رأسه الثقيل والمكتنز شحما ولحما وبياضا وشيخوخة نحو سامي:

- الله يرحمه، أقدّر هذا الظرف الصعب وأعزّيك من أعماقي، وكما تقولون يسلم راسك. هل تريد أن تضيف شيئا؟

- أكتفي بأقوال المحامي.

رسم القاضي ابتسامة ودودة مريحة أوحت بأن القرار سيكون إيجابيا. بادله المحامي ذات الابتسامة، لم يستطع سامي تبادل هذه الابتسامة فقد مرّت عليه كثير من التجارب مكّنته من رؤية ما فيها من خبث ومكر.

انتهت المحاكمات الواحدة تلو الأخرى تمام الساعة الخامسة، سمع سامي أذان العصر بقلبه، الوالد الآن مسجّى في المسجد وينتظر الجميع خبر الإفراج ووصول سامي، جاءت البوسطة، وبدأت إجراءات إعادة المعتقلين إلى البوسطة التي ستقلّهم إلى "معبر الرملة"، قد يصدر القرار في أيّة لحظة فيطير مسرعا من عوفر إلى البلدة القريبة بيتونيا ثم إلى اللحاق بالجنازة وطبع قبلة على جبين الوالد العزيز، ورد اسمه في القائمة العائدة إلى الرملة، صعدت قدماه درج البوسطة اللعينة، أغلقوا بابها بأقفالهم الغليظة، سار التابوت مهرولا إلى الرملة، ومع كل شخرة من شخيرها المرعب يتبدّد أمل الإفراج. فهم سامي ضمنا رفض الاستئناف، سيكمل الشهور الأربعة والعشرين بالكمال والتمام وليكتمل مجموع حبساته فيصبح 25 سنة ولتزيد عن نصف عمره خلف تلك القضبان.

هذه المرّة سيخرج دون أن يجد أباه أوّل المستقبلين.