حوار هادئ مع جمهور المقاومة
حول المصالحة
لا تكاد تظهر محطة من محطات قطار المصالحة إلا وتعلو أصوات مكلومة من جمهور المقاومة تشكك بجدواها، يائسة من إمكانية قدرتها على إحداث أي تغيير على الأرض، وفي أحيان كثيرة تسمع قيادة المقاومة نقداً قاسيا يكاد يصفها بالتفريط بجراح ومعاناة ومصير أبنائها!!! وبعد ما رشح من اجتماعات أنقرة الأخيرة( 24/9/2020) حول الانتخابات تعالت الأصوات تسخر من جدواها وتشكك في كونها مدخلا يمكن أن يحدث أي تغيير على الأرض. وفي هذا الخضم أحاول أن أناقش بهدوء جمهور المقاومة المتشكك واليائس، ويمكنني تسجيل الملاحظات الآتية:
وأما هذه العقبات الكأداء هل يصح أن يتوقع عاقل أن ثمة حلولا سحرية وسريعة وجاهزة يمكن أن تخرجنا من عنق الزجاجة هذا؟ وهل يصح أن يشكّل عدم رؤيتنا لضوء في آخر النفق يوحي أن نهايته قد اقتربت أن يدعونا هذا لليأس والتوقف وعدم الاستمرار في طريق ليس ثمة سواه مخرجا وخلاصا؟
وبناء على ما تقدم:
1/ إذا كان البعض يرى في إلحاح السلطة على الانتخابات كمدخل للحل، خطوة تكتيكية لا خيارا استراتيجيا نحو الشراكة والمصالحة، فالسؤال: كيف يمكن تغيير سلوك السلطة وإقناعها بجعل المصالحة خيارا استراتيجيا لا تكتيكيا؟ هل يتم ذلك بالتشكيك بالنوايا والاتهام والتثبيط وكيل الاتهامات؟ وكيف يزيل الحواجز من تصنع كل كلمة وخطوة له ومنه حاجزا وعقبة؟ ألا إن رؤية الحاجز أمر قد يحسنه كثيرون. لكن قلة من الناس هم من ينزل إلى الميدان ويبدأ في حر الشمس وبرد الشتاء و أمام سخرية الناظرين واستهزاء المثبطين، يبدأ بإزالتها واحدا تلو الآخر. وأحسب أن هذا ما قامت به القيادات الفلسطينية التي آمنت بالمصالحة وعملت لإنجاحها.
2/ مع كل التفهم لعمق الألم والجراح ( وكاتب هذه السطور ليس منأى عن شظاياها)، فإن كانت مثل هذه الخطوات ليست السبيل ( ولو كان طويلا وبسير بطيء) لتضميدها، فما هو السبيل؟ هل هو مراوحة المكان؟ وانتقاد الانقسام وتحميل المسؤوليات، ورؤية الوطن يضيع ونحن نبكي على أطلاله؟ المشكلة أن كل الذين يوجهون سهام النقد لخطوات المصالحة والتقارب لا يقدمون بديلا عمليا.
أيها الكرام إن أزمة الثقة القائمة، والحواجز التي خلفها الانقسام لا يمكن إزالتها إلا بالعمل المشترك، والميداني الموحد وتكبير الإيجابيات وتعزيز الأمل والثناء على كل خطوة تخطو بنا نحو الوحدة. إن الجراح كثيرة، والعورات في النسيج الوطني ظاهرة وبادية وليس أسهل من الإشارة إليها، لكن العمل الصعب هو إبصار نقاط الضوء الخافتة ثم العمل على إبقاء جذوتها وتقوية إشعاعها أمام الرياح، فإن لم تكن موجودة فلا مناص من أن نوقد من جراحنا ما يشعل جذوتها.
3/ إن الظلام المحبط والقائم يراه كل أحد، لكن القادة الكبار هم الذين لا يزيدهم سواده إلا يقينا باقتراب الفجر. وأذكر أنه في الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى وعندما كان هناك أصوات كثيرة تشكك فيها وتراها مسرحية، خرج الشيخ جمال منصور رحمه الله من سجون السلطة وأخذ يبشر الناس بالزمن الجديد والأمل القادم، وكان يقول للمقربين حوله: هذه الانتفاضة لن تكون انتفاضة تحريك، سنجعلها انتفاضة تحرير، هذه الانتفاضة ستحرر غزة وجزءاً من الضفة بإذن الله. ( ولا أقول أننا على أبواب انتفاضة) ولكني أتحدث عن الأمل وكيف ينتزعه القادة الكبار من خيوط اليأس. وأحسب أن هذا ما فعله ويفعله القادة الكبار اليوم وهم يشقون طريقهم الصعب نحو المصالحة. وما يراه البعض ثمرة بعيدة المنال يرونها هم في متناول اليد، وما هو إلا صبر قليل حتى يرى الناس على أرض الوحدة ما رآه القادة في أحلامهم وخططهم وسعيهم الدؤوب.
4/ ولا أعجب ممن لا يريد إلا أن يرى النصف الفارغ دائما، فيلقي في وجه الأمل يأس السؤال: وكيف يمكن أن يلتقي البرنامجان؟ وكل منهما يسير عكس صاحبه؟ هيهات إذاً أن تحدث المصالحة! وكل ما يحصل إنما هو تسكين لحالة ستعاود الانفجار فلا أمل بالتوحد والالتقاء؟
ولأخينا الكريم نقول: ومن قال إن وظيفة المصالحة إنهاء الاختلاف والخلاف؟ وأن هدفها توحيد البرامج والأفكار؟ المصالحة ببساطة هي أسلوب التعايش الكريم على مبادئ العدالة والحرية والشراكة بين المختلفين. وببساطة أكبر، هي نجاحنا في إدارة اختلافاتنا وتحويلها من تحديات إلى فرص مثرية ومعززة وفاعلة ومفعلة. قبل المصالحة وبعدها ستظل بيننا اختلافات في السياسات والأفكار والتصورات، لكن إنهاء الانقسام والمصالحة يعني أننا – كبقية الشعوب المتحضرة- نجحنا في إدارة اختلافاتنا وتنظيمها، نجحنا في عرض أنفسنا وبرامجنا على شعوبنا لتحكم بيننا وتحاكمنا في كل محطة انتخابية فتكافئ المحسن وتعاقب المسيء، ليزداد المحسن إحسانا ويظل يطور ويتطور، ويراجع المسيء سياساته فيعود أقوى وأنضج. المصالحة رسالتنا الحضارية للعالم _ ولأنفسنا قبلهم_ أننا شعب يستحق الحرية بل هو صانعها ويتمثلها في سلوكه وممارساته، وعلى الرغم من تباين مشاربه إلا أنه جسد واحد يتداعى بالحمى والسهر لعضو منه اشتكى وتألم. وقبل ذلك ومعه وبعده: فالمصالحة رسالة هذا الشعب الواضحة لعدوه المحتل أن فرحه بانقسامه قد ولى، وأن هذه الأرض لا تنصاع لأقدام الغزاة، لأن فيها شعبا يتعالى على جراحه الخاصة مهما كبرت، لأنه لا ينشغل إلا بجرح الوطن.
وإن كان لا بد من كلمة أخيرة لجمهور المقاومة المتشكك فأقول: لطالما راهنت عليكم قيادتكم في الشدائد فكنتم دوما عند حسن الظن، وهي اليوم كذلك لا تنتظر منكم إلا أن تظلوا كبارا كما أن حركتكم كبيرة، وكما أن مشروعكم كبير. وأمام الأمل بتطبيب جرح الوطن الذي عمقه الانقسام فإن كل الجراح الخاصة تهون. ولا تقول لكم قيادتكم انتظروا بزوغ الفجر، بل شاركوا بصنع هذا الفجر ثقة وأملا ثم عملا مشتركا بالقول والفعل يدفع باتجاه الوحدة وإعادة اللحمة ويحاصر الانقسام وأصوات الانقسام وتخذيل الانقسام ويأس الانقسام.
وإن كانت كل ظروف الدنيا تقول لنا إن الطريق مسدود، فإن القرآن يقول لنا: إن الصبح قريب، لكنه يحتاج منا أن نسير إليه بقطع من الليل دون التفات لماضٍ مخذّل ومحبط. ربما تكون هناك آلام وجراح أثناء المسير لكن لا بد منها نحو الفجر. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.