هناك مخرج سينمائي قد وسّع خيال الجريمة عنده إلى أبعد نقطة قد يصل إليها خيال بشر، يريد فيلما يحقّق حياة الدرك الأسفل مما قد يصل إليه الإنسان، أراد لفيلمه أن يحطّم خيال من قبله في أفلام الرعب، وأن يحقّق أرقاما قياسية لم يسبقه إليها أحد، وكان لا بدّ لتحقيق نجاح هذا الفيلم من ميزانية هائلة تقدّر بالمليارات، فستكون هناك أماكن تصوير مكلفة جدا، وسيستخدم معدّات وآليات تحاكي الواقع وهذه مكلفة وتحتاج بعد توفيرها إلى من يقودها من الفنيين والمحترفين من ذوي الخبرات العالية، وكذلك لا بدّ من مجموعة كبيرة جدا من الممثلين الذين سيقومون بأدوار إدارية وقيادية، وهؤلاء يجب اختيارهم من عتاولة الفن السينمائي والمشهود لهم بإتقان الدور على أعلى درجات الإتقان، بالإضافة إلى جمهور هائل من "الكومبارس"، وكذلك يحتاج إلى طواقم التصوير البارعة في التصوير السينمائي من ذوي الخبرات الطويلة والإنجازات المشهود لها في الوسط الفنّي.
وكان من أصعب المهام هو تحضير المكان بما يتلاءم مع غايات الفيلم، والتي تتلخّص بإحداث صدمة هائلة ونقلة نوعية مذهلة في عالم أفلام الرعب، وأن تكون هناك مسافة شاسعة بين هذا الفيلم ومن سبقه وبما يتلاءم مع خيال مخرجنا العظيم وطموحات خيالاته التي لا يصل إليها أحد.
فالمطلوب فيلم صرعة وصدمة وصرخة عظيمة في عالم انهارت فيه القيم الإنسانيّة، وحتى يعود إلى رشده لا بدّ وأن نزلزل كيانه بفيلم رهيب يعيده إلى صوابه وإصلاح أمره وإنقاذ القيم الإنسانيّة من الضياع والدمار.
المكان المطلوب لإخراج هذا الفيلم يجب أن يكون قطاعا سكّانيّا منكوبا في الأصل ويعيش حياة مأساوية، حالة من الضعف والهوان، وغالبية سكانه من الأطفال، فيه شبه مدارس يتعلّم فيها أطفالهم، وفيه مشاف مستهلكة مستنزفة الموارد، ولا بدّ من مساجد كثيرة لأننا نريد أن نُظهر المشهد الفاتك بالمسلمين الذين يتقنون فن الإرهاب، وبعض الكنائس حتى نُظهر الاستهداف الكلّي لجنس الإنسان، ولا بدّ من مساكن مكتظة تشبه مخيمات اللجوء والشتات للشعب الفلسطيني، ولا بدّ أيضا من اختيار الجغرافيا المناسبة حيث يكون هذا القطاع من السكّان محاصر من قبل الأعداء منذ فترة طويلة من الزمان.
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى يحمل لقب "النتن" بعد أن سمع بأنباء التحضير لهذا الفيلم من مستلزمات وأماكن تصوير تناسب الغايات، هذا الرجل زعيم عصابة وعنده الكثير من الميزانيات والاستعدادات، والأهم من هذا أن خياله ينسجم مع خيال هذا المخرج، قال له: لِمَ تُتعب نفسك أيها المخرج الهُمام بتحضيرات المكان؟ لديّ مقترح لمكان جاهز فيه كل المواصفات التي تريد، مكتظ بالسكان وفيه ما يكفي من الأطفال والمدارس والمربّعات السكنية المتهالكة والمستشفيات، وهو كما تريد، محاصر ومنكوب وكلّ شيء فيه مضروب، لِمَ تتعب نفسك في بناء أمكنة التصوير والتي ستستهلك ميزانية الفيلم وتستنزف كلّ الامكانيّات؟
ولديّ مجموعة كبيرة من الممثّلين الذين يتقنون الأدوار خير إتقان، ولديّ أيضا من المعدات والآليّات ما يفي بالغرض الذي تريد، لديّ من الطائرات والدبّابات من كلّ الأشكال والانواع..
وبخصوص طواقم التصوير ستأتينا من كلّ صوب وحدب ومن كلّ الأشكال والألوان، وبإمكانك أن تستخدم الذخيرة الحيّة وأن تعتبر ما أقدّمه لك مختبر تجارب لكل أنواع السّلاح، بإمكانك أن تجرّب كلّ ما وصل إليه عالم الإجرام من سلاح وقوة تدمير وقتل هائلة على الأحياء والأموات.. نعم أقصد ما أقول، حتى أمواتهم ومقابرهم مستباحة كما هو حال الأحياء. أمورك كلّها جاهزة عندي أيها المخرج الهمام.
سُرّ المخرج من هذا الفتح المبين والذي سيوفّر عليه كثيرا من الميزانيات، ولكنّه أعرب عن قلقه بخصوص الطبيعة البشرية للممثّلين، هل سيقبلون بممارسة أسوأ أنواع الجريمة التي يحتويها الفيلم، فالمشاهد على أسوأ مما يتخيّلون؟ طمأنه "النتن" وقال له إنهم نسخة بشرية على أسوأ مما وصل إليه خيالك، لا تقلق أبدا. قال له المخرج: ستكون هناك مشاهد فيها قتل أطفال ونساء ومدنيين من كل الأنواع، وسيكون هناك قصف مساجد وكنائس ومدارس مكتظة بالناس ومستشفيات تعجّ بالجرحى والمرضى وووو.. طمأنه "النتن" وقال له: لديّ من يتلذّذ وهو يقوم بهذه الأدوار وستجد منهم ما يسرّك ويثلج صدرك، ولكنّي سأبادلك قلقك بقلق آخر: سنجد من يقاوم فكرة هذا الفيلم فيواجهون ممثلينا مواجهة شديدة وقاسية. المخرج من جانبه قال: هذا جيّد لأننا بذلك نجد ما يبرّر جرائمنا ونضفي على الفيلم هالة من "الآكشن" والانفعال.
وسأل "النتن": وهل تستطيع تحمّل تبعات خسائرنا من الأرواح والمعدّات، ردّ المخرج: هذه مقدور عليها، ولكن لا دخل لي بما يلحق ذاك القطاع من خسائر في الأرواح والممتلكات.
وبدأ الفيلم بعد أن اختاروا له قطاع غزّة، لقد نجحوا في إنتاج أسوأ مشاهد الجريمة التي قد يتخيّلها إنسان، نجحوا في إنتاج مشاهد الدمار الشامل، دمّروا عشرات المشافي والمدارس والكنائس وارتكبوا مئات المجازر التي كان جلّ ضحاياها من الأطفال والنساء، تفنّنوا في مشاهد مستشفى يهوي على رؤوس مرضاه ومسجد مع مئذنته يخرّ صريعا كلّ يوم، وأنتجوا مشاهد كثيرة لا تعدّ ولا تحصى لأطفال يخرجون من تحت الركام أحياء وأموات، وأنتجوا مشاهد كثيرة لعائلات يُقتل جميع أفرادها ويبقى منها طفل وحيد بقي على قيد الحياة.. ألقوا من صواريخ الدمار ما يعادل ثلاث أو أربع قنابل نووية، ضربوا ما يزيد عن ثلاثة آلاف هدف بأعتى المدمّرات، منازل ومربعات سكنية بالجملة ومن غير حساب.
وما لم يكن بحسبان المخرج أن هؤلاء الذين قاوموا العدوان نجحوا في إحداث تغيير جوهري على سيناريو الفيلم، حرفوا له البوصلة، مع النكبة والكارثة وحرب الإبادة أنتجوا مشاهد أخرى، لم تكن رغبات المخرج وأهدافه إلا أن يحقّق سبقا في عالم الجريمة والرعب والقتل، أمّا أن يحقّق الفيلم سبقا في عالم الفداء وأن يحقّق كل هذه الخسائر البشرية وتدمير المعدات لهذا المتبرّع الجبان، فهذا لم يكن بحسبان، وأنّى له تعويض ما هو أضعاف أضعاف تكلفة تهيئة المكان، وما تجرّه أيضا تداعيات هذا الفيلم على صعيد حضارة الإنسان كثيرة ويضيق لها هذا المكان.