بقلم: الشيخ رائد صلاح
يُرْوى أن جُحا اشترى ذات يوم كيس سُكر ذا حجم كبير، ولما وضعه في مطبخ بيته كتب عليه بخط عريض كلمة (ملح)، فقيل له: لماذا كتبت كلمة (ملح) على كيس السُكر؟!، قال: حتى لا يقترب منه النمل، وهذا يعني أنَّ جحا أوهم نفسه أن تغيير أسم السُكر قد يخدع النمل، وتظن أن هذا السُكر ملح، إلا أنه لما فحص كيس السُكر بعد يوم وجده قد تحول إلى بيت نمل، ومع بساطة شخصية جحا ومع بساطة قصته هناك اليوم الكثير من الفراعنة المُتكبرين في الأرض الذين تبنوا سلوك جحا مع كيس سُكره وراحوا يسمون الأشياء بغير مُسمياتها ظنًا منهم أنهم سيخدعون البشرية في كل الأرض، وسيُهندسون عقولها وتفكيرها وقناعاتها وفق المُسميات التي سيفرضونها عليها وإن كانت هذه المُسميات تُناقض حقيقة ماهية الأشياء التي أطلقت عليها!!
بل إن هؤلاء الفراعنة المُعاصرين الذين علوا في الأرض وجعلوا أهلها شيعا، ها هم اليوم يحتكرون هذه المُسميات، وكأنها باتت مُلكًا شخصيًا لهم، ولا يجوز لغيرهم استخدام هذه المُسميات لأنها أصبحت (ماركة) مُسجلة عليهم، كما هي ماركات الشركات العابرة للقارات التي لا يجوز لأحد استخدام أسماء منتجاتها وإلا فسيقع تحت طائلة القانون والمحاكم الدولية وقد تُفرض عليه الغرامات الفلكية في أرقامها، وهذا يعني أن هؤلاء الفراعنة المُعاصرين لم يكتفوا بفرض مُسميات على الأشياء تُخالف ماهيتها، بل احتكروا هذه المُسميات ولا يجوز لغيرهم استخدامها، وعلى سبيل المثال كلمة (السلام) وكلمة (تقرير المصير) وكلمة (التعايش) وكلمة (المُساواة) وكلمة (الشرعية الدولية) وكلمة (الإرادة الدولية) وكلمة (المواثيق الدولية) وكلمة (الرأي العام العالمي)، فكل هذه المُسميات أصبح هؤلاء الفراعنة المعاصرون يطلقونها اليوم بما يُصادم حقيقة ماهيتها، وأصبحوا يدّعون أنهم هم الأب الشرعي الوحيد لهذه المُسميات، ولا يجوز لغيرهم تبنيها وكفالتها ورعايتها.
وهكذا أصبح مشهد غزو أمريكا لكوبا وفيتنام وأفغانستان والعراق والصومال هو التجلي الحقيقي لمُسمى (السلام) المُحتكر، وهكذا ادّعى فراعنة أمريكا ولا يزالون أن أمريكا هي أم السلام وهي أبوه، وما من غزو تقوم به إلا لنشر السلام حتى لو أوقع الدمار والويلات على الشعوب المُستضعفة في الأرض، كما وقع مثل ذلك على الشعب الكوبي والفيتنامي والأفغاني والعراقي والصومالي، ومن يدّعي غير ذلك فهو عدو للسلام في حسابات فراعنة أمريكا، وما دام هو عدو للسلام فهو إرهابي وهو خطر يُهدد السلام العالمي، ويجب إعلان الحرب عليه، حتى يتم استئصاله ويجب على الدول المُحبة للسلام أن تؤيد فراعنة أمريكا في هذه الغزوات، لا بل يجب على هذه الدول أن تضم امكانياتها وجهودها إلى فراعنة أمريكا.
وبذلك يتشكل حلف السلام لمواجهة حلف الإرهاب، ويتشكل حلف الخير لمواجهة حلف الشر، ويتشكل حلف المُتحضرين لمواجهة حلف الهمجيين، وهكذا يُصبح سلوك فراعنة أمريكا سلوكًا حضاريًا مشروعًا محمودًا وإن داس على الكثير من الضحايا الأبرياء، وفي المقابل يتحول (الدفاع عن النفس) إلى عمل إرهابي، ويتحول (حراك التحرر الوطني) إلى حراك إرهابي، ويتحول الإصرار على طرد المُحتل والمُستعمر إلى إصرار على الإرهاب، وهكذا تتبدل القيم، ويُصبح المُنكر معروفًا والمعروف منكرًا، وهكذا تمتلأ الأرض جورًا وظلمًا، وهكذا تضرب الأرض فتن الدهيماء المظلمة المطبقة التي لا تدع شعبًا في الأرض إلا لطمته لطمة، وهكذا تصبح البشرية بلا قيم وأخلاق وآداب ومبادئ تضبط مسيرتها وتقف في وجه الظالم وتأخذ بيد المظلوم، وهكذا تُفلس البشرية كما هي الآن، وتُصبح بلا عنوان كما هي الآن، وتغرق في تيه وشقاء ونكد وفوضى كما هي الآن.
وهكذا تصبح الهيئات الدولية التي أخذت على عاتقها رعاية البشرية اليوم كأنها غير موجودة والأشرف لها أن تُعلن إفلاسها!!، وعلى سبيل المثال فإن هيئة الأمم المتحدة أصبحت عاجزة اليوم عن فرض وقف إطلاق النار لوقف الكارثة الإنسانية في غزة، بل أصبحت عاجزة عن إدخال الغذاء والماء والدواء والكهرباء والوقود وعلف الحيوانات إلى غزة، لذلك فإن الأشرف لها أن تُعلن عن إفلاسها، وإن ما يتفرع عن هيئة الأمم المتحدة من مؤسسات كثيرة ذات مُسميات براقة، إن الأشرف لكل هذه المؤسسات أن تُعلن عن إفلاسها اليوم بعد أن باتت عاجزة عن أداء دورها، حيث باتت عاجزة عن تأدية أي دور لها في غزة المُثقلة بكارثتها الإنسانية، سواء كان هذا الدور إغاثيًا أو طبيًا أو حقوقيًا أو رعاية للمساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس والمباني السكنية أو كفالة للطفولة أو حفظًا للنازحين من شمال غزة إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها!!، وإن الأشرف للجامعة العربية ولمنظمة التعاون الإسلامي أن تعلنا عن إفلاسهما بعد أن باتتا عاجزتين عن فتح معبر رفح وهو الذي يقع بالكامل تحت السيادة المصرية!!.
لكل ذلك فإن البشرية اليوم تعيش في فراغ قيادي وبات ضعيفها رهينة لقويها، وباتت الرأسمالية المتوحشة تصول وتجول بلا رادع، وأصبحت الشيوعية في قائمة الموتى بعد أن فشلت فشلًا ذريعًا مصيريًا في دورها مع شعوبها، وفي دورها مع سائر شعوب الأرض، وهكذا أصبحت الشعوب العربية تعيش في فراغ قيادي لا يُمكن للأنظمة الجبرية السُفيانية أن تملأه، وهكذا أصبحت الشعوب المسلمة تعيش في فراغ قيادي بعد أن انقلب حكامها على وحدتها الإسلامية وعلى قيمها الإسلامية وعلى شرعيتها الإسلامية، وهكذا بتنا نرى من على شاشة قناة الجزيرة من تُنادي من النساء الموجوعات في غزة، أو من ينادي من الأطفال المكروبين في غزة، أو من ينادي من المرضى والمُشردين والجياع: أين الحكام العرب؟! أين الدول العربية؟! أين الشعوب العربية؟! أين الشعوب المسلمة؟! ثم ماذا؟! لا جواب لنداءاتهم، لأن العرب والمسلمين كما هو الحال في سائر الأرض باتوا في فراغ قيادي، وكأنهم يعيشون اليوم بلا حكومات ولا حُكام ولا دول بعد أن أصبح الفراغ سيد الموقف على الصعيد العالمي والإسلامي والعربي!!، فهل سيبقى هذا الفراغ وهذا يعني انتحار البشرية والتعجيل بقيام الساعة!!، أم أن هناك (قيادة عالمية) ستملأ هذا الفراغ؟! وإذا كان هذا ما سيحدث فمن سيملأ هذا الفراغ؟!، وأية (قيادة عالمية) ستملأ هذا الفراغ؟!
أنا شخصيًا على يقين أن هذا الفراغ العالمي في مسيرة البشرية اليوم لن يبقى مُستديمًا، بل إن الله الرحمن الرحيم سيرحم هذه البشرية التعيسة وسيبعث فيها قيادة صالحة تملأ هذا الفراغ، وتكون هي البديل للفراعنة المعاصرين الذين يتقدمهم فراعنة أمريكا، والذين اتخذوا من مبنى هيئة الأمم المتحدة مخبأ لهم، والذين حوّلوا شعوب الأرض المعذبة إلى دروع بشرية لطموحاتهم المتوحشة!!، وإنّ هذه (القيادة العالمية) المرتقبة لن تكون وليدة قيم الأرض الجاهلة بشتى مُسمياتها، بل ستكون وليدة القيم الربانية وستملأ الأرض كل الأرض على صعيد عالمي وإسلامي قسطًا وعدلًا وسلامًا عالميًا حقًا وصادقًا وعدالة اجتماعية لجميع أهل الأرض.