ماذا لو تم المساس بكنيس يهودي (وهذا بالطبع ليس من أخلاقنا ولا ندعو لذلك، ولكن من باب الافتراض)؟ هذا الأمر يستدعي من كل دول العالم أن تشجب وتستنكر وتدين هذا العمل الجبان بأقذع العبارات والأوصاف. ستوصف الجهة المعتدية بالإرهاب واللاساميّة والتوحّش والانحطاط الإنساني والحضاري، وما إلى ذلك من أوصاف صعبة وقاسية. لكن كيف تمرّ أخبار تدمير مساجد غزّة وكأنهم يدمّرون أوكارا للصوص وتجّار المخدرات؟ كيف أدمنّا وأدمن الناس على مرور مثل هذه الأخبار التي تعلن عن تدمير مسجد، وبعضها بالصوت والصورة وتظهر الجندي الذي يتشفّى ويتلذذ ويعرب عن بهجته وغاية سروره وهو ينظر إلى المسجد يهوي ويخرّ صريعا على الأرض؟
وبالطبع يأتي تدمير المساجد في سياق تدمير كلّ مقومات الحياة البشرية في غزّة: المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والأبراج السكنيّة ومنازل الناس والدوائر الحكومية والبنى التحتيّة من شبكات المياه والكهرباء والهاتف، لم يبق شيء لم تطله أيديهم المجرمة، حتى المقابر تم الاعتداء عليها بتجريفها ونبشها.
وضرب المساجد هو مقصود بذاته لما كانت تقوم به في زراعة القيم الدينية التي تنتج حريّة وثورة وتنتج الإنسان الحرّ الممتلئ عزّة وكرامة، وبالتالي الإنسان الحرّ القادر على التحرير والوقوف في وجه طغيان المحتلّ وفجوره. المساجد في غزّة كانت تقوم بدورها خير قيام وكانت مفعّلة بشكل كبير، المساجد محاضن تربوية لإنتاج الإنسان الصالح المصلح، إنسان التغيير الحقيقي في مجتمعه نحو الصلاح والمثل العليا. والمساجد منارة للتنوير المعرفي والفكري، والمساجد تنضج فيها الثورة وتخرج للناس بأبهى الصور وأقواها، تخرج للناس إنسان الحرية والكرامة والثورة في وجه الظلم وجبروت الاحتلال والبغي والفساد، الإنسان الذي لا يرضى الدنيّة في دينه ودنياه.
ويعبر تدميرهم لألف مسجد -هذا الرقم المهول- عن غيظ صدورهم وأنهم قد فقدوا ما تبقى من عقولهم، أناس أصبحوا متوحّشين بلا عقل ولا خلق ولا حتى أي صلة بصورة يريدون أن يصدّروها للعالم عن أنفسهم، ولو تمثيلا يخالف ما انطوت عليه صدورهم من غيظ وغلّ وحقد.. عندما يُظهرون فرحهم على مشهد المسجد وهو يهوي بفضل متفجّراتهم فإنهم يصدّرون بذلك للناس أبشع صورة ممكن أن يحملها إنسان على ظهر هذه الأرض، كذلك كما فعلوا وهم يفجّرون المشفى المعمداني ومجمّع الشفاء وجامعة الإسراء والمربّعات السكنية الكاملة.
لكن للمساجد قداسة خاصة ولها رمزية ذات دلالات عميقة وعظيمة في نفوس المسلمين وكل أحرار العالم، إنهم بذلك يوصلون رسالة لكلّ مسلم بأنك أيها المسلم؛ أنت وما تقدّس لا تساوي عندنا ما يزن جناح بعوضة، أنت ومساجدك لا يليق بكم إلا الموت والدمار والهلاك، أنتم ودينكم لستم على شيء، لا تستحقّون أية مكانة ولا احترام، لا وزن لكم ولا قيمة تذكر، مساجدكم ودينكم وعقائدكم وتاريخكم وقيمكم وإنسانيّتكم لا وجود لها في قاموسنا، أنتم بالنسبة لنا هباء منثورا، أنتم هدف لقنابلنا وصواريخنا وكلّ أدوات قتلنا وإبادتنا لكم ولكل مكوّناتكم، أنتم ليس لكم منا إلا أن نقتلعكم من جذوركم، من بلدكم ومن تاريخكم، لن نبقي ولن نذر من آثاركم شيئا، تدميرنا قادم لكل تفاصيلكم.
وإنّ صمت الأمّة ذات الدول الكثيرة والثروات العظيمة والأعداد البشرية التي تجاوزت المليار ونصف المليار على هذه الجريمة التي بلغت ألف مسجد؛ مقدّمة سيئة جدا فيما لو أقدم الاحتلال على هدم المسجد الأقصى، ماذا لو فعلوها؟ هل ننتظر بعض المظاهرات والغضب الجماهيري العاطفي هنا وهناك دون التحوّل إلى فعل حقيقي مواز لحجم الجرمية؟
هذا سؤال كبير على النخب السياسية والثقافية في أمة العرب والإسلام أن تجيب عنه. هل هي قادرة على تحريك الجماهير بعد هذا الحال الذي تمرّ به الحكومات العربية والإسلامية من موت سريري منذ فترة طويلة أرست قواعد الهزيمة وأناخت راحلتها على أعتابها دون حراك؟ ماذا علينا أن نفعل بعد أن دُقّ ناقوس الخطر أكثر من ألف مرة، ألف مسجد وآلاف المشافي والمدارس والجامعات والكنائس والمربعات السكنية والأبراج وما يزيد على الثلاثين ألف شهيد ومفقود وقرابة الستين ألفا من الجرحى والمقعدين؟ أليست كفيلة بتحريك المياه الراكدة الآسنة لتحدث إعصارا يأكل الأخضر واليابس ويسير خلف غزة لنهضة وقيامة الأمة؟