عذرًا إليك يا عيد الأضحى السعيد

حضارات

مؤسسة حضارات

المقال الأسبوعي لفضيلة الشيخ رائد صلاح، بعنوان 


 عذرًا إليك يا عيد الأضحى السعيد إن استقبلناك بالدموع لا بالابتسامات، وبالآلام لا بالأفراح، وبالأحزان لا بالسرور، وهل يحق لنا أصلًا أن نبتسم أو أن نفرح أو أن ننعم بالسرور، وهذه الكارثة الإنسانية لا تزال جاثمة على صدر غزة، ولا تزال تجبي من غزة الضحايا من النساء والرضع والأطفال، ولا تزال تدمر بيوتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها، ولا تزال تخنق الأحياء فيها بسياسة التجويع حتى الموت، ولا تزال تعذب المرضى فيها بسياسة حرمانهم من الدواء حتى الموت، ولا تزال تنسف كل أساسيات مقومات الحياة فيها، حتى أصبحت غزة غير غزة التي عرفها أهل الأرض قبل بضعة أشهر، فهي غزة اليوم التي أصبحت بلا موطئ قدم آمن لبشر ولا لشجر ولا لطير ولا لحيوان، وهي غزة اليوم التي تشرد فيها الأحياء والأموات، وما عاد لأحيائها مساكن تؤويهم، وما عاد لأمواتها القبور التي تواري عوراتهم، وهي غزة اليوم مأساة البشرية التي أبيح فيها ارتكاب كل شيء، وكأن كل شيء أصبح مُباحًا ارتكابه في غزة، وكأن قوانين السلم والحرب التي اجتهدت أن تضبط كل أهل الأرض تخلت عن غزة، وكأن دور هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وسائر ما انبثق من لجان ومنظمات ووكالات عن هيئة الأمم المتحدة قد وقفت عند حدود غزة ولم يُسمح لها بالدخول!! 

وكأن جمعيات حقوق الإنسان والمرأة والطفل والرفق بالحيوان وحماية البيئة قد عجزت أن تؤدي دورًا لها في غزة!!، وكأن محكمة الجنايات الدولية وسائر المحكمات الأممية قد أوصدت أبوابها وأحكمت إغلاق نوافذها في وجه غزة، وكأن الإنسانية اليوم رضيت لنفسها أن تحيى صماء عمياء بكماء ميتة الضمير والإحساس جراء ما يقع على غزة!!، وكأن الأنظمة المسلمة والعربية قد أصدرت إعلان براءة من غزة، وما عادت غزة تحرك في هذه الأنظمة عرق حياء، ولا عرق نخوة، ولا عرق عاطفة!! 

فيا ليت أمي لم تلدني حتى لا أرى هذه الكارثة الإنسانية في غزة، ويا ليتني مت قبل عقود وكنتُ نسيًا منسيا حتى لا تصم أذنيّ صرخات أطفال غزة وعويل نسائها ونواح أراملها وأنين مرضاها واستغاثة مشرديها، وإلا كيف يهون عليّ أن أشاهد طفلة من على شاشة قناة الجزيرة تتمنى باكية أن تحصل على رغيف خبز وأنا المحسوب على الأمة المسلمة والعالم العربي والشعب الفلسطيني أنعم برغد العيش حتى التُخمة؟!!

وكم هان عليّ أن يتكسر قلبي على مشهد أسرة مُشردة من غزة اجتمعت حول صحن بندورة لتتناول إفطارها وها هي الكلاب والقطط تسمن في حاضرنا الإسلامي والعربي من كثرة ما يُلقى إليها من بقايا الموائد الملوكية التي جمعت بين لحم الطير والحيوان والأسماك والمعجنات والألبان والرز والخضر والبقول والفواكه والكنافة والقطايف والبقلاوة وسائر القائمة الطويلة من حلويات شرقية وغربية؟! 

وكم هان عليّ أن يتفتت كبدي وأنا أسمع أخبار الذين شربوا من ماء البحر في غزة بعد أن اشتد عليهم الظمأ حتى الموت، وها هي شركة مشروب الكوكا كولا الأمريكية وأخواتها قد انتعشت تجارتها وزادت مبيعاتها وأصبحت عاجزة عن تلبية طلبات عشاقها من عالمنا الإسلامي والعربي الذين لا يتم فرحُ طعامهم -وفق حساباتهم- إلا إذا زينوا موائدهم بقناني الكوكا كولا ذات الحجم الكبير؟! 

فعذرا إليك يا عيد الأضحى السعيد لقد هُنّا وهانت علينا الكارثة الإنسانية في غزة، وهل يحق لنا بعد أن رضينا لأنفسنا ارتداء ثياب الهوان أن نلبس ثياب العيد فيك؟! وهل سيلبس أطفال غزة ثياب العيد حتى يلبس أطفالنا ثياب العيد؟! وهل سترت نساء غزة عورتها حتى تتزين نساءنا بأفراح العيد؟! وإن سألتني يا عيد الأضحى السعيد عن الجامعة العربية فيبدو أنها قد خرجت للتقاعد!!، وإن سألتني عن منظمة التعاون الإسلامي فيبدو أنها أقفلت أبوابها!!، وإن سألتني عن رؤساء وملوك وأمراء المسلمين والعرب فهم في واد والكارثة الإنسانية في غزة في واد آخر إلا من رحم الله تعالى منهم!!، وإن سألتني عن علماء المسلمين فسلاطين العلماء منهم في السجون والمنافي والقبور وعلماء السلاطين منهم قد باعوا دينهم بعرض من الدنيا!! 

وإن سألتني عن الشعوب المسلمة والعربية فهي مُكممة الأفواه ومرصودة الأنفاس ومُحاسبة على الإحساس!!، فيا لتعس الحال الذي نعيش فيه، فبعض حكامنا قد باعوا غزة بثمن بخس دراهم معدودة!!، وبعض علمائنا ممن يدورون مع السلطان قد شيطنوا غزة، وكاد البعض منهم أن يتهم أهل غزة أنهم من عبدة النار!!، وبعض إعلامنا قد شرعن الكارثة الإنسانية في غزة ودار في فلك أمريكا وحاشيتها!، فهل يحق لنا بعد كل ذلك أن ننتسب إليك يا عيد الأضحى السعيد؟!! وأن نضمخ ثيابنا ورؤوسنا بالعطور ونحن في طريقنا إلى المصلى لأداء صلاة العيد؟!


ومع ذلك أتمنى عليك أن تعْذرنا يا عيد الأضحى السعيد وأن تعذر شعوبنا المسلمة والعربية، فقد تعثرنا في مسيرة حياتنا قبل ذلك ثم نهضنا، وقد كبونا على امتداد تاريخنا الطويل حتى كدنا أن نندثر ثم انتصبنا، وقد غفلنا مرات ومرات عن قيمنا وثوابتنا وانتمائنا حتى أصبحت هذه القيم والثوابت غريبة فينا، وحتى أصبح هذا الانتماء مأزومًا مشوهًا ثم تنبهنا، وها نحن اليوم نُعاني من داء قد استفحل فينا، ألا وهو داء الانحطاط والتبعية والوهن ولكن لكل داء دواء، وها نحن اليوم نيام عن اعتصامنا بحبل الله المتين، وعن وحدة كلمتنا وصفنا، وعن كرامتنا وخيرتنا ومنزلتنا، ولكن النائم سيستيقظ حتى لو طال عليه نومه وصاحبه الشخير المعيب، سيما ونحن اليوم نودّع مرحلة الحكم الجبري التي أذلت وأضلت الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني، وها هي كل الإمارات التي تحدث لنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تسبق ميلاد المرحلة القادمة قد تحققت، وهذا يعني أننا بين يدّي بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: ((ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورا))

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023