وكأنّ الحرب عادت إلى مربّعها الأول! هكذا يصف سكّان مدينة غزة ما يجري فيها من عدوان صهيوني وحشي في هذه الأيام، إذ إن التوقّعات وربما الآمال بانفراجة وشيكة قد تصل بهذه الحرب المجنونة إلى خواتيمها قد تبخّرت، ولو بشكل مؤقت على أقل تقدير.
فـ"جيش" الاحتلال الذي أعلن أكثر من مرة أنه انتقل إلى المرحلة الثالثة من عدوانه على القطاع، ولا سيما في المناطق الشمالية منه، رفع خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من وتيرة عدوانه على المواطنين في كبرى مدن القطاع، والتي تعرّضت خلال الأشهر التسعة السابقة من عمر الحرب لعدوان واسع لم يتوقف، ولم تحظ كباقي مدن القطاع باستراحة محارب، أو فرصة لالتقاط الأنفاس، بل بقيت المدينة بمن تبقّى فيها من سكّان، والذين يتجاوزون الأربعمئة وخمسين ألفاً أو يزيد تحت وطأة الضربات الإسرائيلية، براً وبحراً وجواً، إلى جانب حملات من التجويع والإفقار لم يسبق لها مثيل، أدّت إلى استشهاد العشرات من الأطفال وكبار السن بسبب سوء التغذية، إلى جانب ظهور العديد من الأمراض والأوبئة نتيجة الافتقار إلى المياه الصالحة للشرب، والتكدّس الهائل في مراكز الإيواء والتهجير القسري، والتي تحوّلت إلى حواضن للفيروسات القاتلة، والبكتيريا الناقلة للعدوى، ستترك حسب الكثير من المختصّين تداعيات هائلة في المستقبلين القريب والبعيد على صحة الغزيّين.
ربما اعتقد البعض أن الهجوم الإسرائيلي الواسع على حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي أعادت قوات الاحتلال منذ الأمس انتشارها فيه في مقدمة للانسحاب منه كما يبدو سيكون خاتمة الأعمال العسكرية في المنطقة الشمالية من القطاع، وربما في المنطقتين الوسطى والجنوبية أيضاً، خصوصاً في ظل ما يتم الحديث عنه من قرب التوصّل إلى صفقة لوقف إطلاق النار، بعد أن قدّمت حركة حماس والمقاومة ردّاً وُصف بالمرن على المقترح الأميركي لوقف الحرب، والذي هو في الأساس خطة إسرائيلية صيغت في مكاتب أجهزة الاستخبارات وهيئة الأركان الإسرائيليتين في "تل أبيب"، وتم التصويت عليها بالموافقة في اجتماع الكابينت الموسّع حسب وسائل الإعلام في "الدولة " العبرية.
وهذا الاعتقاد من وجهة نظري له ما يبرّره، ويقول به الكثير من المحلّلين والمختصّين السياسيين والعسكريين، إذ إن المراوحة العملياتية التي وصل إليها الهجوم العسكري الصهيوني في القطاع الساحلي الصغير، ولا سيّما في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، والفشل في تحقيق كل أهداف الحرب المعلنة طوال هذا الوقت، بالإضافة إلى العديد من الأزمات الداخلية والخارجية التي يعاني منها الكيان الصهيوني، وعلى رأسها الانتقادات الإقليمية والدولية الواسعة، إلى جانب النقص الحاد في القدرات البشرية لـ"جيش" الاحتلال، وارتفاع تكلفة العدوان على المستويات كافة بشكل غير مسبوق، واحتدام المعارك في الجبهة الشمالية مع حزب الله، بما يدفع بالأوضاع في اتجاه الذهاب نحو حرب إقليمية واسعة يخشى منها الكثيرون في المنطقة والعالم، إضافة إلى كثير من التطورات والمستجدّات التي لا يتسع المجال لذكرها.
كل ذلك أشاع جوّاً من التفاؤل بقرب انتهاء العدوان، وتوقّف الحرب، والتخفيف ولو بالحد الأدنى من معاناة الفلسطينيين، ولا سيما على الصعيدين الإنساني والإغاثي، واللذين شهداً تدهوراً كبيراً بعد سيطرة "جيش" الاحتلال على معبر رفح، ومنع دخول المساعدات الإنسانية عبره، إضافة إلى تقليص تلك التي تدخل من معبر كرم أبو سالم إلى حدّها الأدنى، إذ عاد شبح المجاعة ليطل برأسه من جديد، خصوصاً في شمال القطاع، والذي يناله القسم الأكبر من الحصار والتجويع.
قبل يومين، وفي ظل التوقّعات بانتهاء الهجوم الإسرائيلي على حي الشجاعية، وانحسار موجة التصعيد إلى حدّها الأدنى، تفاجأ سكّان غزة بهجوم صهيوني جديد على جنوب غرب المدينة، كانت منطقة تل الهوا المدمّرة والمنكوبة، إضافة إلى منطقة الرمال الجنوبي، وصولاً إلى وسط المدينة مسرحاً له، حيث قامت قوات الاحتلال بمناورة عسكرية سريعة ومباغتة، توغلت من خلالها في محيط منطقة الجامعات، ومقر الصناعة، ووزارتي الأسرى والتربية والتعليم، مع توسيع دائرة التأمين لهذا التوغّل الذي جرى في ظل أحزمة نارية عنيفة، وقصف مدفعي لم يتوقف لتصل إلى شارع الرشيد غرباً، ومحيط عيادة الرمال شمالاً، ومتنزّه البلدية شرقاً، وهو ما يعني دخول معظم أنحاء المدينة ضمن دائرة النار، إذ إن العملية في الشجاعية لم تنتهِ.
وبهذا، باتت غزة بين فكّي كماشة من الشرق ومن الغرب، وهي في الأساس محاصرة من الجنوب حيث محور "نتساريم" العسكري، ولم يتبقّ لها سوى متنفّس وحيد باتجاه محافظة الشمال، والتي هي الأخرى ليست أحسن حالاً منها، خصوصاً على صعيد النقص الحاد في الغذاء والدواء.
إلى جانب الهجوم العسكري المتواصل في منطقة تل الهوا ومحيطها، تتعرّض المدينة لحملة من القصف الجوّي الذي يكاد لا يتوقف، بالإضافة إلى حملة من التخويف والضغط النفسي الكبير، كان من أهم أشكاله مجموعة من أوامر الإخلاء لمناطق عمرانية واسعة مثل أحياء التفاح والدرج وغزة القديمة، ما دفع عشرات آلاف المواطنين إلى النزوح من منازلهم، أو ما تبقّى منها، حيث لا مراكز تؤويهم، ولا مؤسسات صحيّة تقدم لهم الرعاية المطلوبة أو الحد الأدنى منها، لا سيما بعد خروج المستشفى المعمداني عن الخدمة بعد تهديد الاحتلال لطواقمه، وهو المستشفى الوحيد في مدينة غزة الذي كان يقدّم الإسعافات الأولية والخدمات الأساسية للآلاف من المواطنين، وللمئات من المصابين والجرحى الذين يتوافدون عليه كل يوم.
لم يكن المستشفى المعمداني الوحيد الذي خرج عن الخدمة، إذ انضم إليه بالأمس مستشفى أصدقاء المريض غرب غزة، والذي أُعيد تأهيله حديثاً بعدما تعرّض للتدمير والحرق قبل عدّة أشهر، وكان يتهيّأ لاستئناف عمله من جديد، بيد أن دخوله ضمن منطقة التوغل الجديدة غرب غزة قد أحبط هذه الجهود، وهناك تخوّفات من إمكانية عودة "جيش" الاحتلال لتخريب ما تم إصلاحه، خصوصاً أن دبابات الاحتلال لا تبعد عنه أكثر من مئتي متر من جهته الجنوبية.
كل ما سبق من تطوّرات، دفع حركة حماس إلى التحذير من إمكانية انهيار مسار المفاوضات الهادفة إلى وقف الحرب، والذهاب نحو صفقة شاملة بغض النظر عن تفاصيلها وتعقيداتها، وهي أي هذه الصفقة تمر حالياً بالعديد من المنحنيات الصعبة في تكرار لما حدث خلال الأشهر الماضية، والتي على الرغم من تفاؤل البعض بقرب نضوجها نتيجة بعض المعطيات، فإن عوامل التفجير داخلها تبدو أكبر من عوامل النجاح، لا سيّما في ظل رفض رئيس وزراء العدو لها، ومحاولته وضع شروط جديدة لم تكن موجودة من الأساس، وهي كفيلة بإفشال كل الجهود التي يبذلها الوسطاء في هذا المجال.
على كل حال، وبعد هذا الشرح المختصر لما يحدث من تطوّرات في مدينة غزة، والذي يمكن له أن ينتقل في قادم الأيام إلى باقي محافظات القطاع، والتي هي الأخرى تتعرّض لقصف جوي ومدفعي على مدار الساعة، وإلى عمليات تهجير قسري بشعة كما جرى مؤخراً في المناطق الشرقية لمدينة خان يونس، نتساءل ماذا عن الأسباب والخلفيات! ولماذا هذا التصعيد الكبير والواسع، وهل هذا مؤشر على قرب انتهاء العدوان! أم استمراره بشكل أكثر عنفاً وقسوة! وإلى أي مدى يمكن أن يصل تعنّت نتنياهو وشركائه، وهل يغامر بإمكانية حدوث انفجار كبير في المنطقة يحرق الأخضر واليابس ويذهب بالأوضاع في اتجاه حرب طاحنة! في اعتقادي، هناك ثلاثة أسباب رئيسية لما يحدث حالياً من تصعيد إسرائيلي واسع ضد مدينة غزة تحديداً، بالإضافة إلى مجموعة من الأسباب الثانوية يمكن أن نتحدث عنها لاحقاً، إذا كان في العمر بقية.
أولها مرتبط بالتوقيت الحالي والذي تُستأنف فيه مفاوضات وقف إطلاق النار من جديد، بعد الانتكاسات المتتالية التي تعرّضت لها هذه العملية بفعل التعنّت الإسرائيلي المعتاد، وقد شهدنا في كثير من المراحل التي كانت تنطلق فيها جولات المفاوضات السابقة تصعيداً ملحوظاً في العديد من الأماكن، وإن لم يصل إلى هذا الحد الذي نراه اليوم في غزة.
وبما أن ما يجري في الغرف المغلقة سواء في القاهرة أو الدوحة مرتبط بما يحدث في الميدان، فإن "دولة" الاحتلال تسعى لزيادة مستوى الضغط على المقاومة الفلسطينية لتحصل منها على تنازلات لم تفلح في الحصول عليها سابقاً، وهي تستخدم من أجل ذلك المدنيين كوسيلة يمكن أن تؤدي إلى وصول هذا الضغط إلى مستواه الأعلى، والذي تعتقد أنه ربما يدفع المقاومة لتقديم تلك التنازلات، والتي تخص تحديداً مسألتي عدم استئناف القتال والعدوان بعد المرحلة الأولى من الصفقة المحتملة، إلى جانب عودة النازحين والمهجّرين من الجنوب إلى الشمال، وكل هذا يتم حسب الكثير من التصريحات الإسرائيلية على قاعدة ما لم يتحقق بالضغط، يتحقق بمزيد من الضغط.
ثاني الأسباب هو الفشل والإخفاق العسكري الإسرائيلي في ميدان القتال، إذ إن أكثر من تسعة أشهر من العدوان المستمر والمتواصل، والذي استخدمت فيه "دولة" الاحتلال كل ما في جعبتها من ترسانة عسكرية هائلة، إلى جانب الدعم اللامحدود الذي يُقدّم إليها من الولايات المتحدة الأميركية، وباقي حلفائها في العالم، ولا سيما بريطانيا وألمانيا، لم يُفضِ إلى تحقيق أي إنجاز يُذكر، بل على العكس من ذلك، فقد استعادت المقاومة الفلسطينية جزءاً كبيراً من عافيتها، وهو الأمر الذي بدا واضحاً في عملياتها النوعية في الفترة الأخيرة، سواء أثناء مواجهتها التوغلات الإسرائيلية في مختلف المناطق والمدن وتحديداً مدينة رفح، أو في ما يخص استئناف عمليات استهداف مستوطنات الغلاف بالصواريخ قصيرة المدى، والتي فرضت معادلة لم يستطع العدو الإفلات منها، وهي تقول بأنه ما لم يكن هناك أمن لسكان غزة، فلن يكون أمن لسكان المستعمرات، وهي الحال نفسها في الجبهة الشمالية مع جنوب لبنان.
وبالتالي، يحاول "جيش" العدو تكثيف ضغطه العسكري علّه يستطيع إحداث خرق مهم في ساحة يعدّها صاحبة رمزية كبيرة لدى الفلسطينيين، كون مدينة غزة أكبر مدن القطاع، وأكثرها سكاناً، وتوجد فيها معظم المؤسسات الحكومية والخدمية، حتى وإن تم تدميرها خلال العدوان. ثالث الأسباب مرتبط كما يبدو بالفكرة القديمة الجديدة الهادفة إلى تهجير سكّان القطاع إلى الخارج، حيث حاول الاحتلال منذ بداية العدوان استخدام هذا الخيار كورقة مساومة مرحلية من جهة، إلى جانب كونها هدفاً استراتيجياً بعيد المدى أشارت إليه الكثير من الدراسات الإسرائيلية التي يرجع بعضها إلى أكثر من ثلاثين عاماً.
وبما أن هذه الخطة قد فشلت بشكل ذريع في بدايات العدوان، ولم يكن لها صدى يُذكر في صفوف الفلسطينيين الذين فضّلوا الموت بصواريخ الطائرات أحياناً، وبفعل الحصار والتجويع أحياناً أخرى على مغادرة أراضيهم وبيوتهم، فإن الاحتلال يعتقد أن الظروف ربما أصبحت مواتية أكثر في هذه المرحلة من الحرب، إذ إن طول مدة العدوان التي لم يكن يتوقعها أحد، بالإضافة إلى إطباق الحصار بشكل غير مسبوق، ولا سيما على سكّان المنطقة الشمالية من القطاع، إلى جانب تعدّد الأزمات الناشئة عنه، خصوصاً على مستوى الخدمات الصحية والإنسانية، ربما يدفع الناس إلى الخروج والنّزوح من مدينة غزة كمرحلة أولى، يليها تكرار الأمر في محافظة الشمال، في عملية تراكمية قد تؤدي في النهاية إلى تهجير أكثر من نصف سكّان القطاع على أقل تقدير، وهو الأمر الذي سيخلق بالضرورة منطقة عازلة تمتد من بيت حانون شمالاً، إلى منطقة وادي غزة في وسط القطاع، مقلصة مساحة القطاع الصغير أساساً إلى النصف تقريباً.
على كل حال، نحن نعتقد أن كل مخطّطات الاحتلال التي واجهت فشلاً ذريعاً في ما سبق، لن ترَ النور لا في هذه المرحلة ولا في مراحل أخرى قادمة، إذ إن هذا الشعب العزيز والكريم، والذي قدّم ولا يزال تضحيات جسام تنوء من حملها الجبال الرواسي، لن يستسلم للمشيئة الصهيونية والأميركية، ولن يرفع الراية البيضاء، ولن يُلقي سلاحه الشريف الذي يدافع من خلاله عن شرف الأمة المغلوبة على أمرها، تلك الأمة التي رسبت بمعظمها شعوباً وحكومات في اختبار مناصرة الشعب الفلسطيني ومساندته، وبقيت تشاهد ما يحدث له من مقتلة عظيمة وكأن الأمر لا يعنيها، والعتب عليها في هذا الخصوص كبير. هذا الشعب بمقاومته الباسلة سيواصل المشوار حتى لو سلخ لحمه عن عظمه، مستعيناً بقوة الله التي تمده بالجلد والعزيمة، ومتّكئاً على حلفائه الأعزاء في محور المقاومة والذين لولاهم لقلنا إن هذه الأمة قد ماتت بالفعل، سيبقى أهل غزة وشمالها، كما هم في وسطها وجنوبها يعضّون على جمرة الوطن مهما بلغت التضحيات، وهم يرددون قول الله عز وجل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوّان كفور ".