الوجه الآخر للكارثة الإنسانية بغزة

حضارات

مؤسسة حضارات


الشيخ رائد صلاح

لا يزال الحاضر الإنساني يقف مصدومًا عند الكارثة الإنسانية في غزة، وسيقف قلم التاريخ بحرص شديد عند هذه الكارثة حتى لا يفوته تسجيل أي مشهد منها ولو كان تحت الأرض أو بين رُكام البيوت أو على أبواب المستشفيات أو على شفتي أرملة تمتمت بالنحيب، أو على خديّ طفل غرقا بالدموع، أو على جبين عجوز غارت فيه أخاديد الآلام، كيف لا وهي الكارثة التي لو تحدثت عنها الأرقام لتفطرت الأرقام غضبًا لما تسجل، وهي الكارثة التي قد تدفع الحر فينا أن يقول: ليت أمي لم تلدني حتى لا أرى هول هذه الكارثة، وهي الكارثة التي تذهل لها كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وتشيب لها أطفال أهل الأرض سواء عاشوا في ناطحات سحاب أمريكا أو في أكواخ الفقر في أفريقيا، وهي الكارثة التي أخرجت العواتق من خدورهن وكدن أن يقطعن أيديهن مذهولات غافلات عن سكين الدلال التي في أيديهن، وهي الكارثة التي توارى لها حكام العرب والمسلمين خجلًا، وقد أنهكهم العجز والهوان وقلة الحيلة، وهي الكارثة التي أدمت قلوب المسلمين والعرب وسائر شعوب أهل الأرض وهي تنظر إليها من بعيد بالبث المباشر عبر قنوات كل أهل الأرض وأيديها مشلولة لا تملك أن تُساندها بلقمة طعام أو شربة ماء أو حبة دواء، ومع ذلك فإن كل ما ذكرت أعلاه ليس هو كل هذه الكارثة الإنسانية في غزة، بل هذا وجه منها، وهناك وجه آخر منها يقول لنا: 

1) هي الكارثة التي أيقظت فطرة أهل الأرض، وأحيت فيهم ضمائرهم من جديد، وهزّت قلوبهم، وحرّكت مشاعرهم، وأزعجت صدورهم، ونبّهت إنسانيتهم، فقاموا ولم يقعدوا حتى الآن، وها هم لا يزالون يجوبون شوارع عواصم الدنيا ومدنها الكبرى، يُرددون: أوقفوا الحرب في غزة!!، أنقذوا الطفولة في غزة!!، ارفعوا خطر الإبادة الإنسانية عن غزة!!، ارحموا مرضى غزة!!، أشفقوا على أراملها وأيتامها ومشرديها وجياعها وعطشاها!! وإلا ستتحول غزة إلى مقبرة للضمير العالمي قبل أن تتحول إلى مقبرة لضحاياها، وستُهدم مباني هيئة الأمم المتحدة اعتباريا في الوقت الذي تُهدم فيه بيوت غزة، وستجوع الإنسانية إلى حد قد يُهدد حياتها إلى جانب الجوع الذي يعض أهل غزة، وسترثي العدالة حالها بعد أن داستها أقدام المجتمعين في مجلس الأمن، وستندب المدنية مصيرها وقد أوشكت على الانهيار، إلا أن تتداركها رحمة الله تعالى وتُسخر لها قيادة عالمية ربانية تنقذها.

 2) هي الكارثة التي نقلت القضية الفلسطينية من حاضنة محلية منسية إلى حاضنة عالمية تمور مورا، ومن حاضنة محدودة إلى حاضنة تصرخ فوق كل الأرض وتحت كل سمائها وتقول: أنا أتهم!!، وهكذا لم تعد حاضنة القضية الفلسطينية فلسطينية فقط، ولا عروبية فقط، ولا إسلامية فقط، بل أصبحت اليوم حاضنة عالمية عابرة للقارات والمحيطات واللغات والقوميات والألوان، ولا أظن أن هناك قضية في الأرض الآن تتمتع بمثل هذه الحاضنة الأممية إلا القضية الفلسطينية. 

3) هي الكارثة التي نجحت أن تُحول المشهد الذي تمثله الآن الحركة الصهيونية على خشبة المسرح العالمي إلى المشهد الأخير الذي لا مشهد بعده للحركة الصهيونية، فقد أسقطت هذه الكارثة القناع عن الحركة الصهيونية فبان وجهها القبيح للمُبصر والأعمى، وأماطت اللثام عن حقيقة شعارات الحركة الصهيونية، وإذ بها تبدو للسامع والأصم كما هي بلا تحريف وتجديف ولا تزوير وتغرير ولا نصب واحتيال ولا غش وخداع، وإذ بها كما قال مثلنا الشعبي “تقتل القتيل وتمشي بجنازته”، وإذ بها تتظلم وهي الظالمة، وإذ بها تدفن السلام وتبكي عليه، وإذ بها مترعة بالغرور وجوفها فارغ، وإذ بها تتباكى على العدالة وتخاف منها، وإذ بها تدّعي البحث عن الحقيقة وتفر منها، وإذ بها تدّعي تماسك صفها وإذ بها منقسمة إلى أقسام لا تُحصى، وكل قسم منها منقسم إلى أقسام في داخله تطول جدولة أرقامها، وإذ بها مُجزأة إلى أجزاء، وكل جزء من أجزائها مُجزأ إلى أجزاء، وهكذا دواليك، كأنها تعيش حركة انقسامات وانقسام الانقسامات بلا توقف، وكأنها تعيش أزمة تجزئات وتجزئة التجزئات إلى ما لا نهاية، وها هي الحكومة الإسرائيلية وكأنها أصبحت أكثر من حكومة، وها هو مجلس الحرب الإسرائيلي وكأنه أصبح أكثر من مجلس، وها هو نتنياهو وكأنه أصبح أكثر من نتنياهو، وكأنه بات ينطبق على هذه الحالة الإسرائيلية الراهنة قول الله تعالى: {وتحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى}.

 4) هي الكارثة التي أسقطت آخر عذر قد يُبرر وجود الحكام العرب والمسلمين، ووجود الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، فما ظل هناك أي عذر يُبرر استمرار وجود هؤلاء الحكام إلا من رحم الله تعالى منهم، ولا استمرار دور الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، فقد سقطت كل الأعذار، وأصبح هؤلاء الحكام يعيشون في الزمن الإضافي إلا من رحم الله تعالى منهم، وباتت الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي تعيشان مُتشبثتين بالحياة، ولكن بعد انتهاء تاريخ استعمالهما، وهكذا بات كل عاقل حر وكل باحث مستقل وكل مراقب يقظ على يقين


أن مرحلة الحكم الجبري التي تسلطت على الأمة الإسلامية والعالم العربي بعد سقوط الخلافة الإسلامية قد آذنت بالرحيل غير مأسوف عليها، ولا طعم أن نقول: أعظم الله أجرنا في رحيلها، بل الأصح أن نقول: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، سيما وأن رحيل مرحلة الحكم الجبري الوشيك يعني وبعد مرحلة تحوّل وجيزة ميلاد خلافة على منهاج النبوة تملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورا.

 5) هي الكارثة التي أعلنت عن نهاية المرحلة العجفاء العرجاء التي كان يُقال فيها: حتمية سيادة الرجل الأبيض للبشرية في الأرض، فقد سقطت هذه الحتمية بالبث المباشر كما وقعت هذه الكارثة بالبث المباشر، وها هي شعوب هذا الرجل الأبيض السوبر مان وقد يُسمي نفسه رامبو أو جيمس بوند أو الرجل الوطواط، ها هي هذه الشعوب قد اكتشفت أنها كانت مخدوعة، وكان حالها مع هذه القيادة المزيفة للرجل الأبيض كحال ظامئ أنهكه العطش، ثم رأى سرابًا فلهث خلفهُ، ثم لهث خلفهُ، ثم لهث خلفهُ، ولكن السراب ظل سرابًا وإن ظنه ماء من بعيد، وهكذا باتت شعوب هذا الرجل الأبيض في كل من أوروبا وأمريكا تبحث عن منقذ لها من هذه الورطة المصيرية التي تغرق فيها الآن!!، وإن كان كارل مردخاي ماركس قد ادّعى يومًا أن المذهب الشيوعي سيعم أهل الأرض، فجاءت الأحداث وكشفت عن وهمه وقِصر نظره!!، وانهارت الشيوعية، وإن كان فوكوياما وهنتنغتون وبرنارد لويس ومن لف لفيفهم قد ادعوا يومًا أن الرجل الأبيض بقيادة أمريكا سيُعيد ترتيب أوراق الحضارة من جديد، وسيصنع نظامًا عالميًا لكل أهل الأرض، فها هي هذه الكارثة الإنسانية في غزة تُسقط القناع عن هذه الادعاءات الصبيانية الطائشة، وهذا يعني أن شعوب الرجل الأبيض الآن في انتظار المُنقذ لها، ولن يكون هذا المُنقذ إلا قيادة إنسانية ربانية تأخذ على عاتقها وراثة مهمة الأنبياء وخاتمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لإنقاذ كل البشرية بما في ذلك شعوب الرجل الأبيض وإخراجها من ظلمات الشيوعية المُتحجرة والرأسمالية المُتوحشة إلى نور القيم الإسلامية التي جاء بها كل الأنبياء من عند الله تعالى إلى أهل الأرض، وها نحن نرى المُبشرات لما أقول، ولعل المثال الصارخ لهذه المُبشرات هو وقوف شعوب الرجل الأبيض صفوفًا خلال هذه الأيام على أبواب المراكز الإسلامية في أوروبا وغيرها من بقاع الأرض ليُعلنوا إسلامهم. 

6) هي الكارثة التي أعادت الحياة إلى نبض الجماهير المسلمة والعربية بعد أن أرهقها اليأس وأضناها انسداد الأفق وكتم أنفاسها جلاوزة الحكم الجبري، فجاءت هذه الكارثة وحرّكت ركود هذه الجماهير بعد أن كاد هذا الركود يُفسد عليها ضمائرها ومشاعرها وسلم اهتماماتها، وها هي هذه الجماهير تقف على قدميها خلال هذه الأيام وتصرخ في وجه المحتلين الداخليين والخارجيين: نحن هنا، بعد أن حاول من تآمر على الربيع العربي وعلى ثماره الطيبة أن يشتم هذه الجماهير ويُهينها ويُصادر طموحاتها صارخًا فيها: أنتم لا شيء!! أنتم جرذان!! أنتم قطع غيار في مراكب جبابرة الحكم الجبري. 

7) هذا يعني أن هذه الكارثة قد أدخلت أهل الأرض بعامة والأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني في مخاض ميلاد القيادة الربانية المُنقذة للبشرية، ولكن لا بد لهذا المخاض من آلام، ولا بد لهذه الآلام من صبر ويقين، وبالصبر واليقين تُنال الإمامة بالدين.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023