أولاً : تمهيد :
لن نخوض في عملية " البيجر " أو ما أسماها بعض الكتاب والمحلليين بعملية " النداء القاتل " في 17 و 18 09 2024 ، فقد قطع وأنهى الأمين العام لحزب الله في لبنان " السيد حسن نصر الله " الحديث في هذا الأمر وخلفياته والأهداف التي كان مطلوباً أن يحققها ؛ فضلاً عن الاعتراف الشجاع للرجل ـ السيد حسن ـ بأن ما تلقاه الحزب من ضربة ؛ تعد ضربة أمنية كبيرة وغير مسبوقة في تاريخ الصراع مع هذا العدو الصائل الذي يفسد الدين والدينا ، ولم ( يتلطى ) الرجل خلف شعارات أو إنجازات حققتها المقاومة الإسلإمية في لبنان ضد هذه العدو منذ فتحت فوهات لهيبا في الثامن من أكتبور 2023 مشاركة في الجهد القتالي المتدرج ، نصرة لغزة وأهلها ومقاومتها ، وبغض النظر عن تقييمنا أو تقييم غيرنا لهذه المشاركة .
إن الهدف من هذه الورقة هو الحديث عن فشل أي نصر أو إنجاز تكتيكي ؛ أأمني كان أو عسكري ؛ حتى لو حقق مقتل أو جرح 4000 مقاتل أو إداري في ثوان معدودة ، فشل هذا العمل في غياب استراتيجية واضحة ، يعي ويعرف صاحبها وواضعها أين يريد أن يصل ، وما هي غايته ومآلات عمله الذي سيقدم عليه ، غير مغفلين أو متناسين أن النصرالنهائي في المعارك ما هو إلى حصيلة انتصارات ميدانية تكتيكية أو تعبوية ، ينظمها ـ الانتصارات ـ خيط الإستراتيجية الذي يحيلها إلى لوحة جميلة تسر الناظرين ، فإن غاب هذا الخيط الناظم ؛ كنا أمام قطع من ( البزل ) غير مفهومة المعالم ، غير معلومة المكان ؛ حتى لو أعجب بعضنا زهو جمالها ، ودقة صنعها . إذن هذه الورقة ستعنى بالحديث عن بعض الأصول والمباني حول الإستراتيجية ، ومستويات العمل ، وعدم الجدوى الحقيقية للعمل التكتيكي في غياب الاسترتيجية .
ثانياً : في الأصول :
بداية سوف نتحدث باقتضاب عن مستويات العمل العسكري وطباقته ، وكيف تبني ، وتأخذ ، وتشتق كل طبقة أو مرحلة من سابقتها ، مهام لها .
العنوان الأول في مستويات العمل :
أول مستويات العمل ، والذي تَشتق منه باقي مستويات العمل مهامها ، وسياسياتها ، وضوابطها ، وتخصص بناء على ذلك قدراتها هو المستوى الاستراتيجي ، والذي يحدد الغايات الكلية للعمل ، والأهداف النهائية المطلوب الوصول لها ، كما يحدد التدابير ، والإجرارات والسياسيات العامة المطلوب العمل بناء على توجيهاتها ، كما أن هذا المستوى من العمل هو الذي يحدد الاتجاهات الكلية للعمليات العسكرية . وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا المستوى من العمل ؛ يعد من الأعمال الركنية التي تقوم به هيئات التخطيط والتوجيه الرئيسية صاحبة القرار في مثل هذه الأعمال ، بعد أن تكون تلقت واستلمت القرار السياسي المتضمن الغاية الكلية من الحرب أو الاشتباك ، فتشتق هي ـ القيادة العسكرية ـ أهدافها العسكرية بناء على هذا القرار السياسي .
المستوى الثاني للعمل ، هو المستوى التعبوي ، والذي يتم فيه ترجمة القرار الإستراتيجي ، وقراءة مندرجاته ، وتحويله إلى إجراءات تنفيذية كلية ، تُحول إلى التشيكلات والوحدات العسكرية ، لتترجمها إلى خطط عمل ، وإجراءات ميدانية ، الهدف منها تحقيق الغاية من العمليات العسكرية .
التكتيك يعني الطريقة ؛ بمعني ما هي الطريقة أو الطرق والإجراءات التي نريد من خلال تحقيقها ومراكمتها تحقيق أصل الهدف الكلي من الحرب أو المعركة . وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه إذا لم تكن الاستراتجية واضحة ، بحيث يستطيع صاحب الاختصاص في المستوى التعبوي قرائتها وفهمها بشكل صحيح ، واشتقاق مهام منها لترسل إلى المستوى التكتيكي ، إن لم يكن الأمر كذلك ؛ فإن ما يمكن أن يتحقق من نجاحات وانتصارات وإنجازات في هذا المستوى الثالث ـ التكتيكي ـ ؛ لا يمكن أن ( يُصرّف ) أو يُستمثر في الموقف الكلي للحرب ، وسوف تذهب الجهود ، والتضيحات سداً ، وفي غير طائل .
العنوان الثاني في مهمة الإستراتيجية :
إذا كان المستوى الإستراتيجي على هذه الدرجة من الإهمية كإطار جامع ، و ( خيط ) ناظم لباقي مستويات العمل ؛ نجد من الضرورة بمكان الحديث بشكل مقتضب عن مهمة الاستراتيجية ، وأين يتوضح عمها ويُظّهر ، وهنا نشير إلى أنه يقع على عاتق المستوى الإستراتيجي ما يلي من مهام :
المهمة الأولى الملقاة على عاتق المستوى الاستراتيجي في العمل العسكري هي ؛ دراسة وتحليل وتقييم الموقف الكلي لساحة وبيئة العمل ، وفهم خلفيات وما ورائيات هذا الموقف ، حتى لا نقع فريسة خداع أو تضليل أو مفاجأة العدو .
المهمة المنطقية التي تلي تحليل الموقف الكلي ودراسته ؛ تحديد الغايات الكلية المطلوب الوصول لها عند انتهاء الإجراءات والمهام التفصيلية في المستويين التعبوي والتكتيكي . ومراقبة سير هذه المهام في السياقات والاتجهات الكلية للعمل في مراحله الإجرائية .
يلى تحديد الغايات والمهام الكلية ، بعد تحليل الموقف ودراسته ؛ حشد الطاقات والقدرات البشرية والمادية والإدارية وتخصيصها بما يحقق الاستثمار والتشغيل الأمثل لها ، لتحقيق الأهداف في أقل الخسائر وأقصر الأوقات .
وحيث أن ساحة العمل ، وميادين النشاطات والمناورات ، تزدحم بكم كبير من الإجراءات ، والتفصايل ، والجزئيات ، فإن أحد مهام الإستراتيجية هو : ترتيب الأوليات بما يضمن سير الأعمال ، وعدم تعطلها أو تعثرها في خضم تزاحم الأعمال والفعاليات .
ومن ميزات المستوى الإستراتيجي الناجح أنه يرى المشهد الكلي ، والصورة النهائية التي يجب أن يكون عليها الموقف عند نهاياته ؛ لذلك يقع على عاتق هذه الطبقة من الأعمال ـ إجراءات وشخوص ـ توحيد المسارات ، ونظمها في اتجاه واحد ، وضبط سيرها ، بحيث تصل في زمانها المحدد إلى مكانها ( إقرأ غايتها ) المحدد ، بأقل الخسائر وأفضل النتائج ، راسمة لنا موقفاً ميدانياً أفضل من موقف العدو عند إنتهاء العمليات ، أو مرحلة من مراحلها .
هذه بعض أهم مهام المستوى الاستراتيجي ـ شخوصاً وإجراءات ـ ، وفي ذلك تفصيل كثير ، وأمور تخصصية أكثر ، يعرفها أهل الاختصاص وأصحاب الـ ( كار ) ، نغض الطرف عنها حتى لا يطول بنا الحديث .
ثالثا : ميزات ومواصفات التكتيك الناجح :
إذا كان نجاح الاستراتيجية الكلية ، منوطٌ بنجاح الإجراءات التكتيكية ، على اعتبار أن النصر النهائي ما هو إلا حصيلة انتصارات جزئية منظومة في ( خيط ) تلك الإستراتيجية ، فما هو المطلوب حتى تكون هذا الإجراءات التكتيكية الميدانية ، تصب (ماءها ) في ( طاحونة ) الإستراتيجية الكلية ؟ إليكم التفصيل والإجابة :
حتى يكون الإجراء التكتيكي المنفذ أو المطلوب تنفيذه يصب في مصلحة الإستراتيجية الكلية ؛ على اعتبار أنه الحلقة الأولى التي يبنى عليها النجاح الإستراتيجي ، حتى يكون خادماً للإستراتيجية ؛ يجب أن يكون متساوقاً مع الإجراءات التعبوية والاسترتيجية التي اشتُق منها ، وإلا كان نجاحاً ـ هذا إذا نجح ـ موضعياً غير قبال للاستثمار أو ( التصريف ) في الموقف الكلي والنهائي .
كما يجب على الإجراء التكتيكي أن يراعي أوقاته الزمنية ، وجداوله التنفيذية ، فلا يحرق المراحل ، ولا يستعجل الخطى ، فهو ـ الإجراء ـ جزء من كثير من الأجزاء التي قد لا ترى من قبل القائمين على التنفيذ ، وما يضمن نجاح فعلهم ـ المنفذين ـ انضباط فعلهم بما يحدد له من أوقات وأزمان ـ تزيد وتنقص بشكل طفيف ـ والابتعداد عن الاندفاع غير المنضبط بضوابط الإستراتيجية وتدابيرها .
كما أن الاستراتيجية بمستوياتها البشرية والإجرائية منوط بها تحديد الغايات والمسارات الكلية ؛ فإنها أيضاً تضع الضوابط والتدابير الحاكمة للأعمال والإجراءات ، لذلك يُطلب من المستوى التكتيكي أن يلتزم بما يوضع من ضوابط وسياسيات ، حتى يكون ـ الإجراء التكتيكي ـمثمراً ، ويصب في صلح الموقف الإستراتيجي الكلي المطلوب الوصول له ، وكلنا يذكر موقف الصحابي الجليل " حذيفة بن اليمان " في معركة الخندق ، فقد كان قادراً على ضرب القيادة الأولى في جيش المشركين ؛ ولكنه انضبط بالامر والتكليف ، ولم يخرج عنه قيد أنمله .
في ميدان المعركة ، وفي خضم ثوران غبارها ونقيعها ؛ تكثر الفرص ، وتترائى أمورٌ قد يُرى فيها مصلحة ؛ لذلك صفة القائد الناجح الذي يعالج موقفاً ميدانياً متقلباً ، فيه من الفرص والتهديدات ما فيه ، أن يغتنم من الفرص ما يصب في موقفه الإستراتجي الكلي ، وأن يتجنب تبذير قدراته وطاقته فيما ليس له أثر على المشهد الكلي ، والموقف النهائي .
هذا أيضاً بعض ما يمكن أن يتطلبه الإجراء التكتيكي ، ليكون مثمراً ، مفيداً ، قابلاً للاستثمار والتصريف في الموقف الكلي والإستراتيجي النهائي المطلوب غلق المشهد الميداني عليه . وفي ذلك تفصيل يطول .
رابعاً : اسقاطات من وحي عملية " البيجر " :
نختم ببعض الملاحظات التي نعتقد أنها جعلت من عملية " البيجر " عملية تكتيكية غير قابلة للتصريف على المستوى الإستراتيجي ، ومن أهم هذه الملاحظات :
لذلك كله ، نعود ونؤكد ونُذكّر بأحد أهم قواعد العمل العكسري ، التي تقوم أنه يمكن تحقيق نجاح من تكتيك خطأ في ظل استراتيجية صحيحة ، ولكن لا يمكن تحقيق نصر من تكتيك صحيح في ظل استراتيجية خطأ . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .