إذا أردنا أن نعرف ماذا بإسرائيل فيجب أن نعرف ماذا بأوكرانيا

حضارات

مؤسسة حضارات

الشيخ رائد صلاح

هل تذكرون جملة “حسني البورزان” المشهورة: “إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا فيجب أن نعرف ماذا في البرازيل”، في مسلسل (صح النوم) الذي عرضته الشاشة الصغيرة قبل عشرات السنوات، حيث كان يؤدي دور صحفي في ذاك المسلسل وكان يحلم بكتابة مقالة بعنوان: إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا فيجب أن نعرف ماذا في البرازيل، وكان طوال حلقات المسلسل يُردد عنوان هذه المقالة، إلا أن المسلسل انتهى ولم يتم “حسني البورزان” كتابة تلك المقالة.

وها نحن نُردد اليوم: (إذا أردنا أن نعرف ماذا بإسرائيل فيجب أن نعرف ماذا بأوكرانيا)، فهي أمريكا اليوم التي تدعم حكومة نتنياهو الإسرائيلية دعمًا عسكريًا متواصلًا بلا انقطاع منذ سنة تقريبًا، وهي أمريكا اليوم التي تدعم حكومة “زيلنسكي” الأوكرانية، دعمًا عسكريًا متواصلًا بلا انقطاع منذ اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، وهي أمريكا اليوم في كلا المشهدين -لا تذوق على دمها- كما يقول مثلنا الشعبي، فهي التي لا تزال تواصل تقديم الدعم العسكري لكلا الحكومتين ثم تخرج إلى أهل الأرض كالحمل الوديع مدعيّة أنها تنشد التوصل لاتفاقية تنهي الحرب وما حملت من كارثة إنسانية على غزة، وتنشد السعي لإنهاء الحرب الروسية- الأوكرانية!!

وما أرخص هذا الكذب الأمريكي، فلو كانت أمريكا صادقة بما تقول لكان يكفيها أن توقف دعمها العسكري المتواصل حتى الآن للحكومة الإسرائيلية، ولو قامت بذلك لوقفت الحرب التي تُهدد غزة بالإبادة الجماعية، ولكن كل الشواهد تقول إن أمريكا لا تريد إيقاف هذه الحرب، وما يُصرّح به فرعون أمريكا “بايدن” وسائر وزرائه ومساعديه ما هو إلا ذر للرماد في العيون، فمن يُصدق أمريكا التي تطل علينا كل يوم بخبر جديد تدّعي فيه أنها تبذل قصارى جهدها لإيقاف الحرب في غزة، في الوقت الذي لا تزال فيه هذه الحرب مستمرة بالسلاح الأمريكي؟!

وحتى لا تعود أمريكا على هذا الادّعاء الكاذب نفسه كل يوم، وحتى لا يُصاب أهل الأرض بالضجر من كثرة تكرار هذا الادّعاء الكاذب نفسه كل يوم، فإنّ أمريكا تحاول أن تتلاعب بعقول أهل الأرض حيث أنها ما بين كل أيام، أو ما بين كل أسبوع وأسبوع تضيف إضافات كاذبة على هذا الادّعاء الكاذب حتى توهم أهل الأرض أن هناك ما هو جديد في ادّعاءاتها، وأنها تقترب من التوصل إلى اتفاق لإنهاء هذه الحرب المجنونة في غزة، فنراها تقول كاذبة إنها نجحت بتذليل كل الصعوبات التي منعت التوصل إلى اتفاقية!!، ثم ماذا؟!، ثمّ تواصل إلى جانب هذا الادّعاء تقديم الدعم العسكري إلى الحكومة الإسرائيلية!!، وهكذا تدفع أمريكا باتجاه استمرار هذه الحرب الكارثية في غزة، ويكتشف أهل الأرض أن ما روّجت له أمريكا وادّعت فيه أنها على وشك أن تنجح بعقد اتفاقية لوقف هذه الحرب ما هو إلا فقاعات في الهواء، ثم فجأة تطل أمريكا على أهل الأرض وتدعي كاذبة أن الخلاف على ممر فيلادلفيا (صلاح الدين) هو العائق، ولولا هذا العائق لأبرمت هذا الاتفاق وانهت الحرب!!

ثم يكتشف أهل الأرض أن أمريكا كاذبة بما تقول، فهي قادرة على حل الخلاف على ممر فيلادلفيا لو أرادت، ولو أرادت لأوقفت الدعم العسكري المتواصل للحكومة الإسرائيلية، ولو أوقفت هذا الدعم لأنهت الحرب إلى جانب إنهاء الخلاف على ممر فيلادلفيا، ولكن أمريكا لا تُريد إيقاف الحرب، بل هي معنية باستمرارها أكثر من أية جهة لها ضلع في هذه الحرب المتوحشة، وأنا على يقين أن “نتنياهو” يُدرك ذلك، ولذلك يتصرف اليوم تصرف الموقن أن أمريكا لن تمنع عنه الدعم العسكري ولا الدعم المالي ولا الدعم السياسي ولا الدعم الإعلامي، وكبرهان صارخ على ذلك ها هو قطاع واسع من الشارع الإسرائيلي يقول علانية أن “نتنياهو” هو المعوق للتوصل لاتفاق وقف هذه الحرب، ولكن في المقابل ها هي أمريكا تصرّح أن المعوق للتوصل لمثل هذا الاتفاق هي حماس!!، وهكذا لم تدخر أمريكا أي نوع من الدعم إلا وقدّمته لحكومة “نتنياهو” الإسرائيلية، ولا تزال تواصل هذا الدعم، وكل الدلائل تقول إنها لن تتوقف عن هذا الدعم، وهذا يعني أن هذه الحرب الضروس لن تتوقف وفق الحسابات الأمريكية الخفية التي تمثل حقيقة الموقف الأمريكي، وهذا يعني أنّ هذا هو المطلوب ألا تتوقف هذه الحرب الضروس وفق هذه الحسابات الأمريكية!!

ولأن “نتنياهو” يُدرك ذلك فهو لا يُلقي بالًا لكل التحذيرات التي يوجهها أصحابها علانية إلى شخص “نتنياهو” أو إلى المؤسسة الإسرائيلية بعامة وكأن لسان حال “نتنياهو” يقول لكل هذه الشخصيات المحذرة: حذّروا كما تشاؤون لن أسمع لكم، لأن أمريكا ستبقى تدعمني كل الدعم إلى الأبد!!، ولذلك يُلفت الانتباه هذا التحذير الشديد الذي تعامل معه “نتنياهو” كأن لم يكن وهو تحذير الجنرال الإسرائيلي المتقاعد “إسحاق بريك” في مقال نشره بصحيفة “هآرتس العبرية” والذي يقول فيه إن إسرائيل ستنهار في غضون عام واحد إذا استمرت حرب الاستنزاف ضد حركة حماس وحزب الله اللبناني، وكأن “نتنياهو”يقول ردًا على هذا التحذير: إن “بريك” لا يدري ماذا يقول، ولو علم “بريك” أن أمريكا لن توقف دعمها عني لما قال ما قال!!
​​​​​​​
ويُلفت الانتباه التحذير الذي صدر عن النائب السابق لمحافظ بنك إسرائيل ومؤسس معهد “أهارون للاقتصاد” في جامعة “رايخمان” البرفسور “تسفي أكشتاين”، حيث يقول إن السيناريو الذي يقلقه هو الحرب المُتعددة الجبهات ويصفه بسيناريو الرعب، وأوضح أن هذه التسمية سببها أنه يشمل صواريخ على تل أبيب وتوقف الرحلات الجوية واستهداف الموانئ، وهذا يعني أن التدهور الاقتصادي سيكون تدهورًا كبيرًا جدًا، ومع ذلك ها هو “نتنياهو” على موقفه اليوم ذاك الموقف الذي كان عليه قبل أشهر وطوال الوقت ولا يزال يصرخ مُعلنا أنه لن يوقف الحرب حتى يقضي قضاءً مبرمًا على المقاومة بغزة، وحتى يفرض سيطرته الكلية على كل غزة، وحتى يُعيد كل المخطوفين، وكأنه يقول في الوقت نفسه: إنه لا يريد ان يسمع غير ذلك؟!

وأنا شخصيًا لا زلت أؤكد أن “نتنياهو” ما وقف هذا الموقف إلا لأنه موقن أن أمريكا لن توقف عنه كل أشكال الدعم في يوم من الأيام، مما يجعله غير قلق على القدرة العسكرية الإسرائيلية ولا على القوة الاقتصادية الإسرائيلية، ولا على الغطاء الأمريكي السياسي- الإعلامي، وسيبقى “بايدن” يطل في المقابل على أهل الأرض وهو يأكل البوظة الأمريكية ذات الحجم الكبير، في نشوة الآمر الناهي المعني باستمرار الحرب بغزة، حتى يتم تدمير كل مقومات الحياة بغزة، وحتى تستحيل الحياة بغزة، وهكذا يُمني “بايدن” نفسه أنه سيتمتع عما قريب وهو يرى -وفق حساباته- مشهد أهل غزة وهم يغادرونها إلى غير عودة، وهكذا ستتحول غزة -وفق أطماع “بايدن” وحساباته- إلى الربع الخالي الجديد الذي سيصعب على البشر والحيوان والطير العيش فيه!!

وكأنني “ببايدن” يفتل عضلاته العجوزية المترهلة الذابلة وهو يقول: أنا “بايدن” وأستطيع إزالة الجبال إن أردت ذلك!!، ولكن هذا المسكين “بايدن” “فرعون أمريكا” نسي أن الذي يُدير هذا الكون هو الله تعالى، وليس “الفرعون بايدن”، وأن الذي يملك أقدار أهل الأرض جميعًا هو الله تعالى، وليس الحلم الأمريكي، وهذا يعني أن مصير أهل الأرض بعامة ومصير شعبنا الفلسطيني بخاصة ومصير غزة على وجه أخص لن يبقى رهينة لبهلوان السيرك “بايدن”، الذي يُدمّر غزة بدعمه العسكري المتواصل في الوقت الذي يذرف فيه دموع التماسيح مُدعيًا أنه يواصل سعيه للتوصل لاتفاقية توقف الحرب بغزة!!، ولا أظن أن ألاعيبه في الحرب الروسية- الأوكرانية تختلف عن ألاعيبه السمجة الداعمة لتواصل الحرب المُهلكة بغزة.


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023