ابراهيم الأمين
مطلع السنة الجارية، كان كثيرون يتحدّثون عن المدى الذي يمكن للعدو أن يذهب إليه في حربه على غزة. من بين القادة المعنيين، كان زياد نخالة (أبو طارق) يجزم بأن الحرب طويلة، وطويلة جداً. قال ذلك بلهجة جازمة لافتة للانتباه. ومن موقعه كأمين عام لحركة الجهاد الإسلامي، كان يقيس الأمور بعقل بارد، رغم كل الحرارة في داخله كقائد خرج من بين الناس، مقاتلاً وأسيراً ومطارَداً ومنفياً، قبل أن يصبح قائداً يعرف شؤون الناس وأمور الميدان. في أحد الحوارات معه، أكّد أن المحاولات السياسية الجارية لن تأتي بجديد، فقط لأن العدو يعتقد بأنه أمام فرصة لتحقيق ما عجز عن تحقيقه منذ قيام الكيان. ولدى السؤال عما يمكن أن تقدّمه المقاومة من تنازلات لوقف الحرب، كان يردّ بحسم: لم يعد لدينا ما نخسره، الواقعة تمّت، والمذبحة حصلت، وليس أمامنا سوى البقاء في مواقعنا إلى أن يقر العدو بعجزه عن إبادتنا لأن هذا هو هدفه من هذه الحرب!
استعادة الحديث مع «أبو طارق» ترتبط بما يجري في جبهتنا اللبنانية، إذ تخرج أصوات تطالب المقاومة بالتنازل ووقف القتال من جانب واحد وسحب الذرائع من العدو ليوقف حربه، وبأن تقبل بمعادلات جديدة. أصحاب هذا الرأي يسلّمون بما تقوله إسرائيل بأن المقاومة هُزمت. بين هؤلاء من يريد التخلص من المقاومة أصلاً، ومن يفترض أن وقف الحرب وفق شروط العدو فرصة لالتقاط الأنفاس، وبينهم أيضاً من تأخذه السذاجة إلى حدود الاعتقاد بأن في وقف القتال الآن والتفاعل مع طلبات المجتمع الدولي خلاصاً للبنان.
من جهة المقاومة، أعلن الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أن القتال سيتواصل حتى يقرّ العدو بعجزه عن تحقيق أهدافه، وعند توقف الحرب يجري البحث في ما يتبع، وفق شروط تناسب المقاومة ولا تسلب لبنان بقية عناصر سيادته.
عندما أعلن الشيخ قاسم هذا الموقف لم يفعل ذلك انطلاقاً من انفعال أو مكابرة، بل من وعي وفهم لحقيقة العدو من جهة، وانطلاقاً من التزام المقاومة بأن واجبها إفشال أهداف العدوان. وعندما تتخذ المقاومة قراراً من هذا النوع، فإنها تدرك أن له كلفته وأثمانه، ومتطلّباته الميدانية أولاً، والسياسية ثانياً، وعلى المستوى الشعبي أيضاً.
لا يتوهمنّ أحد أن العدو سيتوقف عن القتل والتدمير بطلب من عاصمة غربية، أو استجابة لنداء إنساني من منظمة حقوقية. وحده ما يفرض على العدو تغيير سلوكه، هو الثمن الباهظ الذي يدفعه جراء ما يقوم به. وهو ثمن له أشكال مختلفة، لكنه كبير، وتُظهر المؤشرات الصادرة عن كيان الاحتلال أنه ليس من النوع الذي يعزّز الفرضية القائلة إن إسرائيل مستعدة للقتال إلى ما لا نهاية.
طبعاً، لن ننتظر من إعلام محلي أو عربي أو عالمي يروّج لسردية الاحتلال أن يقدّم لنا صورة عن وجع العدو. يكفي الاستماع إلى قناة «الحدث - العربية»، وهي تنسب أخباراً إلى «مصادر ميدانية في حزب الله». وهذه من عجائب الدنيا التسع، لأن العجيبة الثامنة هي ادّعاء القناة نفسها بأن «معلوماتها الأكيدة ومن مصادر موثوقة جداً»، تفيد بأن جيش الاحتلال نجح في تدمير كامل لـ 40 قرية لبنانية على الحدود. أربعون قرية مرة واحدة، من دون أن تتكبّد القناة عناء التدقيق في عدد القرى التي دخلها العدو ولم يتمكن من البقاء فيها. كما أن القناة لا تملك وسيلة للحصول على صورة من الأقمار الاصطناعية تقارن وضع هذه القرى قبل الحرب وبعدها لتتأكد من حجم الأضرار. لكن لا يهمّ، المهم القول إن أربعين قرية دُمّرت، وإن قائداً ميدانياً في حزب الله تحدّث إلى القناة... وقس على ذلك من خرافات!
على أي حال، ثمة أرقام محدّدة تصدر عن مؤسسات العدو، بينها رقم يقول إن العدو يخسر يومياً 150 مليون دولار جراء حربه مع لبنان. وهناك أرقام أخرى عن تعطّل 70% من الأعمال العامة والخاصة في كل مناطق الشمال الممتدّة من حيفا وجنوبها الغربي حتى جنوب بحيرة طبريا، وأن نحو 2.5 مليون شخص يعيشون في هذه المساحة الكبيرة يشعرون بأن «الأمن» مفقود فعلياً. لكنّ الأهم، والذي تُمنع الصحافة المحلية في الكيان من الإشارة إليه، ويجري تحذير المراسلين من الحديث عنه تحت طائلة الترحيل، هو ما يتعلق بعدد الثكنات العسكرية التي تعرّضت للقصف وتمّ إخلاؤها بصورة شبه تامة. كما لا يشير أحد إلى الخوف الذي يعتري المستوطنين الذين صاروا ركوب حافلات النقل العام التي صار الجيش يستخدمها بدلاً من سياراته العسكرية، خشية أن تكون عرضة لضربات حزب الله، خصوصاً أنهم يعرفون أن صواريخ الحزب الموجّهة أصابت عدداً غير قليل من المركبات المدنية التي يستخدمها الجنود في النقل والتبديل في المناطق الحدودية مع لبنان، علماً أن من يحاجّ المقاومة في لبنان بحجم الخسائر الناجمة عن الحرب، لا يحمّل إسرائيل أي مسؤولية عما يجري، ولا يريد أن يسمع الأخبار عن الضرر والخسائر التي تصيب كيان الاحتلال. والأهم أن خصوم المقاومة في لبنان لا يأتون مطلقاً على ذكر المواجهات المباشرة بين قوات الاحتلال والمقاومين، ويكرّرون ببلاهة سردية العدو عن «سهولة دخوله إلى القرى والسيطرة عليها وتدمير مراكز المقاومة وقتل عناصرها ثم الانسحاب». وهؤلاء لا يريدون أن يسمعوا حتى ما أعلنه أحد قادة المعارضة في تل أبيب، يائير لابيد، أمام الكنيست بأن 1050 ضابطاً وجندياً إسرائيلياً قُتلوا أو أصيبوا حتى الآن في معارك الشمال، قبل أن يضطر جيش الاحتلال إلى الإقرار، بمقتل 48 ضابطاً وجندياً وإصابة 942 آخرين بجروح مختلفة منذ بدء العملية البرية، عدا الخسائرِ بين المستوطنين. وبالطبع، يستخدم خصوم المقاومة في سرديتهم صور جيش الاحتلال التي يوزّعها بعد كل عملية تدمير يقوم بها في قرى الجنوب، ويستفيدون من عقبات لوجستية تحول دون بث الإعلام الحربي فيديوهات للمواجهات القائمة مع قوات الاحتلال في نقاط الاحتكاك.
اليوم، ندخل في مرحلة جديدة من الحرب. لكنْ ثمة من يقول لنا إن قادة العدو يشعرون بأنهم أكثر راحة بعد هزيمة فريق الإدارة الأميركية الحالية في الانتخابات، حتى يكاد يخال لنا بأن جو بايدن كان على وشك فرض حصار على إسرائيل لدفعها إلى وقف الحرب على لبنان وغزة. الواضح أن حكومة العدو تظهر رغبة كبيرة في توسيع دائرة الحرب مع لبنان، كما ترغب في الذهاب إلى حرب في سوريا والعراق، وهدفها الأكبر إقناع الولايات المتحدة بأن تشاركها حرباً شاملة ضد إيران. وبمعزل عما ستكون عليه الصورة في الفترة المقبلة، إلا أن المؤكد أن قوات الاحتلال تخطط لمستوى جديد من العدوان، لكنّ الأهداف تبقى هي نفسها: محاولة تعطيل قدرة المقاومة على العمل، وزيادة الضغط على بيئة المقاومة من خلال عمليات القتل والتدمير، وإشعار بقية اللبنانيين بأنهم يتحملون مسؤولية عدم المبادرة إلى اعتقال مقاومي حزب الله وزجّهم في السجون.
في المقابل، تستعيد المقاومة، يوماً بعد آخر، كامل لياقتها الميدانية بعدما استعادت قدراتها القيادية على المستويين السياسي والتنظيمي، وهذا يساعدها على السير في برامج جديدة على مستوى مواجهة قوات الاحتلال على الأرض، أو توجيه الضربات في مناطق الشمال أو في العمق صوب تل أبيب الكبرى. وهي ضربات لها مفعولها التراكمي. وأكثر ما يخشاه العدو أن ينجح حزب الله في فرض حرب استنزاف مديدة وغير مضبوطة الإيقاع، وصولاً إلى جعل وقف الحرب شرطاً يسبق أي نقاش حول ما يليه من أيام.