المسارات الترکية الإسرائيلية في الجمهورية السورية نحو التصادم أم التقاسم ؟

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

أولاً : الموقف : 

تدرج الموقف التركي من الأزمة السورية والتي بدأت في منتصف آذار عام 2011 وحتى سقوط النظام في الثامن من كانون الأول 2024، تدرج الموقف وتصاعد؛ من محاولة رأب الصدع بين المعارضة والنظام، ومحاولة إشراكها ــ المعارضة ــ في السلطة، الأمر الذي رفضه الناظم السابق، إلى أن وصل تدخل الدولة التركية في الشأن السوري للحد الذي أصبحت فيه تركيا وقطر الراعيين الرئيسيين للمعارضة السورية؛ واحدة تقدم الأرض، وتؤمن العقبة لقوى المعارضة، وتسهل دخول المال والرجال والعتاد، والثانية ـ قطرـ تتكفل بعمليات التغطية المالية للشؤون الإدارية واللوجستية، على خلاف في مستوى الدعم والتأمين، وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن سقط النظام السوري، فتصدرت تركيا المشهد، محاولة استثمار ما أنفقته من جهود وموارد في هذه الأزمة لجني (الأرباح) وتقسيم وتقاسم الغنائم. وفي هذا تفصيل يطول الحديث حوله وعنه. 

أما فيما يخص العدو الإسرائيلي؛ فقد قارب الأزمة السورية عند بدايتها على حذر، على قاعدة خير الخيرين، وشر الشرين؛ فإن كان العدو يرى في النظام السوري السابق، وما وفره لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، من دعم وإمداد، عبر فتح الأجواء والأراضي السورية أمام هذه القوى، وداعمها الرئيسي ــ الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ لتصبح سوريا من أهم قواعد تطوير المقاومة؛ شكلاً ومضمونا، إن كان يرى العدو في النظام السابق أنه شر وعدو؛ فإنه ـ العدو ـ لم يرى في المعارضة السورية أنها خير أو صديق، وإنما قارب علاقته مع الطرفين على القطعة، ووفق ما يقتضيه الموقف. ثم بدأ تطور موقف العدو وتدخله في الأزمة السورية، عندما بدأ يرى تكون أنوية عمل، ومراكمة قدرات قتالية بشرية ومادية، قد تشكل مستقبلاً تهديداً عليه، الأمر الذي بدأ معه في استهداف هذه القدرات لمنع تراكمها وجزاً لــ ( عشبها ) وصولاً إلى تدمير معظم قدرات الدولة السورية، البرية والجوية والبحرية، وهو ماحصل بعد سقوط النظام، وتسلم المعارضة زمام الحكم، ومقاليد السلطة. 

عند هذا المشهد بدأ منسوب الخلاف، والاحتكاك بين الدولة التركية، والكيان المؤقت بالتصاعد؛ خاصة عندما بدأت الحكومة السورية المؤقتة تتحدث عن اتفاقيات دفاع مشترك مع تركيا، وأن الأخيرة في صدد بناء قواعد لها في البر السوري، وأنها قد تعمد إلى نشر منظومات دفاع جوي ميداني لحماية هذه القواعد، مما يعني تضييق هامش حركة ومناورة سلاح جو الكيان المؤقت في السماء السورية، وصولاً إلى تصرحيات حادة صدرت عن وزير دفاع الكيان المؤقت خلاصتها أنهم لن يسمحوا للقوات التركية أن توسع من انتشارها خارج الخطوط المتعارف عليها قبل سقوط النظام، الأمر الذي قابلته الدولة التركية بتصريحات على لسان رأس دبلوماسيتها الوزير " حقان فيدان " مؤداها أنهم ـ الأتراك ـ ليسو في وارد التصادم مع الكيان المؤقت في سوريا، بل إنهم ـ الأتراك ـ لن يمانعوا أي تقارب بين النظام السوري الحالي ودولة الاحتلال الصهيوني، طبعاً إن رأى قادة هذه المرحلة مصلحة لهم في ذلك . 

بناء على الصورة الكلية التي ذكرناها في الموقف آنفاً، فإن " تقدير الموقف " هذا يهدف إلى تحليل الموقف ، وقراءة مابين سطوره، لتقدير مآلات مسارات كلى الفاعلين؛ التركي والإسرائيلي، في الساحة السورية، وإلى ماذا سيفضي الخلاف والاختلاف بينهما، أإلى تفاهم أم تصادم ؟ 

سوف يعتمد هذا التقدير على إطار توصيفي للموقف يراعي التطرق إلى أهم العناوين التي تساعد في رسم المسارات، عبر سلسلة من العناوين والمؤشرات، نأتي على ذكرها تسلسلاً، في الآتي من فقرات. 

ثانياً : الأهداف التركية في الجمهورية السورية : 

منذ بداية الأزمة السورية، وتدخل الدولة التركية فيها، ودعمها لمختلف قوى وفصائل المعارضة، كانت تركيا تلاحق مجموعة من الأهداف، وتبحث عن مجموعة من المصالح، يمكن اختصار أهما بالآتي : 

  • تحقيق نفوذ سياسي وعسكري واقتصادي في منطقة حيوية، كانت في السابق جزءاً من الإمبراطورية العثمانية . بالمناسبة، إلى الآن ما زالت الدولة التركية تخصص من موازنتها السنوية مبلغ ليرى تركية لولاية حلب !! 
  • تأمين حدودها الجنوبية من أي تهديد قد ينشأ كنتيجة لانفلات الوضع الأمني في الأرضي السورية، خاصة من الأقليات الكردية والعلوية . 
  • منع قيام كيان سياسي للأكراد في الشمال الشرقي من سوريا، يشبه ما هو قائم في الشمال العراقي. 
  • فتح الأسواق السورية أمام المنتجات التركية، بما تملكه هذه الأسواق من قدرة على استيعاب وتصريف للبضائع والخامات.
  • فتح طريق ترانزيت التجارة بين تركيا والخليج العربي . 
  • تحييد فاعل إقليمي، ومنافس تاريخي للدولة التركية، عنينا به الإيراني، وإخراجه من الساحة السورية.
  • منع عودة ذوي الميول الإسلامية ( المتطرفة ) من حملة الجنسية التركية، أو غيرهم من الأجانب الذين دخلوا سوريا عبر الأراضي التركية، منعهم من العودة إلى تركيا والاستقرار فيها، أو استخدامها كممر إلى دول أخرى، مما يسبب حرجا، وأزمات لتركيا مع محيطها . 
  • تأمين مناطق جغرافية في الشمال السوري، وجعلها صالحة لعودة اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، مما يريح الوضع الاقتصادي والسياسي للدولة التركية، وحزبها الحاكم . 
  • عدم تقسيم سوريا، أو فدرلتها، مما قد يشكل نموذجاً قد يغري أعداء الدولة التركية لمحاولة تنزيله وتطبيقه في تركيا لاحقاً. 

قد تكون هذه هي أهم الأهداف التي تبحث عنها ، والمصالح التي تحاول الدولة التركية تحقيقها وتأميها من جراء تدخلها في الأزمة السورية، واستثمارها فيها. 

ثالثاً : الأهداف الإسرائيلية في الجمهورية السورية : 

أما عن العدو الإسرائيلي، والكيان المؤقت، فقد كانت، وما زالت، لديه أهداف، ومصالح، يدعي أنه يدافع عنها في الجغرافيا السورية، من أهمها ما يأتي : 

  • عدم نشوء بؤر تهديد ــ رسمية أو شعبية ـــ في الجغرافية السورية.
  • القضاء على الأصول العسكرية والفنية في الجمهورية السورية . 
  • القضاء على ما تبقى من قدرات وأصول بشرية أو مادية، روكمت أثناء حرية الحركة الإيرانية في الأراضي السورية . 
  • الإشراف والسيطرة العاصمة السورية، كمركز ثقل سياسي يمكن التعرض له بالضغط عند أي أزمة مع الدولة السورية الحالية . 
  • بناء جهاز دفاعي متقدم خارج حدود فلسطين التاريخية، ليشكل حاجز الصد الأول أمام أي تهديد منشأه الأرضي السورية. 
  • فتح علاقات، وبناء مشاريع عمل، مع بعض الطوائف السورية، خاصة الدروز في منطقة السويداء، والعلويين داخل دمشق والساحل والسوري، لاستثمار هذه العلاقات في تحقيق أهداف، وحماية مصالح. 
  • السيطرة على الموارد المائية في منطق حوض اليرموك. 
  • تقسيم سوريا على أساس طائفي وعرقي، واللعب على تناقضات هذه الطوائف، وتوظيفها ــ التناقضات ــ في تحقيق أهداف، وحماية مصالح. 
  • إبقاء سوريا الجديدة في حالة من الضعف، والانشغال في الذات، لما تكتنزه هذه الجغرافيا من قدرات كامنة، ومصادر تهديد، يمكن أن تتبلور وتخرج إلى حيز الفعل، في حال استقر الوضع، واستتب الأمن . 
  • (خلق) أمر واقع يدفع إلى إعادة مناقشة اتفاقية الهدنة بين الدولة السورية والكيان الموقت التي أعقبت حرب رمضان 1973، والعمل على تغيير بعض بنودها بما يخدم مصالح وأمن الكيان المؤقت . 
  • عدم عودة إيران إلى الساحة السورية، إن بشكل رسمي عبر إعادة العلاقات الدبلوماسية الثانئية، أو بشكل غير رمسي عبر العلاقات والصلات الشعبية والدينية . 

هذه بعض أهم أهداف الكيان المؤقت من تدخله في الشأن السوري، منذ بدأت أزمة النظام مع المعارضة في عام 2011، وحتى سقوطه واستلام قوى المعارضة السورية زمام السلطة في دمشق . 


رابعاً : مسارات التصادم : 

في خضم هذه الموقف، فإن مسارات قد تفضي إلى التصادم بين المسار التركي والمسار الإسرائيلي في سوريا، مشعلة نار الاشتباك السياسي بين هاذين الفاعلين الرئيسيين، من أهمها ما يأتي : 

  • مسار ملف الأقليات الدينية والعرقية، حيث للعدو مصلحة في ظهور هذه الأقليات ككيانات مستقلة في الجغرافيا السورية ، ولتركيا مصلحة في دمج هذه الأقليات في النسيج السوري، وعدم (قوننة) وجودها كأجسام مستقلة . 
  • مسار الحضور العسكري والأمني التركي في سوريا، كون تكريس هذا الحضور يعني تضييق هامش حركة العدو في بر سوريا وأجوائها.
  • مسار إمكانية عودة بعض حركات المقاومة للاستقرار ـــ الرسمي أو غير الرسمي ـــ بوساطة تركية، أوغض طرف سوري، في سوريا. 
  • مسار السيطرة على الموارد المائية ومصادر الطاقة في الجغرافيا السورية . 
  • مسار محاولة استخدام الأراضي السورية كممر لمصادر الطاقة الخليجية إلى تركيا، ومنها إلى القارة الأوربية، بما يخفض من أهمية الكيان كمصدر طاقة بديل للقارة العجوز . 

خامساً : مسارات التوافق : 

أما عن مسارات التوافق، أو التشارك التي يمكن أن تقلص من مساحات الاشتباك، وتخفض من (حرارة) احتكاك هاذين الفاعلين؛ فيمكن ذكر الآتي : 

  • مسار عدم عودة إيران كفاعل وحاضر في المشهد السوري . 
  • مسار عدم عودة فصائل المقاومة للاستقرار في سوريا، بحجة أولوية الانشغال في بناء الدولة، وترميم ما تضرر، وبناء ما تدمر . 
  • مسار السيطرة على الحالات الفصائلية غير المنضبطة، والتي يمكن أن تشكل تهديداً مستقبلياً على الكيان المؤقت . 
  • مسار تأمين خط ترانزيت التجارة التركية مع دول الخليج . 

سادساً : كوابح الصدام : 

قد يرى القارئ والمدقق في الموقف محل البحث، أن عوامل التصادم قد تتفوق على فواعل التوافق، إلّا أن قواسم مشتركية عُليا بين هذين الفاعلين، قد تشكل كوابح تمنع التصادم، أو على أقل تقدير قد تحد من الأضرار الناتجة عن احتكاكهما في بعض المساحات المشتركة، ومن أهم هذه الكوابح ما يأتي : 

  • الكابح الأمريكي، الذي ليس له مصلحة في تصادم حليفين رئيسيين من حلفائه، في وقت هو ـ الأمركي ـ في أمس الحاجة لهدوء المنطقة، للتفرغ للملف الإيراني القريب، والصيني البعيد. 
  • الكابح الروسي، فله على الطرفين ( دالات )، ويجمعه معهما مصالح، تساعده في تبريد الأجواء، ومنع تطور الموقف إلى صدام دموي . 
  • الكابح القطري، وهو كابح تابع، وليس أصيل، ولكنه يمكن أن يستثمر علاقاته وصلاته ـ العلنية والمخفية ـ مع كلا الفاعلين التركي والإسرائيلي في منع التصادم، وإطفاء ما ينتج من (شرر) أثناء تزاحم وتدافع الطرفين .
  • كابح الناتو؛ فتركيا عضو رئيس ومهم وصاحبة ثاني أكبر جيش في هذا الحلف، والكيان المؤقت من أهم الدول التي تقدم خدمات فنية ولوجستية للحلف من خارجه، وعليه فإن دول الناتو مجتمعة لن تقبل أن يحدث صدام بين عضو فيه، وصديق له . 

سادساً : تحليل الموقف والتقدير : 

بناء على تحليل الموقف، والمعطيات التي ذكرت؛ فإننا نعتقد أن حالة الصراع والتنافس بين الدولة التركية، والكيان المؤقت، على الساحة السورية، لن يتوقف، وسيبقى قائماً ما بقيت الدولة السورية الحالية ضعيفة، غير مسيطر على جغرافيتها من قبل حكومة مركزية قوية، ومقبولة شعبياً ودولياً . كما أن حالة التدافع هذه ستبقى إلى حين استقرار الشكل النهائي للدولة السورية الجديدة، من حيث الهياكل والشخوص، ليبنى على الشيء مقتضاه. إلّأ أننا لا نعتقد أن مستوى التدافع والاحتكاك بين هذين الفاعلين الرئيسيين في المشهد السوري، سوف يفضي إلى حالة تصادم عسكري خشن، مع بقاء فرص الصدام نصف الخشن الذي سيأخذ طابع الأعمال الأمنية التي تساعد كل طرف منهما على تقديم مصالحه، والإضرار بمصالح غريمه . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023