لبنان لا يزال ضعيفاً إزاء القيام بخطوة جريئة تغيّر كلّ شيء

رئيس هيئة الأركان العامة إيال زيسر

 قناة N12

في العقود الأولى لقيام دولة إسرائيل، كان الافتراض السائد أن "لبنان سيكون الدولة العربية الثانية التي ستعقد السلام معنا". لأنها دولة غربية ومعاصرة، وفيها عدد كبير من المسيحيين غير المُعادين لإسرائيل، لذلك، سيكون السلام معها ممكناً. لكن نظراً إلى أن لبنان دولة ضعيفة تفتقر إلى مؤسسات الدولة وأصحاب القوة، ونظراً إلى العدد الكبير من المسلمين فيها، فعلى الأرجح، لن تكون الدولة التي ستبادر إلى توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، بل ستنتظر دولة عربية أُخرى أكبر وأهم منها لتقوم بذلك، بعدها، سيوقّع لبنان اتفاق سلام معنا.

لكن طوال العقود الأخيرة، ومن المؤكد أنه بعد هجوم 7 أكتوبر، فهمت إسرائيل وأدركت أن لبنان لن يكون الدولة الأولى، أو الثانية، التي توقّع اتفاق سلام، بل في ضوء قوة حزب الله المدعوم من السكان الشيعة الذين تحولوا إلى الطائفة المركزية في لبنان، ثمة شك في أن يكون السلام ممكناً مع لبنان.

خلال العقدين الأخيرين، وتحديداً منذ حرب لبنان الثانية في صيف 2006، تحوّل لبنان، وتحديداً بعد سيطرة تنظيم حزب الله على البلد، إلى تهديد، وحتى إلى تهديد وجودي لإسرائيل. وذلك بسبب القوة العسكرية التي بناها الحزب طوال سنوات، بينها نحو 180 ألف صاروخ، منها عدة آلاف من الصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى، التي يمكنها تغطية كلّ الأراضي الإسرائيلية، بالإضافة إلى ذلك، يملك حزب الله قوة عسكرية تضم عشرات الآلاف من المقاتلين، بينها وحدات النخبة، مثل "وحدة الرضوان" التي تضم آلاف المقاتلين، وهدفهم اقتحام إسرائيل واحتلال الجليل، وربما أكثر من الجليل، بحسب تصريحات زعيم الحزب حسن نصر الله. ولم يخفِ حزب الله قط أن هدفه كان ولا يزال القضاء على إسرائيل. في ضوء هذه القوة، كانت التقديرات في إسرائيل أن كلّ مواجهة مستقبلية مع حزب الله، يمكن أن تتسبب بسقوط آلاف القتلى  في إسرائيل وشلّ منظومة الحياة في الدولة لفترة طويلة.

إيران هي التي وقفت وراء بناء القوة العسكرية لحزب الله. وأمِلت بأن تستخدم هذه القوة لردع إسرائيل عن العمل ضدها وضد منشآتها النووية. ومن دون شك، فإن هذه القوة شكّلت حجر أساس في الخطة الإيرانية الكبرى التي ضمّت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق والحوثيين في اليمن، وكان هدفها الدفع قدماً بالسيطرة الإيرانية على الشرق الأوسط، وفي البداية، من الضروري القضاء على دولة إسرائيل

اغتيال نصر الله زاد في التفكك

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شهدت منطقتنا حدثاً مهماً عندما شنّت "حماس" هجوماً مفاجئاً فاجأت به إسرائيل، وأدى إلى مقتل 1200 شخص، وخطف 251 شخصاً، خطفتهم "حماس" إلى غزة، وحزب الله الذي لم يكن يعلم بالموعد الدقيق للهجوم، قرر الانضمام إلى الحرب، لكي يثبت أنه مُلزم بمحاربة إسرائيل، لكن مع المحافظة على مستوى منخفض من الصراع وحصره في منطقة الحدود بين لبنان وإسرائيل...

استمرت الاشتباكات العنيفة بين لبنان وإسرائيل على طول الحدود أكثر من عام، وشهدت صعوداً وهبوطاً. في صيف 2024، شنّت إسرائيل هجوماً مضاداً على التنظيم "الإرهابي"، واغتالت قيادتَيه العسكرية والسياسية، ودمرت كثيراً من قدراته العسكرية. نذكر بصورة خاصة اغتيال الأمين العام للحزب طوال 3 عقود حسن نصر الله، والذي كان يبدو كأن لا بديل منه بسبب التقدير الذي كان يحظى به لدى القيادة في إيران، التي اعتبرته جزءاً منها وممثلاً لها في لبنان، سواء بسبب مكانته الخاصة لدى الطائفة الشيعية في لبنان ووسط الحزب، وكونه كان يجمع بين القدرة والسيطرة العسكرية، وأيضاً السياسية، وبسبب مكانته في لبنان، حيث كانت كافة القوى في لبنان تحترمه وتخاف منه.

يبدو أن إسرائيل بالغت في تقدير تهديد حزب الله، الأمر الذي يستحق الفحص، إذا شُكلت لجنة تحقيق رسمية في أحداث 7 أكتوبر. لكن حتى لو كان هناك مبالغة في تقدير قوة الحزب العسكرية، فإن الحزب نجح في الحفاظ عليها خلال الحرب. فحتى اليوم الأخير من الحرب، أطلق حزب الله مئات الصواريخ نحونا يومياً، وخاض مقاتلوه معارك ضارية ضد القوات الإسرائيلية التي كانت تناور في القرى الشيعية في الجنوب اللبناني.

في تشرين الأول/أكتوبر، وافقت إسرائيل على اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان، وهو اتفاق مشكوك فيه ومليء بالفجوات، والذي وقّعناه قبل أن ننجح في الانتصار على حزب الله بصورة نهائية. واستناداً إلى الاتفاق، تعهّد لبنان سحب مقاتلي الحزب إلى شمال نهر الليطاني ونزع سلاحهم.

لا شك في أن الحزب تلقّى ضربة قاسية خلال الحرب، وخسر ثلث ترسانته الصاروخية، أو أكثر، وآلاف المقاتلين. كما تورطت إيران مع إسرائيل، وتبادلت معها الضربات الصاروخية والهجمات الجوية. وثبت خلالها أنها ضعيفة وعرضة للخطر، وقامت إسرائيل بدفعها، رويداً رويداً، بعيداً عن معقلها على شواطىء البحر المتوسط.

وفي اليوم الذي شهد وقف إطلاق النار في لبنان، خرجت "هيئة تحرير الشام"، التنظيم الأكبر للمتمردين في سورية، بقيادة أبو محمد الجولاني، في هجوم ضد نظام بشار الأسد، مستغلةً ضُعف المحور الإيراني في منطقتنا. وخلال 12 يوماً، نجحت في تفكيك الجيش السوري واحتلال دمشق.

كان سقوط نظام الأسد كارثة إضافية حلّت بحزب الله، لأن سورية كانت البلد الذي تعبر فيه المساعدات الإيرانية المالية والعسكرية إلى حزب الله. ولا يخفي النظام الجديد في دمشق عداءه لإيران وحزب الله... لذلك، إلى جانب التهديد الإسرائيلي في الجنوب، نشأ تهديد إضافي لحزب الله من الشرق، من النظام السوري الجديد في دمشق.

في هذه الأُثناء، جرى انتخاب قائد الجيش جوزف عون رئيساً للجهمورية وتعيين نواف سلام رئيساً للحكومة. فسارع الإثنان إلى التصريح بأن الدولة اللبنانية لها الحق الحصري في حمل السلاح في لبنان، ويتعين على حزب الله تسليم سلاحه...

لكن الكلام شيء والأفعال شيء آخر. فحزب الله لا تزال لديه قوة عسكرية كبيرة، حتى بعد الضربات التي تكبّدها في الحرب. لقد قرر الحزب خفض رأسه وعدم الرد على هجمات إسرائيل، على أمل أن يعيد ترميم قوته العسكرية، شيئاً فشيئاً. لكنه مصرّ على الاحتفاظ بالسلاح الذي جمعه، وهو ما زال يحظى بتأييد أبناء الطائفة الشيعية في لبنان، الذين يعتبرونه الممثل لهم والمدافع عنهم في داخل المنظومة اللبنانية. وذلك في غياب أيّ بديل آخر.

لا أحد في لبنان يريد الدخول في مواجهة مع حزب الله، وأن يفرض عليه التخلي عن سلاحه بالقوة... والكلّ يراهن على الوقت، بينما لا يجري شيء على الأرض، باستثناء الضربات التي توجّهها  إسرائيل إلى حزب الله من خلال هجمات محدودة ومركّزة في كلّ مرة تلحظ نشاطاً عسكرياً لعناصره. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحزب لم يسحب مقاتليه من الجنوب اللبناني، ولم يسلّم سلاحه للجيش اللبناني.

انطلاقاً من ذلك، لا مجال لأن نتوهم، أو نحلم بسلام، أو بتطبيع بين إسرائيل ولبنان. ليس لأنه لا يوجد كثيرون يريدون ذلك في لبنان، بل لأن هذا البلد لا يزال ضعيفاً ومتضعضعاً، ويتخوف من اتخاذ قرارات صعبة، وغير مستعد لمواجهة حزب الله الذي لا يزال، على الرغم من ضعفه، يفرض ظلّه على الدولة ومؤسساتها.

يوضح الأميركيون أنه لن يحدث شيء في لبنان، لا إعادة إعمار، ولا وقف العمليات الإسرائيلية، إذا لم تنزع الحكومة سلاح حزب الله. لكن من الصعب معرفة إلى متى سيواصل الأميركيون ضغطهم على لبنان. بالإضافة إلى ذلك، يأمل الأميركيون بتوسيع  لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، لتشمل دبلوماسيين يعالجون مسائل أُخرى، مثل ترسيم الحدود البرية بين الدولتين، الأمر الذي، في رأيهم، سيحلّ كلّ الخلافات بين الدولتين، ويسمح بالتقدم نحو السلام.

مع ذلك، يوضح الجانب اللبناني أنه حتى لو جرى حلّ الخلافات المطروحة على جدول الأعمال الآن، وفي طليعتها مستقبل بلدة الغجر ومزارع شبعا، فإن هذا لن يؤدي إلى التطبيع والسلام، وبسبب ضُعف لبنان، الذي لا يستطيع التحرك إلّا كجزء من تحرّك عربي شامل من أجل الدفع بسلام عربي- إسرائيلي، وليس بصورة منفردة.

وهكذا، عدنا إلى نقطة البداية. التهديد الذي كان يشكله حزب الله ضعُف، لكن من الخطا الافتراض أنه زال تماماً، والحزب سيحاول رفع رأسه في أقرب فرصة، ويجب أن نكون مستعدين لذلك. لبنان لن يكون آخر دولة تعقد السلام معنا، لكنه لن يكون الدولة الأولى لأنه لا يزال دولة ضعيفة، وليس لديه القوة التي يمكن أن تدفعه إلى مثل هذه الخطوة إزاء إسرائيل. وهو سيضطر إلى انتظار دولة عربية أُخرى، وخصوصاً السعودية، لقيادة مثل هذه الخطوة الجريئة.

جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023