أولاً: بين يدي الحديث:
إلى ما قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت تحكم العلاقة بين قوى المقاومة في فلسطين المحتلة وجوارها، خاصة مع المقاومة الإسلامية في لبنان"حزب الله"، كانت تحكم علاقتهم بالعدو الصهيوني معادلة، (ردع)، أو على الأقل كان بعض المراقبين ــــ وكاتب هذه السطور منهم ـــ يعتقد هذه العقيدة، والتي كانوا يرون أنها هي المانع الرئيسي الذي يمنع كلا طرفي الصراع من الدخول في حروب استئصال بمعادلات صفرية، إلى أن جاء طوفان الأقصى، فقضى على ما كان في الأذهان. فخرج العدو لحرب أسماها وجودية، وحرب (استقلال) ثانية، لم يدع قانوناً، أو عرفاً يحكم النزاعات والحروب إلّا وخرقه في حربه هذه. الأمر الذي سقطت معه جميع معادلات الصراع مع هذا العدو، فلا رعبٌ، ولا ردعٌ، ولا حقوف بشر، ولا حماية لمدنيين في أرض المعارك، داسها العدو كلها تحت قدميه، مؤيَداً بمؤيدين ظاهرين، وعلى رأسهم وليّ نعمته الأمريكي، وآخرين مخفيين، العربان فيهم أكثر من العجمان. وأمام هذا الموقف الذي ما زال خارجاً عن السيطرة منذ ما يقارب السنتين، يقفز إلى الذهن السؤال الذي ستحاول هذه الورقة الإجابة عنه ألا وهو: كيف يمكن أن يعاد بناء معادلة ردع، تلزم هذا العدو حده، وتُمكّن أعداءه، من دول ومنظمات وحركات، من أخذ نَفس راحة، لمراجعة الموقف، وترميم ما تضرر، وبناء ما تدمر؟
لكن قبل الخوض في غمار هذا البحث الشائك، سنعيد التعريف بشكل سريع بضرورات الردع ومتطلباته، ثم سنتحدث عن نظرياته، حتى نستطيع (هضم) ما سيقال وسيكتب في هذا الورقة.
أما عن متطلبات الردع ومَلزوماته، فلكي تردع عدواً، لا بد لك أولاً من معرفته بشكل دقيق جداً؛ من بابه إلى محرابه، فكيف تردع كياناً لا تعرفه؟ ومن ثم لا بد لك من امتلاك قرار تشغيل قدرات ذات مصداقية، مثبتة الفاعلية، إن تجرء العدو على تجاوز خطوط حمر رُسمت أمامه، مع إعلامه بشكل مسبق، عبر رسائل غير حمّالة أوجه، من أنه سيواجه برد حاسم حازم قاسم، إن هو تجاوز تلك الخطوط، بحيث يصل ــ العدو ــ إلى قناعة راسخة من أن مغارم ما سيقدم عليه من فعل، أكبر بكثير من مغانمه، فيرعوي، ويرتدع، و(يكف) شره، ويلتزم حده. هذا باختصاص شديد تعرف الردع، مقتضاً، وملزومات.
أما عن نظريات الردع، فهناك ثلاث نظريات للردع، لكل منها متطلباته حتى يستقر، وفي هذا حديث يطول، ولكن سنأتي على تعريف هذه النظريات، كونها كما أسلفنا تساعد في بناء هذه المعادلة، آخذين بعين الاعتبار أن كل نظرية من هذه النظريات، تصلح لنوع من الأعداء والتهديدات، كما يمكن المزج بينها للتعامل مع عدو محدد، إن تطلب الموقف مثل هذا المزج.
تقوم هذه النظرية على فرضية أن الردع يحصل بين الدول المستقلة المستقرة، ذات الهياكل والمؤسسات، والتي تملك أصولاً بشرية ومادية، بحيث تتفاوت هذه الدول في القدرة، شكلاً ومضموناً، لذلك فإن تحصيل المصالح والدفاع عنها مرهونٌ بمهارات التفاوض الدقيقية، حيث يُعد العمل السياسي والدبلوماسي، أساساً في العلاقات بين مثل هذه الدول والوحدات، لذلك تحكم علاقات مثل هذه الواحدات السياسية معادلة ردع، تمنع تجاوز أحدهمها على الآخر.
تعرف هذه النظرية بنظرية " لعبة الدجاجة"، حيث ترتكز هذه النظرية على تفاعل النتائج والتفضيلات والخيارات في تحديد سلوك الصراع بين الدول. ففي " لعبة الدجاجة" التي يساق مثال تقابل مركبتين على مسار واحد، لا يتسع إلّا لمرور واحدة منهما، فيسرع الطرفين وعلى نفس المسار باتجاه بعضهما البعض، ومن ينحرف عن المسار نتيجة للخوف من التصادم، أو إيثاراً للسلامة، يكون هو (الدجاجة) أو الجبان، يساق هذا المثال للشرح هذه النظرية. يدعو أصحاب هذه النظرية إلى التخلي عن الحذر لا التحفظ! وإلى الصلابة لا المرونة! وإلى اللاعقلانية لا العقلانية!
في هذه النظرية، تقوم فرضية الردع على اعتبار أن توازن القدرات شرطاً ضرورياً لإقراره ــ إقرار الردع ــ على الرغم من أن هذا الأمر ليس كافياً لاستقراره؛ إذا يجب أن تكون الحرب مكلفة جداً لكي يسود السلام. وفي هذا السياق يجب أن تتوفر لهذا الأمر ركيزتان: الأولى هي الثانئية القطبية، والثانية إمتلاك الأسلحة النووية، قبل أن تعتبر الحرب غير ممكنة.
هذا باختصار شديد حول نظريات الردع، وكيف يبنى، وما هي متطلبات إقراره، وكيف يمكن أن يحافظ عليه مستقراً.
ثانياً: تعريف العدو ومواصفاته:
وحيث أننا في صدد الحديث عن إعادة بناء معادلة ردع مع العدو الصهيوني، وحيث أننا قلنا قبل أن نتحدث عن ردع أي كائن؛ حقوقياً كان أو حقيقي، يجب أولاً أن نَعرفه ونُعّرفه. وحيث أننا أمام عدو أخطأنا في قراءته مع بداية "طوفان الأقصى"، فعرّفناه بعد الطوفان بما كنا نُعرّفه به قبل الطوفان ــ لا يتحمل خسائر الكبيرة، ولا حرب طويلة، وأنه مردوع، وخلافاته الداخلية تحول دون أخذه قرارات مصيرية، غير مغامر، (يشكمه) الأمريكي، و ... ، ـــ! ولمّا لم تصمد هذه التعاريف أمام الاختبار، كان لزاماً علينا أن نعيد تعريف هذه العدو، ومحاولة استكشاف ما استجد عليه من مواصفات، بعد هذه الحرب وما تخللها من جولات. من هنا نقول أن الحرب كشفت عن سلسلة من الصفات التي استجدت على العدو، أو ظهّرتها الحرب، ومن أهما ما يأتي:
ثالثاً: مسار بناء المعادلة:
إن التعامل مع مثل هذا العدو، لبناء معادلة ردع، تتطلب مجموعة من الخطوات، والمضي في سلسلة من المسارات، على صعيد العدو ومعرفته، وعلى صعيد الذات وبنائها. وفي هذه المسارات كثير من المراحل والخطوات، والتي من أهمها ما يأتي:
رابعاً: الخلاصة:
إن إعادة بناء معادلة ردع لهذا العدو، تتطلب إعادة معرفته وتعريفه، وقبل هذا وبعده معه، التحديد الدقيق للسلوك المطلوب من حركات المقاومة الشعبية مع هذا العدو، وهل يصلح لها ــ لحركات المقاومة ــ من المعادلات، ما يحكم سلوك الدول المستقلة المستقرة؟ فإن كانت الأخيرة تسعى نحو الاستقرار والتنمية المستدامة لشعوب في دول مستقرة، الأمر الذي يتطلب استقراراً تحكمه معادلة ردع مع الأعداء. فهل يصلح للأولى ــ حركات المقاومة ــ وهي الساعية إلى التحرير، هل يصلح لها معادلات ردع مع عدوها؟ توفر له الاستقرار، فيتجذر، وينمو ويزدهر، في الوقت الذي تُختصر فيه مهمة حركات المقاومة بمنع العدو من الاستقرار والزدهار؟ سؤال برسم الإجابة. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.