أولاً: مقدمة وتحرير المفاهيم:
أمرنا ربنا أن نتفكر في سِيَر من سبقنا من الأمم والأقوام، فقال سبحانه في كثير من آيات القران الكريم: انظروا ، تفكروا، وهي مفردات تفيد الأمر بفعل؛ أي تحديد "المهمة"، وهي الركن الأساسي في أي عمل عسكري، فضلاً عن أي نشاط بشري. أما الهدف؛ فغالبا ًما كان يأتي على صورة بشارة خير تعود على الناظر المتفكر المُفكر. ومن أكثر الأمور واجبة التَفكر والتفكير فيها، والنظر في مقدماتها ونتائجها، الحروب والصراعات بين الأمم والشعوب، كيف لا وهي التي تزهق الأرواح والنفوس، التي يأتي حفظها في المرتبة الثانية من الضرورات الخمس التي أمر الدين بحفظها والدفاع عنها. ولمّا كان الأمر كذلك؛ فإن هذه الورقة ستحاول، وبشكل موجز سريع ـــ كون الأمر محل البحث؛ شأنٌ تخصصي ــــ أن تبين المراحل والإجراءات الركنية، التي تعقب العمليات التعبوية، بهدف استخلاص العبر والدروس من المعارك، وصفحات الحرب المختلفة. لكن قبل ذلك، سنبين ما يعنيه مصطلحي: "ركني" و"تعبوي"، كونهما من المصطلحات المفتاحية لفهم ما ستخوض فيه هذه الورقة التأصيلية.
العمل العسكري في ذاته عبارة عن أعمال ركنية، وأخرى تعبوية؛ أما فيما يخص المفهوم الأول، فيقصد به كل الإجراءات التي يقوم بها الأركان ــ ركن القوى البشرية، ركن الاستخبارات، ركن العمليات، ركن الدعم اللوجستي ــ، وقادة الصنوف ـــ البرية، الجوية، البحرية، السيبرانية ـــومعاونيهم فيما يخص تحليل المواقف، واستخلاص المهام، ووضع تقديرات المواقف المعلوماتية والعملياتية، وهي سلسلة طويلة من الإجراءات التي تتم في غرف العمليات والوضعيات، وعلى الخرائط والصور الجوية، قبل أن ترسل هذه الإجراءات إلى قادة التشيكلات والوحدات العسكرية، على صورة أوامر( إفعل/ لا تفعل) عمليات، لتنفيذ ما جاء في هذه الخطط والتوجيهات من تدابير وإجراءات.
أما فيما يخص الأعمال التعبوية فيقصد بها: جميع الإجراءات التنفيذية الميدانية، التي تتم في سياق تنفيذ ما جاء في خطط العمليات من أوامر وتوجيهات؛ بصرف النظر عن المستوى الذي تتم فيه هذه الإجراءات، أكان مستوىً استراتيجي أو عملياتي أو تكتيكي.
ثانياً: الإجراءات الركنية:
تختبر الدول والقيادات العسكرية جيوشها وما تحت إمرتها من تشكيلات ووحدات، عبر مجموعة من الإجراءات والتمارين، أو ما يعرف بالمناورات العسكرية، بنوعيها؛ الركني والتعبوي، والتي تجرى بشكل دوري. لكن ما يمثل المختبر الحقيقي للقوات، والذي يعطيها علامة النجاح أو الفشل، إنما هي الحرب الحقيقية التي يختلط فيها غبار الميادين، ببارود المدافع، ولا يُطلِق فيها الجندي النار على أهداف وهمية، مطمئناً أنها لن تبادله النار بالنار. لذلك فإن قادة الجيوش، ومتصدي أمرها، يبادرون إلى ما يعرف بــ "إعادة التنظيم على الهدف" وهو ما يمثل عملية مراجعة لإجراء تعبوي ميداني انتهى للتو، فيستخلصون منه العبر والدروس، قبل أن يستأنفوا عملياتهم المستقبلية وفق جداول العمليات الزمنية. كما أنهم ــ القادة ــ يعقدون المؤتمرات وورش العمل التخصصية لمراجعة الحرب التي خرجوا منها؛ منتصرين أو مهزومين، أو في حالة تعادل ما بين نصر وهزيمة، حيث تتم المرجعة لاستخلاص العبر عبر طرح سلسلة من الأسئلة، ومراجعة مجموعة من الإجراءات، من أهمها:
هذه بعض أهم الإجراءات التي يقوم بها القادة عند مراجعة عملياتهم القتالية، حيث يطول الشرح والتوضيح في هذا الأمر، الذي يختلط فيها ما هو ميداني(تعبوي)، بما هو مكتبي ورقي(ركني).
ثالثاً: مسؤولية هذه الإجراءات:
تقع مسؤولية مراجعة هذه الإجراءات على عاتق قيادة القوات ــ نظامية أو مقاومة شعبية مسلحة ـــ وأركان الحرب الأربعة ــ ركن العديد والقوى البشرية، ركن المعلومات، ركن العمليات، ركن اللوجست والشؤون الإدارية ــ وقادة الصنوف القتالية ــ البرية، الجوية، البحرية، السيبرانية ــ، وبمشاركة أصحاب الاختصاصات الأخرى التي شاركت في العمليات العسكرية، تخطيطاً أو تنفيذاً. كما لا يُستبعد المستوى السياسي، ممثلاً بوزارة الدفاع أو من ينوب عنها من المشاركة في جلسات التقييم والمراجعة هذه.
رابعاً: الخلاصة:
تُشكل عمليات المراجعة التي تقوم بها وحدات المناورة التكتيكية اللبنة الأساسية، والــ(مدماك) الرئيسي الذي تبنى عليه المراجعات الكلية، التي تقوم بها القوات المسلحة؛ النظامية وغير النظامية، لاستخلاص العبر والدروس من الحروب التي تخوضها الدول، لذلك فإن إيلاء العامل البشري الأهمية المطلوبة من حيث الانتخاب والتأهيل لمتلاك العلوم والمعارف والخبرات، يشكل مفصلاً مهماً من مفاصل بناء القوات المسلحة، والقدرات العسكرية، فإن نجحت الوحدات الصغيرة في استخلاص العبر من معاركها التكتيكية؛ فإن المستوى العملياتي سوف يكون أقدر على فهم الصورة في مستواه الإجرائي، الأمر الذي سيشكل عاملاً حاسماً، في بناء صورة عكسية ـــ على نمط الهندسة العكسية ــــ التي سيرسمها المستوى الاستراتيجي للحرب لستخلاص الدروس والعبر من صفحاتها ومراحلها.
إن مسار المراجعة هذا، ليس قالباً غير قابل للتغيير أو التطوير، وإنما هو نموذج يستأنس به، بحيث يمكن أن يزاد عليه أو ينقص منه، للوصول إلى أفضل صورة تتمكن فيها قيادة الدولة، أو المقاومة، عبر قيادتها العسكرية، وأركانها التخصصية، من وضع ملامح مسار إعادة الترميم، وسد الثغرات، وتقوية نقاط الضعف الذي بدت عبر العمليات، في سياق تحقيق الأهداف والغايات. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.