بقلم آنا برِسكي
منذ اللحظة الأولى كان الأمر مكتوبًا على الجدار: هذه الهدنة لم تولد من “حسن نية” بل من إرهاق الميدان.
فهي غير مريحة لإسرائيل، التي تنظر إلى غزة كجرح لم يلتئم بعد؛
ولا هي مريحة لحماس، التي تُجبر على تفسير كيف تحوّل “النصر التاريخي” إلى وقف إطلاق نار ومحادثات مع وسطاء.
لكن الأهم من ذلك – أنها هدنة بلا ثقة؛ فرضت من فوق، تحت إشراف مباشر من واشنطن، وبمرافقة تركيا وقطر ومصر،
التي تبتسم في العلن وتُصفّي حساباتها في الخفاء.
بالنسبة للأميركيين، هذه الهدنة تمثل محطة انتقالية في “خطة ترامب” –
فيلم وثائقي جديد يؤلفونه للشرق الأوسط: المرحلة الأولى أنجزت،
والآن يسعون للحفاظ على السيناريو من الانهيار قبل مشاهد التصوير التالية.
لكن حتى في واشنطن باتوا يدركون:
الممثلون الرئيسيون لا يشترون القصة.
حماس تحاول البقاء على الخريطة، وتختبر حدود الاتفاق لترى إلى أي مدى يمكنها التمدد،
بينما تحاول إسرائيل الإمساك بالإطار العام في وجه هذه الخروقات.
رهائن، أكاذيب، وضغوط متصاعدة
المثال الأبرز هو لعبة الأعصاب حول تسليم جثث الأسرى.
حماس تعد، ثم تؤجل، ثم تبرر بـ“صعوبات لوجستية”،
بينما في القدس يسمّون ذلك باسمه الحقيقي: كذب وتعذيب نفسي.
كل يوم تأخير يضيف ضغطًا أمنيًا وسياسيًا وشعبيًا،
وكل ضغط كهذا يضعف قاعدة التفاهم.
وعندما يُمسّ العصب الإسرائيلي الأكثر حساسية – مصير الأسرى – تبدأ الهدنة بالتصدّع.
واشنطن تضبط الإيقاع
الولايات المتحدة تحاول تثبيت الهدوء عبر المسار الجوي:
نائب الرئيس مايك فانس، يليه وزير الخارجية ماركو روبيو،
وفي الوسط الثنائي الدائم ويتكوف – كوشنر.
هبوطات، إحاطات، تصريحات – وتكرار للرسالة ذاتها:
“لن نسمح لا لنتنياهو ولا لحماس بنسف الصفقة.”
هذه ليست “هدنة إسرائيلية” بل صيغة أميركية بحراس بوابة.
لكن حتى هؤلاء الحراس يعملون دون بنية تحتية حقيقية:
لا آلية رقابة فعالة على الأرض،
ولا قوة دولية منتشرة،
ولا “كتيّب قواعد” يحدد الخطوط الحمراء.
النتيجة: وضع رمادي بين الحرب والسلام – قابل للانزلاق في أي لحظة.
نتنياهو بين المطرقة والسندان
على الجانب الإسرائيلي، يقف بنيامين نتنياهو عالقًا بين ترامب وشركائه اليمينيين المتطرفين.
الأول يطالب بالاستقرار للمضي إلى المرحلة التالية؛
أما الآخرون فيبحثون – ويجدون – ذريعة لإعادة إشعال النار.
ترامب استخدم العصا بوضوح:
“إذا واصلت حماس التصرف بسوء، سنستخدم قوة هائلة لإعادتها إلى الخط.”
لكن بين السطور كانت هناك أيضًا تحذير لنتنياهو:
“لا تحاول التملص من الإطار الذي رسمناه.”
أزمة الدوحة وتوبيخ أمريكي علني
ثم جاءت قضية الدوحة.
في مقابلة مع شبكة CBS، قدّم ويتكوف وكوشنر الرواية الأميركية:
لم تكن “خطوة عبقرية”، بل تحركًا أضر بالمصالح الأميركية.
ترامب، كما وصفا، شعر بأنه خُدع واستنتج أن الحكومة في القدس
“بدأت تخرج عن السيطرة.”
لم يعد هذا خلافًا تكتيكيًا، بل تقييم مقلق من الراعي الأساسي.
إلى ذلك أضيفت حادثة الكنيست:
تصويت أولي على فرض السيادة الإسرائيلية على مناطق الضفة الغربية –
في نفس وقت زيارة نائب الرئيس فانس.
كانت الخطوة رمزية سياسية، لكن توقيتها كارثي.
قال فانس بوضوح:
“مناورة سياسية غبية بشكل خاص.”
ومحاولات التبرير من القدس – بأن الائتلاف قام بخدعة تكتيكية –
لم تُخفف الإحراج.
ثم جاء المسمار من موقف الرئيس:
“إسرائيل لن تقوم بأي خطوة في الضفة الغربية.”
الترجمة الفورية:
“هناك حدود، ونحن نرسمها.”
هدنة خوف لا قناعة
النتيجة: واقع غريب.
إسرائيل تحت رقابة صارمة ولكن ودّية من واشنطن،
حماس تحت رعاية تركية–قطرية،
مصر تتوسط على الخط،
ووقف إطلاق النار قائم لأن الجميع يخافون من البديل، لا لأنهم يؤمنون به.
لا يوجد “أب” للاتفاق – بل أوصياء متوترون.
أزمة الثقة بعد 7 أكتوبر
فوق كل ذلك تلوح مسألة الثقة.
المجتمع الإسرائيلي ما زال يتعافى من صدمة 7 أكتوبر
ومن الإحساس بأن العقد غير المكتوب بين الدولة ومواطنيها – ألا يُترك الجنود والمدنيون في الأسر – قد كُسر.
صحيح أن عودة جميع الأسرى الأحياء ومعظم الجثامين كانت لحظة ارتياح،
لكنها لم تكن لحظة شفاء.
كثيرون يعتقدون أنه لولا ضغط ترامب والوسطاء، لما حدث ذلك أصلًا.
هذا الفارق بين الشعب وقيادته لم يُغلق بالهدنة، بل تأجل فقط.
الاختبار القادم: “المرحلة ب” من خطة ترامب
الامتحان الحقيقي لا يزال أمامنا:
التقدم نحو المرحلة الثانية – نزع سلاح غزة، نشر قوة دولية، انسحابات كاملة –
وكل بند من هذه البنود لغم سياسي وأمني بحد ذاته.
هنا ستُختبر قدرة واشنطن على إبقاء الإسرائيليين تحت السيطرة،
وقدرة القدس على ضبط نفسها والموازنة بين التبعية والاستقلال.