الأمة صاحبة تراث (مسيرة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى)، الصين أخالها قد قطعت بلا ريب خطوات وليس خطوة في مسيرة الألف ميل التي بدأتها نحو قمة الهرم العالمي، ومن يمتلك مثل هذا التراث فهو قطعًا ذو نفس طويل ولن يَمل أو يَكل في حث الخطى نحو إحراز هدفه البعيد، ولن يتردد البتة في فكفكت أي عقدة قد تعترض طريقه أو سحق أي جهة تحاول عرقلته وفرملة اندفاعه، لا يختلف الخبراء في أن غاية المشروع الصيني الاستراتيجي العالمي (الطريق والحزام) هو تحقيق الهيمنة على العالم وتحل محل الإمبراطورية الأمريكية الآخذة بالأصول، صحيح أن مشروع (الطريق والحزام) ظاهرة اقتصادية تنموية متمثلًا في تعبيد شوارع اوتوسترادية وبناء سكك حديدية تتعقب طريق الحرير التاريخي من الشمال وبناء أو استئجار موانئ على شواطئ البحار والمحيطات من الجنوب بحيث تلتقي نهايات تينك المسارين الطريق والحزام من الشمال والجنوب في أوروبا وأمريكا، بيد أن المُلفت في هذا المشروع العملاق كونه مشروعًا ذا استخدامين ظاهري وباطني، الظاهري منه مدني وتجاري وتنموي، أما الباطني له إستخدامه العسكري إذ أنه يمكن تحويله بسهولة ويسرًا بأن يصبح جاهز للاستخدام العسكري من فور اتخاذ القيادة الصينية قرارًا بذلك، وثمة معلومات تفيد أن بعضها قد تم تحويلها فعلًا للإستخدامات العسكرية أي أنها طرق وسكك حديدية وموانئ بحرية لنقل البضائع والأشخاص في حالات السلم غير أنها تشكل رأس جسر الجحافل والجيوش الصينية في حالات الحرب، وهنا يكمن الرعب الأمريكي منه، وثمة بعض المناطق في العالم تحتل مكانة حيوية ومركزية في هذا المشروع ومن بينها وهي التي تعنينا هنا منطقة الشرق الأوسط نظرً لأن نصف احتياجات الصناعة الصينية من النفط يأتيها من الشرق الأوسط أو عبره من خلال قناه السويس والكثير من المواد الخام التي تلبي احتياجاتها في الصناعات التقليدية العملاقة والصناعات التكنولوجية المتقدمة تمر عبر مضائقه أيضا، ناهيك عن كون الشرق الأوسط يشكل سوقًا ضخمًا للبضائع الصينية وبما أن الصين في حالة تنافس مع الولايات المتحدة على زعامة العالم فإنها لا محالة ستسعى إلى استقطاب حلفاء لها في منطقتنا كرواسب لها في إطار مساعيها لبناء الهيمنة وتكريسها ولممارسة الضغوط من خلالها على من يعرقل صعودها أو لمناكفة سياسات أمريكا وحلفائها في المنطقة تمامًا كما كان الحال بين الاتحاد السوفيتي سابقًا والولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن الماضي.
لذا نرى أنه من الحصافة السياسية أن تبدأ المقاومة الفلسطينية في تلمس طريقها بحكمة وسريَّة بدايةً ثم لاحقًا علانيةً لخوض قلب الأم الصينية وقيادتها عن طريق إبراز مشترك بين الشعبين من حيث كونهما شعبين يجمعهما الإرث النضالي لأجل الحرية والإستقلال ومقاومة الأجنبي المستعمر والعلاقات التاريخية التي تربط بين الشعبين منذ أواخر الستينيات ولاسيما بين الثورة الفلسطينية والقيادة الصينية الثورية واستعداد الشعب الفلسطيني بأن يشكل نموذجًا للعلاقات الثنائية الصينية الفلسطينية مميزًا وملهمًا لباقي شعوب المنطقة ودولها، "إسرائيل" مثلًا أدركت بحسها العميق منذ زمن طويل سيرورة الصعود الصيني باتجاه القمة وهذا ما يفسر محاولاته الناجحة في مد جسور التعاون معها وبناء علاقات ثنائية مفتوحة للتطور، وبالرغم من علاقات الصين الطيبة والقوية مع العرب وانحيازها إلى اليوم مع حقوق الشعب الفلسطيني إلا أنها قد قبلت هذه العلاقة مع "إسرائيل" نظرًا لما لدى الأخيرة لما تقدمه لها من قدرات تكنولوجية أو مفاتيح بعض التطور التكنولوجي في كلا المجالين المدني والعسكري، غير أن نقطة الضعف في هذه العلاقة وكون "إسرائيل" موجودة في علاقة تحالف لا تنفصم مع الولايات المتحدة وهي بلا شك محسوبة قطعًا لصالح الولايات المتحدة في أي مواجهة قد تنشب مستقبلًا بين الصين وأمريكا، وزيارات وزير الخارجية الأمريكي بومبيو إلى "إسرائيل" في الآونة الأخيرة كانت مساحتها الأكثر توجه للجم هذه العلاقة التعاونية المتنامية بين البلدين الصين و"إسرائيل".
من هذا المنطلق تكمن أهمية المقاومة الفلسطينية مستقبلًا للجمهورية الصينية ومشروعها في الشرق الأوسط، وستتعاظم هذه الأهمية مع تعاظم انحياز "إسرائيل" الصارخ والواضح لصالح أمريكا ضد الصين، وأصلًا لا خيار أمام "إسرائيل" سوى انحيازها لأمريكا. لذا من صالح المقاومة أن تتوسع هذه الشق بين "إسرائيل" والصين.
والسؤال الذي يعنينا هو ماذا ستكسب المقاومة من علاقاتها مع الصين؟
الأرباح التي ستحصدها المقاومة مع علاقاتها مع الصين كثيرة من أهمها ما يلي:
1. غطاء سياسي في مجلس الأمن بسبب حق الفيتو.
2. مهارات وخبرات عسكرية عبر تدريب عناصرها من المقاومة على الأراضي الصينية.
3. معدات ووسائل التكنولوجيا العسكرية.
4. دعم مالي للمقاومة ومساعدات الشعب الفلسطيني، هذا فضلًا عن التعاون الثقافي بما يتمثل به الإنسان الصيني من قيم عملية فعالة في التنظيم والمثابرة والكدح والإبداع والحرص على التميز والتفوق.
5. فرض علاقات دولة كبرى وصاعدة نحو قمة الهرم العالمي هو عين الحصافة السياسية وحسبنا أن نذكر العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين الحركة الصهيونية وبريطانيا العظمى في بداية القرن الماضي عندما كانت تتمتع الأخيرة بالصدارة العالمية إلى أن استشعرت أن الولايات المتحدة تسير بسرعهً نحو الصدارة العالمية بدل بريطانيا فقررت في مؤتمر بلتيمور في ثلاثينيات القرن الماضي بنقل مركز ثُقلها من لندن إلى الولايات المتحدة، وبدء محاولاتها في نسج علاقة استراتيجية معها، وفعلًا تُوجت هذه المحاولات بإبرام اتفاق استراتيجي بين البلدين بين ليفي أشكول والرئيس الأمريكي نيكسون، *ومن الأمور التي ينص عليها الاتفاق:
1. أن تضمن أمريكا لـ"إسرائيل" تسوقها النوعي العسكري في الشرق الأوسط كله.
2. ألا يتم عرض أي اتفاق مصالحة مع أي طرف عربي قبل موافقة "إسرائيل" عليها.
3. يحق لـ"إسرائيل" أن تبدي اعتراضها على أي صفقة سلاح دفاع لأي دولة عربية تشعر "إسرائيل" أنها قد تُقل بتفوقها على قدرات المنطقة كافة.
الصين قد تشكل للمقاومة الفلسطينية عمقًا استراتيجياٍ علميًا وتكنولوجيًا وسياسيًا وعسكريًا.
يقول الشاعر عنترة:
واختر لنفسك منزلًا تعلو به
أو مت كريمًا تحت ظل القسطلي