التوبة الجماعية
بين علنية النقد وسرية النصيحة
وليد خالد
لعل من معاني قوله سبحانه: "وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" [ النور:31]، إشارة إلى توبة جماعية تمارسها الأمة بمجموعها، وإذا إتفقنا أن مفهوم التوبة أشمل من مجرد العلاقة الخاصة بين العبد وربه، بل هي شاملة لكل مناحي الحياة، ففي السياسة والاقتصاد والحكم والإدارة أخطاء تستدعي التوبة (وقفةً مع الذات، فمحاسبةً، فملاحظةَ حسنةٍ يكون حمد الله عليها بمراكمتها والبناء عليها وتطويرها، واكتشافَ خطأ وخلل يكون الاستغفار منه- بعد الندم عليه- بتصحيحه بحسنة من مثل جنسه تمحوه، فذنب الرسوب تمحوه حسنة النجاح، وذنب الهزيمة تمحوه حسنة النصر وهكذا).
وسيركز هذا المقال على ما يخص جانب الأفراد والعناصر من ممارسة التوبة الجماعية، ولكن لأن "الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" [البقرة:222]، فلا بأس من المرور سريعًا على دور قيادة تفرض عليها أمانة المسؤولية ممارسة هذه التوبة الجماعية، وذلك: بـ:
1/ رفع مستوى العناصر وتربيتهم على الإيجابية وأهمية التواصي بالحق والصبر، وبالتالي الرقابة الدائمة على أداء القيادة.
2/ ويتبع ذلك أن تكون هناك هيكليات تنظيمية تضم هيئات رقابية فاعلة ولها صلاحياتها الكبيرة.
3/ إيجاد وسائل مناسبة تسمح بوصول هذا النصح والتواصي بالحق والصبر إلى القيادة، وحسن التعامل معه بالدراسة والمتابعة.
أما فيما يخص العناصر، أو الناصحين (الناقدين)، فهناك جملة من النصائح واللوازم والضوابط لا بد من التذكير بها؛ حتى نكون من التوابين المتطهرين الذين يحبهم الله ويرضى عنهم.
ويمكن إجمال ذلك في الملاحظات الآتية:
1/ النية: فاحرص يا أخي الناصح (الناقد) قبل النصح وأثناءه وبعده على نيتك، واحذر مزالق الشيطان ومداخله، وحظوظ النفس ومسارب إعوجاجها، وراقب قلبك أن ينفذ إليه شيء من طلب مدح الناس (القيادة إن كنت تدافع عن خياراتهم فتتخيل الحظوة والمكانة والمكافأة المعنوية أو المادية عوضًا عن موقفك، أو جمهور الدعاة أن يقال: جريء ولا يخشى في الله لومة لائم إن كنت ناقدًا لقيادتك) وفي كلتا الحالتين الله الله في نيتك وقلبك وقصدك، فإن دخول شيء من الدنيا لهذه (التوبة الجماعية) يفسدها ويذهب بركتها فلا تؤتي أكلها المنشود من التغيير المطلوب، فضلًا عن حبوط العمل وأجره.
ولعل الإخوة المجربين من التربويين والتنظيميين يوافقونني الرأي أن مسألة النية أمر غير هيّن، وبحاجة إلى جهاد نفس، ومغالبة هوى، والله سبحانه هو المطلع العليم "ألم يعلم بأن الله يرى" [ العلق:14].
2/ الأسلوب: في لغتنا الجميلة التي اختارها الله عز وجل وعاء لحمل كلامه للناس وحيًا خاتمًا، فيها من جمال الأسلوب، وإتساع الألفاظ ما ييسر على كل ناصح (ناقد) أن يركب أفضل مراكب العبارات يعبر بها نحو هدفه في إيصال رأيه وإحداث التغيير المنشود به.
والحركة شخصية اعتبارية، وقادتها بشر ولهم نفوس ورغائب، والهدف إقناعهم بالرأي لا تعداد خطئهم وإظهار البطولة والجرأة باكتشافه ثم الجهر به، وإنه لثقيل على النفس مهما بلغت درجة تزكيتها أن تسمع النقد تلو النقد خاصة إن كان جارحًا، فضلًا عن تقبله، وبما أن الكمال لله عز وجل وحده، والنقص سمة البشر، وبالتالي فإن الخطأ صنو مسيرتهم وحركتهم قولًا وعملًا، فماذا لو وضعنا الأخ الناصح تحت مجهر النقد ثم بدأنا بسرد أخطائه واحدًا تلو الآخر، فهل يحتمل ذلك حتى لو كان كل ما ذكرناه صحيحًا؟ وهل ستدفعه هذه الطريقة الذكية في النصح إلى التغيير؟ أم أنها ستؤدي لردة فعل، تدفعه لحشد حجج مقاومته للدفاع عن شخصه بحيث يضيع هدف التغيير المنشود بين الرد والتفنيد، ألم يكن الأولى بالناصح وقد رأى هذه الأخطاء العشرة أن يختار واحدًا أو إثنين أو ثلاثة، هي الأهم والأخطر والأولى، ويغضي عن البقية إلى حين، ثم يختار الوقت المناسب والأسلوب المناسب لعرض نصحه؟ ثم يقدمه بأسلوب يجعل النفس أقرب إلى دراسته وتقبله؟ وإن كان يحلو للبعض أن يشيد بموقف الأعرابي الذي أراد تقويم إعوجاج عمر بسيفه إن وجده -وهي غير صحيحة-، غير أنها لو صحت، أفنترك الهدي القرآني النبوي في الرفق في النصيحة، والحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اقتداءً بجلافة أعرابي لم يعرف في بيئته إلا القسوة والفظاظة؟ والسؤال الذي يجب أن يظل ملاحقًا للأخ الناصح مع كل حرف من حروف نصحه: هل المطلوب إظهار جرأتي وأني أقول الحق الذي أراه دون أي اعتبار، أم أني إنما أريد بهذا النصح إحداث التغيير المطلوب والمأمول في حركتي التي أحب أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، ووفاء لبيعة في عنقي تجاهها؟ وإنه شتان شتان بين الروحين والنفَسين والمنهجين.
3/ بين السرية والعلنية: هل يقاس نقد الحركة ونصحها على الشأن الفردي الذي تكون فيه النصيحة فيه سرية، فإن خرجت للعلن صارت فضيحة؟! في الحقيقة يصعب مثل هذا القياس -والله أعلم-، ذلك أن عمل الحركة الأساس هو الشأن العام، فعملهم اليومي مرتبط بهموم الناس، وعليه فإن اشتراط النصح السري في شؤون كله عامة على مدار الساعة يحجّر واسعًا، فضلًا عن أن الهدي النبوي الراشدي يخبرنا أن كثيرًا من مراجعة القيادة في القرارات كان يتم على مسمع الحاضرين.
وفي نظري ليست السرية والعلنية هي العامل الذي يجب أن يراعى، بل الضابط الذي يجب أن يكون أمام الأخ الناصح (والظن بالقيادة أنها تثق بوعي أبنائها وحرصهم وتحملهم لمسؤولية الكلمة وأمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، الضابط هو الإجابة على السؤال المركزي: ما هي الوسيلة الأمثل التي يمكن لما أراه صوابًا من رأي أحب لحركتي أن تتمثله، أو ما أراه من خطأ لا أرضى أن ترتكبه، فما هي الوسيلة الأمثل كي يصل صوتي ونصحي للقيادة فأقنعهم به فيتقبلوه فيغيروا بناء عليه؟ فإن رأيت أن المساررة هي الأمثل لم ألجأ لسواها أبدًا مهما كانت المغريات، وإن رأيت تعميم الرأي على مستوى أوسع من الكوادر وأصحاب الرأي داخل الحركة لأحدث رأيًا عامًا فيها فعلت ولم أتجاوز ذلك لسواه، وهكذا.
فعلى سبيل المثال: أتفهم أن ينشر أحد أبناء الحركة أو كوادرها رأيًا في مواقع التواصل الاجتماعي (بمعنى يطلع عليه الصديق والعدو، والقريب والبعيد)، رأيًا يتعلق بقرار علني أو سياسة علنية للحركة رآها غير مناسبة (المصالحة، الانتخابات، الموقف من دولة معينة...الخ)، بالنسبة لي كل ذلك مفهوم ومقبول، حتى لو كانت الطرق السرية لإيصال رأيه لقيادته متاحة أمامه فلا يمكنني إنكار ذلك عليه، لكن ما الداعي لنشر مقال عام في مواقع عامة أو في مواقع التواصل الاجتماعي حول طريقة الانتخابات التنظيمية الداخلية وآلياتها على سبيل المثال؟ ما علاقة غير جمهور الحركة بهذه المسألة؟ وما مقدار تفهمهم لها؟ وإذا أراد الأخ الناصح إحداث رأي عام داخل الحركة غير مكتفٍ بما ناصح به القيادة، فهناك المنصات الخاصة التي هي حكر على كوادر الحركة وأبنائها، وهي تضم مئات الكوادر وأصحاب الرأي والقرار في مختلف المواقع، فيكفي نشر هذه الآراء الخاصة بالشأن التنظيمي فيها، ذلك أن رأي الحركة أو موقفها العام واضح أو يمكن أن يوضحه أو تدافع عنه قياداتها وناطقوها فيما يخص الشأن العام، فهناك تكافؤ في الفرص فيرى الناس رأيك مقابل رأي الحركة، لكن في قضية كالانتخابات التنظيمية وآلياتها فهذا شأن لا تناقشه الحركة في العلن، فلا يؤدي الرأي الناقد لبعض آلياتها والمنشور على مواقع التواصل إلا للتشويش والإرباك، وهو أبعد ما يكون عن إحداث التغيير المنشود.
ومرةً أخرى يا أخي الناصح، تحرر من صخب الإعلام وأضوائه، وتخلص من سلبيات الفكر الديمقراطي التي لا تنسجم مع سمتنا الإسلامي ونهجنا الأخوي، وضع نصب عينك -بعد تصحيح النية- أنك طالب للتغيير فلا تكتف بالحسن وهناك الأحسن، فلئن كانت الموعظة يكفيها أن تكون حسنة فإن القرآن دعانا للجدال بالتي هي أحسن ذلك أن هناك شدًا وبوادر حرب بالرأي فاختر له الأحسن ولا تكتف بالحسن، ومثل ذلك النصح يلزمه الأحسن لا الحسن.
4/ الرأي اجتهاد: وإذا كنا نقول أن رأي الحركة اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ إذ لا عصمة إلا لقيادة الرسل، فإن رأيك أيها الأخ الناصح -مهما كنت مقتنعا به وحشدت له من الأدلة ما حشدت- يظل رأيًا يحتمل الصواب والخطأ أيضًا، وإنه أدعى لتقبله -وأنت لم تقله إلا لكي يقبل، ذلك أنك تظن فيه خير حركتك التي تحب- أن تعرضه بأسلوب الرأي الاجتهادي لا أسلوب الحكم القطعي القاطع، متهمًا نفسك ومعلوماتك ومصادرك، مقدمًا بين يدي أحرفه حسن الظن بقيادتك التي جربتها وتعرف صدقها وبلاءها.
هذا وإن آراء الناس ليست ثابتة، ولقد اشتهر عن عمر الفاروق قوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا، أي أنه تتبدى له مع الأيام أمور لو عاد به الزمن لغيّر بناءً عليها بعض اجتهاداته، وفي أكثر من موقف ألحّ الفاروق على الصديق رضي الله عنهما فلم يقتنع رغم كثرة الإلحاح حتى إذا آل إليه الأمر نفذ اجتهاده (عزل خالد، ومعايير توزيع الأعطيات مثلًا)، فأي الاجتهادين أصوب؟ إذًا هناك سعة في المسائل الاجتهادية ولا قطع فيها.
وما دام الأمر كذلك فإن التغيير في المسائل الاجتهادية –وجلّ شأن الحركة هكذا- يحتاج الصبر، ويحدث بالنقاط والتراكم، لا بالضربة القاضية، فإن علمت ذلك أخي، كان هذا أدعى في أن تحسن عرض نصحك أسلوبًا وزمانًا ومكانًا وتكرارًا، وإن ثقتنا بقيادتنا وبأنفسنا وبدعوتنا التي أكرمنا الله وشرفنا بالانتماء لها ليجعل كاتب هذه السطور مطمئنا أن الحركة بقيادتها الجماعية أسعد ما تكون بآراء ونصائح ونقد أبنائها، وترى في ذلك عونًا ودرعًا، لكنه الأسلوب الأحسن هو الذي يضمن أن تؤتي شجرة النصح أكلها شهدًا حلوًا فيه شفاء للناس.
وأخيرًا: فيا أخي الناصح احذر أن تحيد بوصلة كلماتك عن هدف التغيير الذي تنشد في الحركة التي تحب، فاركب نحو شاطيء التغيير المركب الذي يحميك من أمواج النية المدخولة، ورياح الأسلوب الخاطئ، واعلم أنها خيرية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لا أضواء مواقع التواصل البراقة، وربح (التواصي بالحق والصبر) لا مديح القرّاء أن يقال جريء، ولا ثناء القيادة أن يُقال مطيع.
ولكنها الحروف والكلمات، وقبلها القلوب والنيات مكشوفة عند الذي"يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" [ غافر:19]