عن القائد!!

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

عن القائد!!

1/5

قيل أن نابليون بونابرت كان يقول: ليس مهماً الرجال، بل المهم الرجل! عانياً بذلك القائد -مدنياً كان أو عسكرياً-، بما يمثله من موقعه وما لديه من مواصفات وما يمنحه إياه الموقع من سلطات وصلاحيات، كعامل التحريك الرئيسي لقواته لتقديم أفضل ما لديها في سبيل تحقيق المهمة وإنجاز الواجب الذي يلقى على عاتقها.

 كما قيل وكتب الكثير حول القائد، وهل يولد المولود وفيه سجاياً القيادة ومواصفاتها، أم أن القيادة أمر يُصنع ويغرس ويُعلّم ويُتَعلم لمن يريد أو يراد له أن يقوم بمثل هذا الدور مستقبلاً؟ ولكن إن كان القائد يولد قائداً، والمقود يولد ليكون جندياً، فلِم كل هذا العناء وهذه النفقات التي تنفق على مراكز صناعة القادة وتأهيلهم ورفع سويتهم في الجامعات ومراكز تأهيل القيادات؟ ولماذا توضع برامج التأهيل والتطوير إن كان أمر القيادة، يولد مع الطفل وهو صغير؟ أم أن القيادة تولد صفاتها مع الطفل، فتنمى وتطور، أو تهمش فتقتل؟ جدلية طويلة ما انفك أهل الاختصاص يخوضونها حول فطرية القيادة أو (مصنوعيتها). الأمر الذي يعتقد كاتب هذه السطور أنها -القيادة- تولد مع الطفل كصفات خَلقِية فطرية، فإن تهيئت لها ظروف المكان والزمان والبيئة والفرصة وإمكانيات التطوير، تطورت ونمت، وإن لم تتوفر لها تلك الظروف، فإنها تُقتل وتضمحل مع الأيام وتغدو أثراً بعد عين. إن هذه المقالة تعنى بالحديث عن القائد -مطلق قائد وإن التركيز سيتم على القائد العسكري- الذي يناط به تنفيذ المهام، بغض النظر أكانت تعبوية عسكرية أو إدارية، ركنية أو ميدانية، هذا القائد الذي تُعقد له الراية، وتمنح له الولاية، ويوضع بين يديه مصير العباد والبلاد، ما هي المهام المطلوبٌ منه تنفيذها؟ وما هي المعارف التي يجب أن يتحلى بها ليقوم بواجبه على أكمل وجه؟ هذه الورقة تسعى للإجابة على سؤال المهمة المطلوبة من القائد، ليُبحث لها عمن يتصف بصفات تساعده على إنجازها على أكمل وجه. 

ولكن قبل أن نخوض في تعريف القائد والمهام المناطة به، دعونا نتحدث بشكل مختصر عن المستويات القيادية التي تتم فيها هذه العملية، كون التعرف على هذه المستويات يساعد في معرفة حدود المهام المطلوبة من كل مستوى من هذه المستويات. مقدمين بين ذلك تعريف بسيط للعملية القيادة يساعد على تصور الموضوع واكتمال أركانه، فنقول أن القيادة هي عملية منظمة يتم فيها وضع الرؤى والاستراتيجيات وتحديد الأهداف والغايات، ووضع الخطط والإجراءات، وتعبئة وتخصيص الإمكانات والقدرات، وتحديد المهام وتفويض الصلاحيات، ووضع الضوابط والسياسات، ومنح الإذن بالحركة وبدء العمل على كافة المسارات، والسهر على مراقبة حسن الأداء وعدم الانحراف عما تقرر من أهداف وغايات، كنتيجة طبيعية لتلك الرؤى والاستراتيجيات.   

أولا ً: المستويات القيادية: 

إن المستويات القيادية التي تتم فيها العملية القيادة يظن البعض أنها فقط من مهام القيادة التي تَرسم وتَحكم، وأن باقي الأطر والهيئات والهيكليات ما هي إلا منفّذٌ لهذه التعليمات وتلك الأوامر، ويَغفل البعض أن القيادة نقطة مركز تتسرى منها المسؤوليات، أفقياً ورأسياً، فمن وصله خط منها، فهو قائد في مكانه، مفوض بتنفيذ جزء من مهمة القيادة العليا وهو (خليفة) القائد حيث هو، حاز على جزء من صلاحياته، واتصف ببعض صفاته، وهذا أمر ملازم للجميع، من أعلى طبقة تلى القيادة العليا،حتى أسفل طبقة من طبقات العمل، فالموظف أو الجندي في آخر هذه السلسلة، قائد يقود ذاته في تنفيذ مهماته بناء على توجيه رئاساته، هذا من حيث المبدأ أما من حيث التقسيم فإن مستويات القيادة وطبقاتها لا تتعدى أحد الطبقات الثلاث الآتية: 

  1. المستوى الاستراتيجي: إنه المستوى الأول الذي يتم فيه وضع الرؤى وصياغة الاستراتيجيات الكلية للدولة في كل مناحيها، السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و...، إنها المستوى الذي يقال فيه: هذا من نريد لتأمين رفاه شعبنا وكريم العيش لهم، وهذه هي إمكانياتنا وقدراتنا الذاتية، وذاك ما يمكن أن يتم تأمينه من قدرات عند الملمات، وهذه هي الطرق الكلية للوصول إلى الأهداف والغايات العليا، وهذا هو دور كل مؤسسة ومجموعة إدارية وهيكلية من هيكليات الدولة. حاشدة كل الطاقات، موزعة الأدوار والمهمات، ومخصصة القدرات والإمكانيات للسير نحو الهدف الكلي والغاية العليا للشعب والدولة والنظام. 
  2. المستوى التعبوي: في هذا المستوى من القيادة تتم دراسة وتحليل المهمة الكلية المتفق عليها من قبل المستوى الاستراتيجي في الدولة عبر جهات الاختصاص في كل إطار وهيكلية أو إدارة ووزارة، تتم هذه الدراسة وذاك التحليل في لقاءات وجلسات تخصصية يشارك فيها كل دخيل في تنفيذها، والهدف الرئيسي من هذه الجلسات واللقاءات هو الحرص على فهم مهمة المستوى الاستراتيجي وتكوين فهم مشترك لدى جميع الأطر الإدارية والتنفيذية في هذا المستوى والتأكد من أن الجميع يصدرون عن فهم واحد، ثم تأتي الخطوة الأهم بعد التأكد من الفهم ألا وهي: اشتقاق واستنتاج مهمة هذا المستوى القيادي والتي تأتي امتداداً لمهمة المستوى الاستراتيجي الأعلى وفي سياقه، فلا تشذ عنه ولا تجتهد خارج النص أو السياق العام، إنها مرحلة تحويل الأهداف الكلية والرؤيا النظرية إلى أهداف عملية وإجراءات تنفيذية في سياقات كلية تخصصية. ويتوقف حسن الفهم والتطبيق في هذا المستوى من القيادة بشكل رئيسي على حسن فهم واستيعاب المهمة الرئيسية في المستوى الإستراتيجي. 
  3. إن هذا المستوى -التعبوي- هو أخطر مستوى قيادي كونه حلقة الوصل الرئيسية التي تحول الرؤى والنظريات إلى خطط وإجراءات، وهي من ينقل هذا الفهم عبر تلك الخطط والإجراءات إلى المستوى التالي -التكتيكي- المعني بعملية التنفيذ وتحقيق الأهداف، فإن شاب فهم هذه الطبقة شائبة أو اعتور فهمها عوار، فاقرأ على المهمة السلام، ولا تنتظر عند التنفيذ سوى الفشل والدمار.    
  4. المستوى التكتيكي: في هذا المستوى يتم تنفيذ ما اتفق عليه من أهداف جزئية في سياق الأهداف الكلية، والتي -الأهداف الجزئية- بجمعها مع بعضها البعض ورصفها جنباً إلى جنب، نرى الغاية الكلية والهدف الأسمى الذي صيغ في المستوى الاستراتيجي الأعلى، إن هذا المستوى هو عبارة عن خط انتاج مجموعة الأدوات والمكائن التي تنتج المنتج النهائي وتظهره إلى حيز العيان، فتراه شاخصاً أمامك، فتحيله عياناً بعد أن كان فكرة في الأذهان، إن هذا المستوى القيادي هو مسننات وتروس وأحزمة النقل وآلية تحويل الرؤى إلى حقائق مادية تُرى بالعين المجردة وتقاس بأدوات القياس، وحسن المنتج في هذا المستوى يتوقف على حسن فهم المستوى الثاني -التعبوي- للمهمة، وقدرته على استنتاج ما يخص كل إطار من أطر العمل من مهام، ثم القدرة على نقل هذا الفهم بكل وضوح، وبعبارات غير حمالة أوجه إلى هذا المستوى التنفيذي، لذلك فإن مسار البناء الحرج للقيادات يكمن في بناء هذا الصنف وهذا المستوى من القيادة!!

كانت هذه لمحة سريعة فيما يتسع له المقام للحديث في المستويات الثلاث من مستويات القيادة، آخذين بعين الاعتبار أن هذا بحث تفصيليٌ ليس هنا مكان بسطه ولا تناول كل مفرداته ومتطلباته. 

على أن نتناول في الجزء الثاني من هذه السلسلة تعريف القائد والمهام الكلية المناطة بهP لنختم الجزء الثاني من هذه السلسلة بالحديث عن بعض المهام التعبوية المطلوبة من القائد. 

عبد الله أمين 

19 - 08 - 2021





جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023