22 أكتوبر 2024, الثلاثاء 1:40 م
بتوقيت القدس المحتلة
المستجدات
عن القائد 2/5

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني


بقلم الخبير العسكري والأمني:
عبد الله أمين
​​​​​​​

تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن القائد والقيادة ومستوياتها الثلاثة:  الاستراتيجية والتعبوية والتكتيكية، ونتحدث في هذا الجزء عن تعريف القيادة والمهام الكلية المطلوبة منها، ونختم بجزء من المهام التعبوية المطلوبة من القائد، على أن نستكمل باقي مهامه التعبوية في الجزء الثالث من هذه السلسلة. 

ثانياً: في التعريف:

نأتي هنا للحديث عن القائد الذي سيمارس هذه العملية، وهنا لابد من إشارة مهمة وهي أن القائد وإن كان هو الشخص صاحب حق اتخاذ القرار وهو من كان متحملاً مسؤولياته وتبعاته؛ إلا أنه في النظرة الكلية هو ـــ القائد ـــــ عبارة عن مؤسسة وفريق عمل ينضج الرؤى ويحلل المواقف ويقترح الخيارات وطرق العمل والبدائل ثم يضعها بين يدي القائد الفرد ليقرر، وشاورهم(مؤسسة) في الأمر فإذا عزمت ( قائد) فتوكل على الله، وعليه فالقائد هو ذاك الشخص الذي توضع بين يديه كامل الصلاحيات وتوفر له كامل الإمكانيات ــ البشرية والمادية ــــ في سبيل تنفيذ المهمات ضمن المهل الزمنية المتاحة ووفقاً للضوابط والسياسات مرعية الإجراء، وبأقل الخسائر المادية والبشرية، عبر بناء وقيادة فرق العمل والتشكيلات، وتخصيص ما لديه من قدرات وفقاً لما يتطلبه تنفيذ المهمات، وعليه فالقائد في الرؤية الكلية لما هو ينتظر منه يقوم بــــ:   

  1. تحديد المهمة: إن أول ما يطلب من القائد ــ مطلق قائد ــ تحديد المهمة، وهي أول ما هو مطلوب ممن تحت إمرته أو قيادته أو إدارته أن يقوموا به من أعمال، فعليه أن يحدد المهمة الكلية لإطاره الهيكلي التي اشتقها أو استنتجها من المهمة الكلية للطبقة القيادية التي يأتمر بأمرها، وأول سؤال يسأله القائد لنفسه بعد أن يتسلم هذه المهمة وقبل الشروع في تفويض إجراءاتها أو وضع خططها هو: هل هذه المهمة ضمن القدرات التي تقع تحت مسؤولتي أو إمرتي؟ فإن كان الجواب بـــــ "نعم " ينتقل إلى الخطوات التالية في مسار تنفيذ هذه المهمة أو ذاك التكليف، وإن كانت الإجابة " لا " ينظر هل من خطوط مفتوحة بينه بين مستويات أخرى من القيادة تخوله استكمال نواقصه لينجز مهمته، أم أن سقف صلاحياته وموارده هو فقط ما بين يده الآن ولا يرجى في المستقبل من مزيد، وفي مثل هذه الحالةــ خروج المهمة عن قدرات القائد المادية أو الإدارية أو الشخصيةــ فإن مقتضى العقل والدين والعرف يقضي بعدم التصدي للمسؤولية وعدم قبول تحمل هذه الأمانة، وردها لأصحابها، قبل أن ينوء بها كاهله وتسوقه يوم القيامة مكبلاً إلى محشره.    

  2. منح الصلاحيات: إن القائد أو المدير أو المسؤول عندما يتسلم منصبه؛ توضع بين يديه قدرات بشرية ومادية وإدارية، ومن هذه القدرات الإدارية مجموعة الصلاحيات التي تمكنه من إعمال قيادته وممارسة سلطاته على ما بين يديه من قدرات وإمكانات، وهذه الصلاحيات هي جزء من كل؛ فالكل هو تلك الصلاحيات المعطاة للمستوى الأعلى منه، والجزء هو ما يمنح له من صلاحيات مأخوذة من ذاك الكل، وجزؤه هو كلٌ لمن يلونه، لذلك عليه أن يمنح من كله هذا ما يمكّن من يلونه ويأتمرون بأمره من إعمال سلطتهم على من يلونهم وما يوضع بين يديهم من قدرات بشرية ومادية، ويعينهم على تنفيذ مهامهم. 

  3. تخصيص القدرات: في هذه المرحلة من العمل تظهر قدرات القيادة وحنكتها وسعة أفقها، وقبل ذلك وبعده حكمتها في تقدير الموقف ووزن الأمور بشكل صحيح، فما من أحد مطلق القدرات ولا كامل المقدرات، فالكل يعتريه النقص والكل يبحث عن الكمال، وما من أحد إلا ويريد أن يستحوذ على نصيب الأسد من ( كعكة ) القدرات، ماديّها قبل بشريّها، زاعماً أن النجاح يتوقف على فعله هو، وأن الخلل سيقع إن لم يخصص له ما يكفي من هذه الإمكانات، وهنا تَشخَص القيادة الحكيمة لتقول: هذه هو الهدف الكلي، وهذه هي الأدوار والمهام، وذاك هو جدول الأوليات، والمهم هنا والأهم هناك، وهذا هو ما بين يدينا من قدرات وإمكانات الآن، وما يمكن أن يؤمن في القادم من الأيام، وعليه؛ هذا هو السهم والنصيب والقَدر من القدرات البشرية والمادية، موزعة بناء على مناط الأهمية والأولوية  لكل شريك من شركاء هذه المهمة التنفيذية. 

  4. وضع الضوابط والسياسات: ثم تضع القيادة خطوطها الخضر والصفر والحمر التي تساعد على تنفيذ هذه المهمة بأقل الخسائر وأقصر المهل، ولا تترك التنفيذيين دون رقيب أو حسيب، أو دون أن تقول لهم هذا هو معيار الثواب والعقاب، فيرعوي كل متهور، وينضبط كل متفلت، ويكتسب العمل ميزته الأخلاقية، فلا يُنَفر ولا يؤلب ولا يحرض البيئة الحاضنة له، فمن أمن العقاب أساء الأدب.   

كان ذاك مروراً سريعاً على مهام القائد ـــ فريق العمل ـــ في الرؤية الكلية، أما في التفصيل؛ فسنتحدث عن عمل القائد في المؤسسة العسكرية، حيث يطلب منه أربع مهام في سياق تنفيذ المهمة الكلية التي تناط به، وهي في خلاصتها تمثل الهدف الرئيسي للحرب المتمثل ـــ في فرض إرادتنا على العدو وسلب إرادة القتال منه، هذه المهام المطلوبة من القائد هي على النحور الآتي: 

أولاً: مهام تعبوية: المقصود من مصطلح المهام التعبوية؛ هي تلك المهام التي يمارسها القائد خارج جدران مكتبه، إنها مهام ذات طابع ميداني عملي حركي، وليس مكتبي ورقي، وإن كانت في مقدماتها وبداياتها ونهاياتها؛ أعمال مكتبية ورقية أو ما يصطلح عليها في العلم العسكري أعمال ركنية. إذاً فالمهام التعبوية يمكن أن يختصر أهمها بالآتي: 

  1. عمليات الاستيعاب والدمج: إن أولى المهام التعبوية التي يطلب من القائد القيام بها عبر أذرعه التنفيذية، هي عمليات الاستيعاب والدمج للقدرات البشرية والمادية التي تُلحق به ويخول أمر قيادتها وتشغيلها في المهام التي يطلب منه القيام بها، إن هذه القدرات تأتي وتنتقل من عالم جديد إلى عالم آخر هو في مكان المجهول بالنسبة لها ـــ خاصة القدرات البشرية  ــ ومهمة القائد أن يرعى عملية استيعاب هذه القدرات وتوزيعها ودمجها ضمن تشكيله القتالي، بحيث يضع الرجل والأداة المناسبة في المكان المناسب، وأن يطمئن إلى حسن التحول والاندماج لهما في هذه البيئة الجديدة، وعليه أن يراقب سير عملية الاندماج تلك بحيث لا تشكل للوافد الجديد صدمة تقلل كفاءته وتذهب باندفاعته، أو تسلب الأداة القتالية ميزتها الفنية؛ بسبب عدم ملاءمتها للبيئة القتالية التي وضعت فيها. 

  2. التدريب والتأهيل: ثم يلي عملية الاستيعاب والدمج تلك؛ عمليات التدريب والتأهيل ورفع الكفاءة وجعلها ملائمة للبيئة الجديدة التي وضع فيها هذا الكادر، والتحقق من الكفاءة الفنية للوسيلة القتالية ضمن منظومة النار التي وضعت فيها. والتأهيل كما هو معروف يسير في ثلاث مراحل متتالية، يسلّم بعضها الراية لبعض، تبدأ هذه المراحل بالتدريب العمومي وهو مستوى التدريب الذي يطلب من كل منتسب للحياة العسكرية في أي صنف من صنوفها، فالكل هناك سواسية وكل يتلقى نفس العلوم والمعارف والمهارات، ثم تأتي عمليات توزيع القوات على التشكيلات، وهنا تبدأ مرحلة التدريب الثانية وهي التدريب التخصصي وهو مبني على تركيز الجهد على فن من فنون العمل العسكرية حيث يوضع الفرد، وهنا تبدأ هوية المقاتل بالتشكل والظهور، فهو جندي مشاة في العموم ولكنه قناص أو غواص أو رامي مدفعية في الخصوص، ثم تأتي بعد مرحلة التدريب التخصصي مرحلة التدريب الجماعي، فالجندي جزء من كل ولن يقاتل وحيداً وإنما ضمن تشكيل، وعليه أن يعرف مكانه ودوره في القتال مع هذا التشكيل، فيعرّف وظيفياً وتُسند له المهام ضمن التشكيل ويبدأ التدرب عليها، ويمكن في هذا السياق إضافة مرحلة رابعة للعملية التدريبية ألا وهي تدريب المهمة، عندما يُسند للتشكيل تنفيذ مهمة ما، فيشكل لها القائد تشكيلاً قتالياً ملائماً ومناسباً لها، ثم يبدأ هذا التشكيل الظرفي عملية التدريب على هذه المهمة، وبعد أن ينفذها؛ يُحَل ويعاد كل من منتسبيه إلى المكان الذي جاء منه. خلاصة القول في التدريب أن نجاحه متوقف على حسن فهم المهمة ومعرفة حدود القدرة المتوفرة تحت الإمرة. 

  3. النشر والتوضيع: وبعد أن تتم عمليات الاستيعاب والتدريب، تتم عملية نشر وموضعة هذه القوات والأدوات في مناطق المسؤولية أو العمليات، فيوضع التشكيل المناسب في المكان المناسب، وتُمَوضع القوات بما يحقق لها أفضلية تعبوية على ما نشرت في مواجهته من تهديدات، ولا يُغفَل عن تأمين أسباب الحماية من تجهيزات وتحصينات، وتزود القوات بما يلزم من تعليمات وتفوض ما يناسب الموقف من صلاحيات، وهي في تموضعها هذا إنما تشكل جزءاً من منظومة قتالية وشبكة نار كلية، محددٌ لها مكان المسؤولية، في عملية تكاملية يراها المستوى القيادي الكلي لوحة مكتملة المعالم معروفة المهام من أصغر وحدة فيها وهو الجندي والآلية، إلى أكبر تشكيل فيها ممثل بألوية وفرق وفيالق، وقد يعجز الجزء الصغير ــ الجندي أو الفصيل أو السرية ــ عن فهم هذه الصورة الكبيرة، ولكن لا بد للقائد من أن يحاول تبسيط المشهد، بحيث يرى أن نجاح المهمة يتوقف على نجاحه هو الجزء الصغير الموكول. 

نكتفي بهذا القدر من الحديث عن القائد ومهامه التعبوية، على أن نستكمل باقي المهام التعبوية للقائد الجزء الثالث من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى. 



جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023