22 أكتوبر 2024, الثلاثاء 1:49 م
بتوقيت القدس المحتلة
المستجدات
التهديد... !! 1/2

عبدالله أمين

خبير عسكري وأمني

بقلم: 
الخبير العسكري والأمني
 عبد الله أمين  

29 11 2021


إنه المصطلح الأكثر شيوعاً واستخداماً، عندما تتحدث عن الدول والكيانات السياسية عن سبب خروجها للحروب، أو المبادرة في تفعيل بعض قدراتها أو كلها، فكما أن الحكم متعلقٌ بمناطه؛ فإن كثيراً من سلوك العدو وما يفسر حركاته وسكناته؛ يمكن معرفته وتوقعه من خلال فهمه وتعريفه للتهديد والمخاطر الناتجة عنه، وكيف يراه ويتصور مواجهته، إنه ـــ التهديد ـ الذي يملي على الأطراف كيف تنسج تحالفاتها ومع من تعقد صداقاتها، من تحارب ومن تسالم، إن هذه المقالة ستتحدث عن هذا المصطلح، تعريفاً وما ينبني عليه من مقتضيات، وكيف تراه الدول والوحدات السياسية المستقلة المستقرة، وكيف تتعاطى معه وتفهمه حركات المقاومة والتحرر، آخذين بعين الاعتبار أن التهديد هذا الذي نتحدث عنه وما ينتج عنه من مخاطر؛ هو أمرٌ يشبه في ذاته إلى حد ما الكائن بشري، فيعتريه النقص والزيادة، ويتأثر بالمحيط والبيئة التي  يتحرك فيها، فهو يمكن أن يتطور مع الأيام فيتعاظم وتتعاظم مخاطره، ويمكن أن يتقلص مع مرور الزمن فيختفي ويضمحل، كما أنه قد يتأثر بظروفٍ سياسية وموضوعية تفرض عليه الجمود، فلا يزيد ولا ينقص، ولكنه يكمن انتظاراً لظرفٍ سياسي ومحرض خارجي، يخرجه عن جموده إلى عالم الفعل والانفعال، والأثر والتأثير. كما قلنا سنتحدث عن هذا الموضوع بعد تعريفه وتبيان أهم مقتضياته، ثم سنتحدث عن رؤية الدول والكيانات السياسية له وكيف تتعامل معه، ثم كيف تقاربه حركات المقاومة والتحرير، ثم نختم بطرق التعامل معه وكيفية إدارته، فنبدأ بتعريف التهديد وما يكسبه المصداقية ويضفي عليه هالة من الجدية والواقعية.  

تعريف التهديد: يمكن اختصار تعريف التهديد على أنه ذلك الشي الذي ينذِر به شخصٌ شخصاً آخر وما سينزله به من ضرر، أو يتوعد به كيان سياسي كياناً آخر من أضرار قادرٌ على إنزالها به، مسبباً له ــ للمُهدد ــ ضرراً مادياً أو معنوياً إن هو أقدم على فعل ما أو أحجم عن سلوك معين، تطالب بفعله أو تركه الجهة التي يصدر عنها التهديد. وحتى يكتسب هذا التهديد مصداقيته ويحقق الهدف الذي من أجله أُطلق وتُوعد به؛ لابد لمطلقه أو المتوعد به من أن يكون مالكاً من الوسائل المادية المعنوية والإرادة الذاتية والسوابق الفعلية؛ ما يفهم معه الطرف الواقع عليه التهديد أن ما يقال ويُتوعد به لن يبقى في عالم التهويش ولن يضيع في أودية الصراخ؛ وإنما سيخرج إلى حيز الفعل المادي الذي سينتج من الأضرار والمخاطر المادية والمعنوية ما لا يمكن تحمله أو التعايش معه، وما دون ذلك ــ امتلاك طرف التهديد وسائل وإرادة وسابقة فعل ـــ فإن عدم التهديد أولى وأجدى من التهديد، فقيمة التهديد تكمن في مصداقيته، فإن فقدها؛ فقد معها كل شيء، ولا يعدو أن يكون صرخةً في وادٍ ونفخاً في رماد.    

أما عن أهم المقتضيات التي تنبني على التهديد، وما يفرضه من سلوك على الوحدات السياسية والكيانات البشرية  فيمكن أن نختصره بالآتي:  

عقد التحالفات ونسج العلاقات والصداقات: إن أول مقتضيات التهديد وما تفرضه على الطرف الواقع عليه من سلوك هو مع من يعقد تحالفاته ويبني صداقاته، لذلك يعمد الطرف المهدَّد إلى جمع وإحصاء ما يملك من قدرات مادية وبشرية تمكنه من النهوض بشكل فاعل في وجه التهديد، ثم يحصي ما لا يملكه من تلك الإمكانيات، ليبحث عمن يعينه ويساعده في جسر الهوة وردمها بين الموجود فعلاً و المرجو أملاً، ليبدأ بعد ذلك مسار بناء التحالفات ونسج الصداقات، التي تعد من ضروريات الحياة ومتطلبات العمل السياسي، فلا يمكن أن تنهض أي دولة مهما علا شأنها وذاع صيتها وملكت من القدرات المادية والبشرية ما ملكت؛ لا يمكن لها أن تنهض في مواجهة التهديدات التي تعترض طريق تحقيق أهدافها دون أن تلجأ إلى دولة هنا أو دولة هناك؛ تطلب عونها وتنشد شد أزرها، مراعية أهمّ أصل من أصول بناء التحالفات والصداقات ألا وهو عدم ارتهان قرارها السياسي ورهنه بذلك التحالف أو تلك الصداقة، وهذا ــ بناء التحالفات ــ أمر يطول بحثه، وقد أتينا على بعض مضامينه في سلسلة مقالات تحت عنوان " في بناء التحالفات... الثوابت والمتغيرات " يمكن الرجوع لها للاطلاع أكثر على هذا الموضوع.  

1. ترتيب الأولويات وتخصيص القدرات: ومن المقتضيات التي يفرضها التهديد على الوحدات السياسية؛ دول وحركات؛ ترتيب الأولويات وتخصيص القدرات، فكما أن الدولة المنفردة أو الكيان السياسي المنفرد لا يمكن أن ينهض بالأعباء التي يفرضها عليه التهديد وحده، فيبحث عن حليف أو صديق، فإنه كذلك لا يمكن أن يملك من القدرات والإمكانيات ما يمكنّه من النهوض في وجه ما يعترضه من التهديدات والمخاطر الناتجة عنها، لذلك فإن إدارته للمخاطر والأزمات وما يملكه من قدرات وإمكانيات؛ تفرض عليه ترتيب أولوياته في التعاطي مع التهديدات التي تواجهه، فيقدّم هذا ويؤخر ذاك، ويخصص لهذا من القدرات مالا يخصصه لذاك، في عمليه إدارية تتداخل فيها كل مؤسسات الدولة أو مكونات الحركة إلى أن يتم حذف التهديد أو تجميد فعله وتقليص مخاطره، فترى الجهة المنوط بها إدارة الموقف؛ تقلص هنا لتحشد هناك، وتنفق هنا وتحجم عن الإنفاق هناك إلى أن يرتفع التهديد وتنكشف الغمة.  

2. محدد بناء وتطوير القدرات: كما أن مقتضيات التهديد أنه هو من يفرض على الدولة أو الكيان السياسي المسار الذي سيسير فيه في بناء القدرات وتطويرها، فالمراقب يرى دولاً تنفق معظم موازنتها الدفاعية مثلاً على بناء وتطوير قدراتها البرية، ولا تخصص للجوية منها إلا النزر القليل، أما عن القوات البحرية فقد لا تمتلك منها شيء بحكم عدم مشاطئتها لبحر أو نهر، كما يمكن ملاحظة أن دولاً مثلاً تخصص لقدراتها الصاروخية ما لا تخصصه لغيرها من القدرات، انطلاقا من أن ما يمكن أن يردع التهديد الموجه لها يمكن أن يتم عبر امتلاك مثل هذه القدرات، فيزيد من التركيز عليها من حيث المديات وقدرات التخريب ودقة الإصابة، مرسلاً عبر هذا السلوك رسالة لمن يهمه الأمر أن ما سيجنيه من مكاسب من أي اعتداء أقل بكثير مما سيتكبده من خسائر وأضرار، فيرتدع.  

3. خوض الحروب والصراعات وتحمل والأكلاف والتضحيات: 
ويفرض التهديد والمخاطر الناتجة عنه على الدول المستقلة المستقرة أو الحركات السياسية والتحريرية الطريق والسبيل الذي ستسلكه في التصدي للتهديد والوقوف في وجهه، فليس كل تهديد يتطلب الخروج له بحرب لا تبقي ولا تذر، وليس كل تهديد بعد تقدير مخاطره يتطلب تحمل أكلاف قرار خوض الحرب وتحمل آلامها، لذلك يجب على الدول والحركات السياسية التحريرية عندما ترتب قائمة التهديدات التي تشخص أمامها، يجب عليها أن تحدد أي هذه التهديدات التي لا يمكن تحمل مخاطره ويستأهل أن يؤخذ للوقوف في وجهه قرار الحرب، وعليها أيضاً أن تحدد خطوطاً حمراً لا يجب للتهديد الوصول لها، بل يجب ردعه ومنعه والتصدي له قبل أن يصل إلى هذه الخطوط، بل أكثر من ذلك؛ على الجهة أو الجهات المناط بها التعامل مع التهديدات والمخاطر الناتجة عنها أن تحدد أي التهديدات التي يجب ضربها في مهدها وفي عقر دارها قبل أن تتبلور وتصبح عصية على الكبح والتوقيف، مهما بلغ الثمن وغلت الأكلاف، حيث أن ثمن التصدي لبعض التهديدات وهي في عقر دارها وأثناء تشكلها؛ أقل بكثير مما لو تركت تنمو وتتشكل لتصبح عصية على القمع أو التوقيف، وفي هذا تفصيل يطول شرحه.  

والتهديد في أصل فعله والتوعد به وكيفية رؤيته، يختلف باختلاف الجهة التي خرج عنها وتوعدت به، والجهة التي وقع عليها ذاك التهديد وتُوعدت به، فلا تراه جميع التجمعات البشرية أو الوحدات و الحركات والمنظمات السياسية بنفس المنظار ولا تقيس مقدار المخاطر الناتجة عنه بنفس المقياس، وبالتالي لا ترى كيفية مواجهته والتصدي له بنفس المنظار ولا ترقبه من نفس الزاوية، فلكلٍ زاوية رؤيته وميزان قياسه ومعيار تقييمه وما ينبني عليه هذا التقييم، الأمر الذي سنتطرق له في الجزء الثاني من هذه المقالة؛ حيث سنتحدث بما يسمح به الموقف عن كيفية رؤية الدول والوحدات السياسية المستقلة المستقرة للتهديد وما هو المعيار الذي تبني عليه تعريف السلوك المقابل، بأنه تهديد تنجم عنه مخاطر يجب التفكير في وضع آليات، وتخصيص قدرات لمواجهته والقضاء عليه.  


جميع الحقوق محفوظة لـمركز حضارات للدراسات السياسية والإستراتيجية © 2023